الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل
.باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ أَكْلِ رَسُولِ اللَّهِ: وَفِي نُسْخَةٍ: «أَكْلِ النَّبِيِّ» (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْأَكْلُ إِدْخَالُ غَيْرِ الْمَائِعِ مِنَ الْفَمِ إِلَى الْمَعِدَةِ، وَالشُّرْبُ إِدْخَالُ الْمَائِعِ مِنْهُ إِلَيْهَا.(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعْدِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَفِي نُسْخَةٍ: سَعِيدِ، وَهُوَ سَهْوٌ قَالَهُ مِيرَكُ (بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) قَالَ مِيرَكُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالشَّكِّ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُمَا ثِقَتَانِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَيُقَالُ لِعَبْدِ اللَّهِ رُؤْيَةٌ وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، وَيُقَالُ: وُلِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ الْأَنْصَارِيِّ السَّلَمِيِّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمَدَنِيِّ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَلْعَقُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ يَلْحَسُ (أَصَابِعَهُ) أَيْ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَا فِي الْأَثْنَاءِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَيُسَنُّ قَبْلَ الْمَسْحِ أَوِ الْغَسْلِ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَكْلِ لَعْقُهَا؛ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا، مُحَافَظَةً عَلَى الْبَرَكَةِ، وَتَنْظِيفًا لَهَا، لَا فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَقْذِيرَ الطَّعَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَلْعَقُ أَوْ يُلْعِقُ أَيْ يُلْعِقُهَا غَيْرَهُ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ مَنْ لَا يَتَقَذَّرُهُ، مِنْ نَحْوِ وَلَدٍ وَخَادِمٍ، وَزَوْجَةٍ يُحِبُّونَهُ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ بَرَكَةً، لِحَدِيثِ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامَهُ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيَّتِهِنَّ الْبَرَكَةُ»، أَيْ لَا يَعْلَمُ الْبَرَكَةَ فِي أَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَلَيْسَ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ وَقَدَّرَهُ بِمَا يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ فِي أَيِّ طَعَامِهِنَّ الْبَرَكَةُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَحَلَّ الْبَرَكَةِ الطَّعَامُ، لَا مُجَرَّدُ الْإِصْبَعِ، فَتَأَمَّلْ (ثَلَاثًا) قَالَ الْحَنَفِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ ثَلَاثًا قَيْدُ اللَّعْقِ، أَيْ يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ ثَلَاثَ لَعَقَاتٍ، بِأَنْ يَلْعَقَ كُلًّا مِنْ أَصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مُبَالَغَةً فِي التَّنْظِيفِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ جَعْلَهُ لِلْأَصَابِعِ بَعِيدٌ، وَإِنْ كَانَ تُلَائِمُهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ كَانَ يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ: يُؤْخَذُ مِنْهُ تَثْلِيثُ اللَّعْقِ فِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ، كَمَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ، وَإِنَّ اللَّعْقَ ثَلَاثٌ لِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثِ، كَمَا بَيَّنَتْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الرِّوَايَتَانِ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ لِلْأُولَى عَنْ ظَاهِرِهَا انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ مِيرَكُ، مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ ثَلَاثًا مِنَ الْأَصَابِعِ، لِيُوَافِقَ رِوَايَةَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، وَمَنْ جَعَلَهُ قَيْدًا لِيَلْعَقَ، وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ يَلْعَقُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ أَصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدْ أَبْعَدَ الْمَرَامَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ التَّصْرِيحُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِلَعْقِ أَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الطُّرُقِ، فَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَيْهَا جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَالْمُجْمَلِ عَلَى الْمُبَيِّنِ، لَاسِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ الرَّاوِي، وَهُوَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ، كَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَيَلْعَقُهُنَّ. فَكَانَتْ رِوَايَتُهُ مُفَسِّرَةً لِرِوَايَتِهِ الْأُولَى. قُلْتُ: فِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ، كَمَا سَيَأْتِي بِهِ تَصْرِيحًا وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ يَأْكُلُ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ، وَالْحَرِيصَ يَأْكُلُ بِالْخَمْسِ، وَيَدْفَعُ بِالرَّاحَةِ، وَأَشْرَفُ مَا يَكُونُ الْأَكْلُ بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ وَلَعْقِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ وَمَا لَعِقَهَا ثَلَاثًا، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَعَارَفٍ، فَفِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الشَّرَهِ وَالْخِسَّةِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ مِيرَكَ مَا فِي الْأَصْلِ (قَالَ أَبُو عِيسَى) يَعْنِي الْمُصَنِّفَ (وَرَوَى غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ هَذَا الْحَدِيثَ، قَالَ: كَانَ يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ) أَيِ الْإِبْهَامَ وَالْمُسَبِّحَةَ وَالْوُسْطَى. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: صِفَةُ لَعْقِ الْأَصَابِعِ وَلَفْظُهُ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ: الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا وَالْوُسْطَى، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا، الْوُسْطَى ثُمَّ الَّتِي تَلِيهَا ثُمَّ الْإِبْهَامَ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ الْوُسْطَى أَكْثَرُ تَلْوِيثًا؛ لِأَنَّهَا أَطْوَلُ فَيَبْقَى مِنَ الطَّعَامِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّهَا لِطُولِهَا أَوَّلُ مَا يَقَعُ فِي الطَّعَامِ، أَوْ لِأَنَّ الَّذِي يَلْعَقُ الْأَصَابِعَ يَكُونُ بَطْنُ كَفِّهِ إِلَى جِهَةِ وَجْهِهِ، فَإِذَا ابْتَدَأَ بِالْوُسْطَى انْتَقَلَ إِلَى السَّبَّابَةِ، إِلَى جِهَةِ يَمِينِهِ، ثُمَّ إِلَى الْإِبْهَامِ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: جَاءَتْ عِلَّةُ لَعْقِ الْأَصَابِعِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ، وَقَدْ يُعَلَّلُ بِأَنَّ مَسْحَهَا قَبْلَ لَعْقِهَا فِيهِ زِيَادَةُ تَلْوِيثٍ، لِمَا يَمْسَحُ بِهِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالرِّيقِ، لَكِنْ إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ انْتَهَى. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ تَعْلِيلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَنْقُولٌ وَالْآخَرُ مَعْقُولٌ، ثُمَّ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَلَفْظُهُ: «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ مَا أَصَابَهَا مِنْ أَذًى، وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَمْسَحَ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ». وَزَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يَرْفَعُ الصَّحْفَةَ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ بِلَفْظِ: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ يُبَارَكُ لَهُ». وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْعَسْقَلَانِيَّ قَالَ: وَالْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تَمْنَعُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْحُكْمِ عِلَّتَانِ فَأَكْثَرُ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى وَاحِدَةٍ لَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ، وَقَدْ أَبْدَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عِلَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَهَاوَنَ بِقَلِيلِ الطَّعَامِ. قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ تُسْتَفَادَ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ الْبَرَكَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاضِيَ يُرِيدُ أَنْ لَا يُتَهَاوَنَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ احْتِمَالِ كَوْنِهَا مَحَلَّ الْبَرَكَةِ الْكَثِيرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ، أَنَّ لِلطَّعَامِ الَّذِي يَحْضُرُ الْإِنْسَانَ فِيهِ بَرَكَةٌ لَا يَدْرِي أَنَّ تِلْكَ الْبَرَكَةَ فِيمَا أَكَلَ، أَوْ فِيمَا بَقِيَ عَلَى أَصَابِعِهِ، أَوْ فِيمَا بَقِيَ بِأَسْفَلِ الْقَصْعَةِ، أَوْ فِي اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ؛ لِتَحْصِيلِ الْبَرَكَةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ وَقَعَ لِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ. إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ، فَلْيُمِطْ بِهَا مَا كَانَ مِنْ أَذًى، ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعَهَا لِلشَّيْطَانِ. وَلَهُ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثٍ حَسَنٍ، وَأَمَرَ بِأَنْ يَسْلِتَ الْقَصْعَةَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: السَّلْتُ تَتَبُّعُ مَا يَبْقَى فِيهَا مِنَ الطَّعَامِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّغْذِيَةُ، وَتَسْلَمُ عَاقِبَتُهُ مِنَ الْأَذَى، وَيَقْوَى عَلَى الطَّاعَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ لَعْقَ الْأَصَابِعِ اسْتِقْذَارًا. نَعَمْ. يَحْصُلُ ذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُ أَصَابِعَهُ فِي الطَّعَامِ، وَعَلَيْهَا أَثَرُ رِيقِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَابَ قَوْمٌ أَفْسَدَ عَقْلَهُمُ التَّرَفُّهُ، أَنَّ لَعْقَ الْأَصَابِعِ مُسْتَقْبَحٌ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي عَلِقَ بِالْأَصَابِعِ أَوِ الصَّحْفَةِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَا أَكَلُوهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَائِرُ أَجْزَائِهِ مُسْتَقْذَرًا، لَمْ يَكُنِ الْجُزْءُ الْبَاقِي مِنْهُ مُسْتَقْذَرًا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ مَصِّهِ أَصَابِعَهُ بِبَطْنِ شَفَتَيْهِ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَقَدْ يَتَمَضْمَضُ الْإِنْسَانُ فَيُدْخِلُ إِصْبَعَهُ فِي فِيهِ فَيُدَلِّكُ أَسْنَانَهُ وَبَاطِنَ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ ذَلِكَ قَذَارَةٌ، أَوْ سُوءُ أَدَبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنِ اسْتَقْذَرَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا مَعَ نِسْبَتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَّا خُشِيَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ إِذْ مَنِ اسْتَقْذَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ، وَيُسَنُّ لَعْقُ الْإِنَاءِ لِخَبَرِ أَحْمَدَ وَالْمُصَنِّفِ، وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ شَاهِينَ، وَالدَّارِمِيِّ وَغَيْرِهِمْ: «مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ ثُمَّ لَحَسَهَا اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ». وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ: «مَنْ أَكَلَ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْخِوَانِ أَوِ الْقَصْعَةِ أَمِنَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ، وَصُرِفَ عَنْ وَلَدِهِ الْحُمْقُ». وَلِلدَّيْلَمِيِّ: «مَنْ أَكَلَ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْمَائِدَةِ خَرَجَ وَلَدُهُ صِبَاحَ الْوُجُوِهِ، وَنُفِيَ عَنْهُ الْفَقْرُ»، وَأَوْرَدَهُ فِي الْإِحْيَاءِ بِلَفْظِ عَاشَ فِي سَعَةٍ، وَعُوفِيَ فِي وَلَدِهِ، وَالثَّلَاثَةُ مَنَاكِيرٌ، قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ، مَنْ لَعِقَ الصَّحْفَةَ، وَلَعِقَ أَصَابِعَهُ أَشْبَعَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ الْعِرْبَاضِ، وَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ جَائِزٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ. (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلَّالُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ الْخَلِّ أَوِ الْخِلَالِ (حَدَّثَنَا عَفَّانُ) بِلَا صَرْفٍ، وَقَدْ يُصْرَفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِعْلَانُ مِنَ الْعِفَّةِ، أَوْ فَعَّالٌ مِنَ الْعُفُونَةِ (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ) بِكَسْرِ عَيْنِهِ أَيْ لَحِسَ (أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ). (حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ) بِالْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: زَيْدٍ، وَهُوَ سَهْوٌ (الصُّدَائِيُّ) بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً إِلَى صُدَاءٍ مَمْدُودَةٌ قَبِيلَةٌ (الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ يَعْنِي الْحَضْرَمِيَّ) وَهُوَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْعَشَرَةِ (أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَفَسَّرَ الْأَكْثَرُونَ، الِاتِّكَاءَ بِالْمَيْلِ عَلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْآكِلِ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مَجْرَى الطَّعَامِ الطَّبِيعِيِّ عَنْ هَيْئَتِهِ، وَيَعُوقُهُ عَنْ سُرْعَةِ نُفُوذِهِ إِلَى الْمَعِدَةِ، وَيَضْغَطُ الْمَعِدَةَ فَلَا يَسْتَحْكِمُ فَتْحُهَا لِلْغِذَاءِ. وَنُقِلَ فِي الشِّفَاءِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوهُ بِالتَّمَكُّنِ لِلْأَكْلِ، وَالْقُعُودِ فِي الْجُلُوسِ، كَالْمُتَرَبِّعِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى وَطَاءٍ تَحْتَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ تَسْتَدْعِي كَثْرَةَ الْأَكْلِ، وَتَقْتَضِي الْكِبْرَ. وَوَرَدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ زَجْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عِنْدَ الْأَكْلِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ النَّخَعِيِّ، كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مُتَّكِئِينَ، مَخَافَةَ أَنْ يُعَظِّمَ بُطُونَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ لِلْأَكْلِ مُتَوَرِّكًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَضَعُ بَطْنَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَدَبًا بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ أَنْفَعُ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ وَأَفْضَلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَكُونُ عَلَى وَضْعِهَا الطَّبِيعِيِّ الَّذِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الِاتِّكَاءِ زِيَادَةُ التَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ رَفْعُهُ (نَحْوَهُ) أَيْ مِثْلَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ مَعْنًى مَعَ اخْتِلَافِهِ لَفْظًا هَذَا، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ أَوَّلَ الْبَابِ أَوْ آخِرَهُ، لِئَلَّا يَقَعَ فَصْلٌ بِالْأَجْنَبِيِّ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْأَكْلِ بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ وَلَعْقِهِنَّ. (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ) بِسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ (بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنِ ابْنٍ) بِالتَّنْوِينِ لِلتَّنْكِيرِ (لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ كَعْبٍ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَيَلْعَقُهُنَّ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ يَلْحَسُهُنَّ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ الْأَكْلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، وَلَا يَضُمُّ إِلَيْهَا الرَّابِعَةَ وَالْخَامِسَةَ، إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَقَدْ قِيلَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رُبَّمَا يَسْتَعِينُ فِي الْأَكْلِ بِرَابِعِ أَصَابِعِهِ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ بِإِصْبَعَيْنِ، وَقَالَ: الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ بِهِمَا. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَلَ أَكَلَ بِخَمْسٍ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْقَلِيلِ النَّادِرِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ عَلَى الْمَائِعِ، فَإِنَّ عَادَتَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ هُوَ الْأَكْلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَلَعْقُهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ، قِيلَ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ الْأَنْفَعُ إِذِ الْأَكْلُ بِإِصْبَعٍ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الْمُتَكَبِّرِينَ لَا يَسْتَلِذُّ بِهِ الْآكِلُ، وَلَا يَسْتَمْرِي بِهِ لِضَعْفِ مَا يَنَالُهُ مِنْهُ كُلَّ مَرَّةٍ، فَهُوَ كَمَنْ أَخَذَ حَقَّهُ حَبَّةً حَبَّةً، وَبِالْإِصْبَعَيْنِ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الشَّيْطَانِ، لَيْسَ فِيهِ اسْتِلْذَاذٌ كَامِلٌ مَعَ أَنَّهُ يُفَوِّتُ الْفَرْدِيَّةَ، وَاللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَبِالْخَمْسِ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الْحَرِيصِينَ وَالْمُنْتَجِعِينَ يُوجِبُ ازْدِحَامَ الطَّعَامِ عَلَى مَجْرَاهُ، مِنَ الْمَعِدَةِ، فَرُبَّمَا انْسَدَّ مَجْرَاهُ، فَأَوْجَبَ الْمَوْتَ فَوْرًا وَفَجْأَةً. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سُلَيْمٍ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ جِيءَ (بِتَمْرٍ فَرَأَيْتُهُ يَأْكُلُ) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ (وَهُوَ مُقْعٍ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِقْعَاءِ، أَيْ جَالِسٌ عَلَى وَرِكَيْهِ، وَهُوَ الِاحْتِبَاءُ الَّذِي هُوَ جِلْسَةُ الْأَنْبِيَاءِ، (مِنَ الْجُوعِ) أَيْ لِأَجْلِهِ يَعْنِي أَنَّ إِقْعَاءَهُ كَانَ لِأَجْلِ جُوعِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَأْكُلُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَهُوَ مُحْتَفِزٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْإِقْعَاءُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يُلْصِقَ الرَّجُلُ أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَتَسَانِدَ ظَهْرَهُ، قَالَ: وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الْإِقْعَاءُ الْمَنْهِيُّ لِلصَّلَاةِ هُوَ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي النِّهَايَةِ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ مُقْعِيًا، أَيْ كَانَ يَجْلِسُ عِنْدَ الْأَكْلِ عَلَى وَرِكَيْهِ مُسْتَوْفِزًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ، وَتَبِعَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ جَالِسًا عَلَى أَلْيَتَيْهِ نَاصِبًا سَاقَيْهِ، وَالِاسْتِيفَازُ الِاسْتِعْجَالُ مِنَ اسْتَفَزَّهُ، إِذَا حَرَّكَهُ وَأَزْعَجَهُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِفْعَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ مِيرَكَ: افْتِعَالٌ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ مِنَ الِاسْتِعْجَالِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: وَكَرِهَ الْإِقْعَاءَ: الْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الْإِقْعَاءِ أَنَّهُ الْجُلُوسُ عَلَى الْوَرِكَيْنِ وَنَصْبُ الْفَخِذَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ هَكَذَا يُقْعِي، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَزَادَ فِيهِ شَيْئًا آخَرَ، وَهُوَ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنْ يَفْرِشَ رِجْلَيْهِ وَيَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَثَالِثٍ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ وَيَقْعُدَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَغَلَطٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْإِقْعَاءَ سُنَّةُ نَبِيِّنَا، وَفَسَّرَ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا قَالَ: وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، فَالْإِقْعَاءُ ضَرْبَانِ مَكْرُوهٌ، وَغَيْرُ مَكْرُوهٍ انْتَهَى. وَمَحَلُّهُ بَابُ الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ جَالِسٌ عَلَى أَلْيَتَيْهِ نَاصِبٌ سَاقَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِقْعَاءُ الْمَكْرُوهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُكْرَهْ هُنَا؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْكِلَابِ، وَهُنَا تَشَبُّهٌ بِالْأَرِقَّاءِ فَفِيهِ غَايَةُ التَّوَاضُعِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ هَيْئَتَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرُ مُتَكَلِّفٍ وَلَا مُعْتَنٍ بِشَأْنِ الْأَكْلِ، وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِقْعَاءُ لَهُ مَعَانٍ فَيُحْمَلُ إِقْعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ جُلُوسِهِ عِنْدَ أَكْلِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الِاحْتِبَاءُ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَفِي الْقَامُوسِ أَقْعَى فِي جُلُوسِهِ، أَيْ تَسَانَدَ إِلَى مَا وَرَائَهُ، وَحِينَئِذٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ عَنِ اللُّغَوِيِّينَ بِالْجَمْعِ، بَيْنَ هَيْئَةِ الِاحْتِبَاءِ، وَالتَّسَانُدِ إِلَى الْوَرَاءِ، فَمَعْنَى مُقْعٍ مِنَ الْجُوعِ مُحْتَبِيًا، مُسْتَنِدًا لِمَا وَرَائَهُ مِنَ الضَّعْفِ الْحَاصِلِ لَهُ بِسَبَبِ الْجُوعِ، وَبِمَا تَقَرَّرَ، تَحَرَّرَ أَنَّ الِاسْتِنَادَ لَيْسَ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الْأَكْلِ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا لِذَلِكَ الضَّعْفِ الْحَاصِلِ لَهُ، الْحَامِلِ عَلَيْهِ. .باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ خُبْزِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَزَعَمَ أَنَّ فِي التَّرْجَمَةِ حَذْفًا، أَيْ خُبْزِ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُطَابِقَ الْحَدِيثَ- بَاطِلٌ عَلَى أَنَّا وَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلًا فِيهِمْ، فَالتَّرْجَمَةُ لَا حَذْفَ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَا يَأْكُلُهُ عِيَالُهُ يُسَمَّى خُبْزَهُ، وَيَكُونُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ.(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ) أَيِ ابْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيُّ أَبُو بَكْرٍ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ الثَّالِثَةِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ (يُحَدِّثُ عَنِ الِأَسْوَدِ) هُوَ أَخُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّاوِي عَنْهُ (بْنِ يَزِيدَ) أَيِ ابْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيُّ أَبُو عُمَرَ أَوْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مُخَضْرَمٌ ثِقَةٌ، مُكْثِرٌ فَقِيهٌ مِنَ الثَّانِيَةِ، عَلَى مَا فِي التَّقْرِيبِ (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ) أَيْ أَهْلُ بَيْتِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَعْنِي عِيَالَهُ الَّذِينَ كَانُوا فِي مُؤْنَتِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَفْظَ الْآلِ مُقْحَمٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ؛ لِإِسْنَادِهِ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بِهِ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ التَّرْجَمَةِ أَيْضًا (مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ) وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا التَّقْيِيدُ بِثَلَاثِ لَيَالٍ، لَكِنْ فِيهَا: «مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ»، فَلَا تَنَافِيَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيَّامِ الْأَيَّامُ بِلَيَالِيهَا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّيَالِي هُنَاكَ اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا، وَنَظِيرُهُ فِي التَّنْزِيلِ: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، (مُتَتَابِعِينَ) وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَشْبَعُ يَوْمَيْنِ، لَكِنْ غَيْرَ مُتَوَالِيَيْنِ (حَتَّى قُبِضَ) أَيْ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَمَاتَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِمْرَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ بِمَا فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْأَسْفَارِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْغَزْوِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ تَشَرَّفَتْ بِمُلَازَمَتِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ صَرَّحَتِ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ عَنْهَا بِلَفْظِ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهَا: الْمَدِينَةَ، يُخْرِجُ مَا كَانُوا فِيهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَقَوْلُهَا: مِنْ طَعَامِ بُرٍّ، يُخْرِجُ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ. وَقَوْلُهَا: تِبَاعًا، يُخْرِجُ التَّفَارِيقَ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ: «مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلَّا وَإِحْدَاهُمَا تَمْرٌ». قَالَ الشَّيْخُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّمْرَ كَانَ أَيْسَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ رُبَّمَا لَمْ يَجِدُوا فِي الْيَوْمِ إِلَّا أَكْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ وَجَدُوا أَكْلَتَيْنِ، فَإِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ مِسْعَرٍ بِلَفْظِ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ، إِلَّا وَإِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: «خَرَجَ- تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَمْلَأْ بَطْنَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ طَعَامَيْنِ، كَانَ إِذَا شَبِعَ مِنَ التَّمْرِ، لَمْ يَشْبَعْ مِنَ الشَّعِيرِ، وَإِذَا شَبِعَ مِنَ الشَّعِيرِ، لَمْ يَشْبَعْ مِنَ التَّمْرِ». وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَدْ يُنَافِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدَّخِرُ قُوتَ عِيَالِهِ سَنَةً. وَيُجَابُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوَاخِرَ حَيَاتِهِ، لَكِنْ تَعْرِضُ عَلَيْهِ حَوَائِجُ الْمُحْتَاجِينَ، فَيُخْرِجُهُ فِيهَا، فَصَدَقَ عَلَيْهِ، أَنَّهُ ادَّخَرَ قُوتَ سَنَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَشْبَعُوا كَمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مَا ادَّخَرَ لَهُمْ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ تَضْيِيقَ الْحَالِ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ تَعُمُّ الْأَحْوَالَ، فَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَدَّخِرُ قُوتَهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ الشِّبَعِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدَّخِرُ لِنَفْسِهِ فَمَا كَانُوا يَشْبَعُونَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَشْبَعُونَ مِنَ الْقِلَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَادَتُهُمْ عَدَمَ الشِّبَعِ، نَعَمْ. مَا كَانُوا يَجِدُونَ مِنْ لَذِيذِ الْأَطْعِمَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الشِّبَعِ غَالِبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرَ شَعِيرٍ فِي زِقٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ. (حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَفَتْحِ كَافٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أَبِي بَكْرَةَ (حَدَّثَنَا حَرِيزُ) بِفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَكَسْرِ رَاءٍ، وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَزَايٍ (بْنُ عُثْمَانَ عَنْ سُلَيْمِ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْبَاهِلِيُّ (يَقُولُ: مَا كَانَ يَفْضُلُ) بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَزِيدُ (عَنْ) وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى (أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزُ الشَّعِيرِ) كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ شِبَعِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمَعْنَى لَمْ يَكْثُرْ مَا يَجِدُونَهُ، وَلَا يَخْبِزُونَهُ مِنَ الشَّعِيرِ عِنْدَهُمْ، حَتَّى يَفْضُلَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، بَلْ كَانُوا مَا يَجِدُونَهُ لَا يُشْبِعُهُمْ فِي الْأَكْثَرِ. قَالَ مِيرَكُ: أَيْ كَانَ لَا يَبْقَى فِي سُفْرَتِهِمْ فَاضِلًا عَنْ مَأْكُولِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَفَعَ عَنْ مَائِدَتِهِ كِسْرَةَ خُبْزٍ فَضْلًا حَتَّى قُبِضَ. قَالَ: وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَشْبَعُونَ مِنْ ذَلِكَ الْخُبْزِ، بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: لَمَّا كَانَ مُحْتَمَلًا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْحَالُ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ، فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ الْأَجْمَلُ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ) بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ مِيمٍ، (حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى (عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ) بِالنَّصْبِ فِيهِمَا أَيْ يَسْتَمِرُّ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي عَلَى نَعْتِ التَّوَالِي (طَاوِيًا) أَيْ خَالِيَ الْبَطْنِ جَائِعًا، قَالَ مِيرَكُ: الطَّوَى الْجُوعُ، طَوِيَ بِالْكَسْرِ يَطْوِي، طَوَى إِذَا جَاعَ فَهُوَ طَاوٍ وَطَيَّانٌ أَيْ: جَائِعٌ، وَطَوَى بِالْفَتْحِ يَطْوِي طَيًّا إِذَا جَوَّعَ نَفْسَهُ قَصْدًا، يُقَالُ: فُلَانٌ يَطْوِي لَيَالِيَ وَأَيَّامًا (هُوَ وَأَهْلُهُ) أَيْ عِيَالُهُ، وَيُكْنَى عَنِ الزَّوْجَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} وَتَأَهَّلَ: تَزَوَّجَ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ: سُكَّانُهُ، كَمَا فِي الْمُغْرِبِ (لَا يَجِدُونَ) أَيْ لَا يَجِدُ الرَّسُولُ وَأَهْلُهُ (عَشَاءً) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْعِشَاءِ بِالْكَسْرِ، وَالْمَعْنَى لَا يَجِدُونَ مَا يَأْكُلُونَهُ فِي اللَّيْلِ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ (وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ). (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (قِيلَ لَهُ) أَيْ لِسَهْلٍ (أَكَلَ) قَالَ مِيرَكُ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ بِحَذْفِ أَدَاتِهِ انْتَهَى. وَفِي نُسْخَةٍ أَكَلَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيَّ) بِفَتْحِ نُونٍ وَكَسْرِ قَافٍ، وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ: الدَّرْمَكَةُ، وَهُوَ الْخُبْزُ النَّقِيُّ عَنِ النُّخَالَةِ، وَيُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ: مَيْدَهْ (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ سُهِّلَ بِالنَّقْيِ (الْحُوَّارَى) تَفْسِيرٌ لِلنَّقِيِّ أَدْرَجَهُ الرَّاوِي فِي الْخُبْزِ، وَالْحُوَّارَى بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، وَزَعْمُ تَشْدِيدِ الْيَاءِ خَطَأٌ، الَّذِي نُخِلَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، مِنَ التَّحْوِيرِ وَهُوَ التَّبْيِيضُ (فَقَالَ سَهْلٌ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيَّ) أَيْ مَا رَآهُ فَضْلًا عَنْ أَكْلِهِ، فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى (حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) كِنَايَةً عَنْ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ رُوحِهِ تَأَهَّلَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَرُؤْيَتِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْغَايَةِ بِمَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ رُؤْيَتِهِ عَدَمُ وُجُودِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ (فَقِيلَ لَهُ) أَيْ لِسَهْلٍ (هَلْ كَانَتْ لَكُمْ) لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ قُطَّانُ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ (مَنَاخِلُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، جَمْعُ مُنْخُلٍ بِضَمَّتَيْنِ آلَةُ النَّخْلِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، وَفَتْحُ الْخَاءِ لُغَةٌ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فِي زَمَانِهِ (قَالَ: مَا كَانَتْ لَنَا مَنَاخِلُ) فِيهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْجَمْعِ نَفْيُ الْمُفْرَدِ، وَالْمُرَادُ مَا كَانَتْ لَنَا مَنَاخِلُ فِي عَهْدِهِ؛ لِيُطَابِقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ، وَلِيُوَافِقَ مَا فِي الْوَاقِعِ، إِذْ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ مَنَاخِلُ، مِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى حَالِهِ؛ وَلِذَا قِيلَ: الْمُنْخُلُ أَوَّلُ بِدْعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ، إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ، وَفِي غَيْرِهِمْ (فَقِيلَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِالشَّعِيرِ) أَيْ بِدَقِيقِهِ مَعَ كَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ النُّخَالَةِ (قَالَ: كُنَّا نَنْفُخُهُ) بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ نُطَيِّرُهُ إِلَى الْهَوَاءِ بِالْيَدِ، أَوْ بِغَيْرِهَا (فَيَطِيرُ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الشَّعِيرِ مَا طَارَ، مِمَّا فِيهِ خِفَّةٌ كَالتِّبْنِ، وَيَبْقَى مَا فِيهِ رَزَانَةٌ كَالدَّقِيقِ (ثُمَّ نَعْجِنُهُ) بِفَتْحِ النُّونِ فَكَسْرِ الْجِيمِ. وَفِي هَذَا بَيَانُ تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّكَلُّفَ وَالِاهْتِمَامَ بِشَأْنِ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْتَنِي بِهِ إِلَّا أَهْلُ الْحَمَاقَةِ وَالْغَفْلَةِ وَالْبِطَالَةِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلٍ نَحْوَ رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَرُوِيَ عَنْ سَهْلٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْخُلًا مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَظُنُّ أَنَّ سَهْلًا احْتَرَزَ عَمَّا كَانَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجَّهَ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ مَرَّتَيْنِ إِلَى جَانِبِ الشَّامِ، تَاجِرًا وَوَصَلَ إِلَى بُصْرَى وَحَضَرَ فِي ضِيَافَةِ بَحِيرَا الرَّاهِبِ، وَكَانَتِ الشَّامُ إِذْ ذَاكَ مَعَ الرُّومِ، وَالْخُبْزُ النَّقِيُّ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا بَعْدَ ظُهُورِ النُّبُوَّةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْمَدِينَةِ، وَقَدِ اشْتَهَرَ أَنَّ سَبِيلَ الْعَيْشِ صَارَ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، اضْطِرَارًا وَاخْتِيَارًا. وَلَوْ قِيلَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجَّهَ فِي أَوَاخِرِ سِنِيِّ الْهِجْرَةِ إِلَى غَزْوِ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَوَصَلَ إِلَى تَبُوكَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ الشَّامِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَأَى النَّقِيَّ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ أَيْضًا. أُجِيبَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْتَحْ تِلْكَ الْكُورَةَ، وَلَا طَالَتْ إِقَامَتُهُ فِيهَا، وَلَمْ يَنْقُلْ أَرْبَابُ السِّيَرِ أَنَّ قَافِلَةَ الشَّامِ جَاءَتْ إِلَى تَبُوكَ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلًا فِيهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَ سَهْلٍ رُؤْيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمَلِهِ، لَا إِلَى مَا فِي الْوَاقِعِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ وَارِدٌ أَصْلًا، وَرَوَى الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: «قُوتُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ»، وَحَكَى الْبَزَّارُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَصَاحِبِ النِّهَايَةِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُ تَصْغِيرُ الْأَرْغِفَةِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الدَّيْلَمِيِّ: «صَغِّرُوا الْخُبْزَ وَأَكْثِرُوا عَدَدَهُ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ». فَإِنَّهُ وَاهٍ وَمِنْ ثَمَّةَ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَمِنْ خَبَرِ: «الْبَرَكَةُ فِي صِغَرِ الْقُرْصِ» فَإِنَّهُ كَذِبٌ. كَمَا نُقِلَ عَنِ النَّسَائِيِّ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي) قَالَ مِيرَكُ: هُوَ هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ (عَنْ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عُبَيْدٌ الْبَصْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْإِسْكَافِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي (عَنْ قَتَادَةَ) اعْلَمُ أَنَّ رِوَايَةَ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ مِنْ قَبِيلِ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِشَامٌ مِنَ الْمُكْثِرِينَ عَنْ قَتَادَةَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْهُ، وَسَمِعَهُ مِنْ يُونُسَ عَنْهُ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مَا أَكَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ) الْمَشْهُورُ فِيهِ كَسْرُ الْمُعْجَمَةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، وَهُوَ الْمَائِدَةُ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا طَعَامٌ، وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ إِخْوَانٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَعَلَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ الْإِخْوَانِ وَالْأَصْحَابِ عِنْدَهَا، وَحَوْلَهَا وَقِيلَ: سُمِّيَ خِوَانًا؛ لِأَنَّهُ يُتَخَوَّنُ مَا عَلَيْهِ أَيْ يُنْتَقَصُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْخِوَانُ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُطْلَقُ الْخِوَانُ فِي الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا لَهُ أَرْجُلٌ، وَيَكُونُ مُرْتَفِعًا عَنِ الْأَرْضِ وَاسْتِعْمَالُهُ لَمْ يَزَلْ مِنْ دَأْبِ الْمُتْرَفِينَ، وَصَنِيعِ الْجَبَّارِينَ لِئَلَّا يَفْتَقِرُوا إِلَى خَفْضِ الرَّأْسِ عِنْدَ الْأَكْلِ، فَالْأَكْلُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ، لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ (وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَقَدْ تُفْتَحُ الرَّاءُ، إِنَاءٌ صَغِيرٌ يُؤْكَلُ فِيهِ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنَ الْإِدَامِ، وَهِيَ فَارِسِيَّةُ وَأَكْثَرُ مَا يُوضَعُ فِيهَا الْكَوَامِيخُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَشْتَهِي وَيَهْضِمُ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ فَتْحُ رَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ عَنْ مَفْتُوحِهَا، قَالَ مِيرَكُ: جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الرَّاءَ فِي سُكُرُّجَةٍ مَضْمُومَةٌ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ مَكِّيٍّ أَنَّهُ صَوَّبَ فَتْحَ الرَّاءِ، وَالْعَرَبُ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الْكَوَامِيخِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْجُوَارِشَاتِ، وَالْمُخَلَّلَاتِ عَلَى الْمَوَائِدِ، حَوْلَ الْأَطْعِمَةِ لِلتَّشَهِّي وَالْهَضْمِ، قِيلَ: لَمْ يَأْكُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السُّكُرُّجَةِ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا مُعْتَادُ أَهْلِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُخْلِ، انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ مِنْ دَأْبِ الْمُتْرَفِينَ وَعَادَةِ الْحَرِيصِينَ عَلَى الْأَكْلِ الْمُفْرِطِينَ (وَلَا خُبِزَ) مَاضٍ مَجْهُولٍ (لَهُ) أَيْ لِأَجْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مُرَقَّقٌ) مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مُرَقَّقًا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، فَالْجَارُّ هُوَ النَّائِبُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ مُلَيَّنٌ مُحَسَّنٌ، كَخُبْزِ الْحُوَّارَى وَشَبَهِهِ، وَقِيلَ: الْخُبْزُ الْمُرَقَّقُ هُوَ الرَّغِيفُ الْوَاسِعُ الرَّقِيقُ، وَيُقَالُ لَهُ الرُّقَاقُ، بِالضَّمِّ كَطَوِيلٍ وَطُوَالٍ، وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، هُوَ الْخَفِيفُ، وَقِيلَ: هُوَ السَّمِيدُ، وَمَا يُصْنَعُ مِنْهُ الْكَعْكُ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ غَرِيبٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْقِيقَ الْخُبْزِ دَأْبُ أَرْبَابِ التَّكَلُّفِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَرِيئًا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّنَعُّمِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَلَا بَعْدَهَا، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُهُ إِذَا خُبِزَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الْآتِي آخِرَ الْبَابِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهُ مُطْلَقًا، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ، مَا أَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا، حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَشَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ، حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَالسَّمِيطُ مَا أُزِيلَ شَعْرُهُ، بِمَاءٍ سُخْنٍ وَشُوِيَ بِجِلْدِهِ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِصَغِيرِ السِّنِّ، كَالسَّخْلَةِ وَهِيَ مِنْ فِعْلِ الْمُتْرَفِينَ، وَفِي مَعْنَاهَا الدَّجَاجَةُ، لَكِنْ سَيَأْتِي أَنَّهُ أَكَلَ الدَّجَاجَةَ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَلَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَرَ السَّمِيطَ فِي مَأْكُولِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَعْهُودٍ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَمَدُّحٌ، انْتَهَى. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِلتَّقْيِيدِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ذَهَبَ إِلَى الشَّامِ، وَفِيهِ الْمُرَقَّقُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَكَلَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِبَيَانِ الْوَاقِعِ (قَالَ) أَيْ يُونُسُ (فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ فَعَلَى مَا) كَذَا هُوَ فِي نُسَخِ الشَّمَائِلِ بِإِشْبَاعِ فَتْحَةِ الْمِيمِ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ، وَعِنْدَ أَكْثَرِهِمْ فَعَلَى مَ بِمِيمٍ مُفْرَدَةٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ حُذِفَ الْأَلِفُ؛ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، لَكِنْ قَدْ تُرَدُّ فِي الِاسْتِعْمَالَاتِ الْقَلِيلَةِ عَلَى الْأَصْلِ، نَحْوَ قَوْلِ حَسَّانَ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا اتَّصَلَ الْجَارُّ بِمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْمَحْذُوفَةِ الْأَلْفِ نَحْوَ: حَتَّامَ، وَإِلَامَ وَعَلَامَ، كُتِبَ مَعَهَا بِالْأَلِفَاتِ لِشِدَّةِ الِاتِّصَالِ بِالْحُرُوفِ، هَذَا وَالْمَعْنَى فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ (كَانُوا يَأْكُلُونَ) إِنْ جُعِلَتِ الْوَاوُ لِلتَّعْظِيمِ، كَمَا فِيرَبِّ ارْجِعُونِ، أَوْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ فَظَاهِرٌ أَوْ لِلصَّحَابَةِ، فَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَأَسَّوْنَ بِأَحْوَالِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَكَانَ السُّؤَالُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي مَالِهِ، كَالسُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ، (قَالَ) أَيْ قَتَادَةُ مَوْقُوفًا (عَلَى هَذِهِ السُّفَرِ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ جَمْعُ سُفْرَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ فِي الْأَصْلِ طَعَامٌ يَتَّخِذُهُ الْمُسَافِرُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ فِي جِلْدٍ مُسْتَدِيرٍ، فَنُقِلَ اسْمُهُ إِلَى ذَلِكَ الْجِلْدِ، وَسُمِّي كَمَا سُمِّيَتِ الْمَزَادَةُ رَاوِيَةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ، وَاشْتُهِرَتْ لِمَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ، جِلْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، مَا عَدَا الْمَائِدَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّهَا شِعَارُ الْمُتَكَبِّرِينَ غَالِبًا (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: يُونُسُ هَذَا الَّذِي رَوَى عَنْ قَتَادَةَ، هُوَ يُونُسُ الْإِسْكَافُ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ صَانِعُ الْقَفْشِ وَفِي نُسْخَةٍ بِجَرِّ الْإِسْكَافِ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ (عَنْ مُجَالِدٍ) بِكَسْرِ اللَّامِ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، هُوَ عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ الْكُوفِيُّ، أَحَدُ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ، وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ: أَدْرَكْتُ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: مَا كَتَبْتُ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ قَطُّ، وَلَا حَدَّثْتُ بِحَدِيثٍ إِلَّا حَفِظْتُهُ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ وَلَهُ ثَنْتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً، كَذَا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، لِمُؤَلِّفِ الْمِشْكَاةِ (عَنْ مَسْرُوقٍ) يُقَالُ: أَنَّهُ سُرِقَ صَغِيرًا، ثُمَّ وُجِدَ، فَسُمِّيَ مَسْرُوقًا، أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدْرَكَ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، شَهِدَ فِي حَرْبِ الْخَوَارِجِ، وَمَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَمِائَةٍ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَدَعَتْ لِي بِطَعَامٍ) أَيْ أَمَرَتْ خَادِمَهَا أَنْ يُقَدِّمَهُ إِلَيَّ، قَالَ مِيرَكُ: أَيْ أَضَافَتْنِي (وَقَالَتْ: مَا أَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ) أَيْ مِمَّا حَضَرَ عِنْدِي، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ (مَرَّتَيْنِ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَ أَبْلَغُ فِي الْمُدَّعَى (فَأَشَاءُ) أَيْ أُرِيدُ (أَنْ أَبْكِيَ) بِأَنْ لَا أَدْفَعَ الْبُكَاءَ عَنْ نَفْسِي (إِلَّا بَكَيْتُ) أَيْ تَحَزُّنًا لِتِلْكَ الشِّدَّةِ الَّتِي قَاسَتْهَا الْحَضْرَةُ النَّبَوِيَّةُ، أَوْ تَأَسُّفًا عَلَى فَوْتِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الْعَلِيَّةِ الْمَرْضِيَّةِ. قِيلَ: عَبَّرَتْ بِأَبْكِي لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ أَبْكِي مَعْمُولٌ لِأَشَاءُ الْمُسْتَقْبَلُ فَلَزِمَ كَوْنُهُ مُسْتَقْبَلًا، بِخِلَافِ بَكَيْتُ بَعْدَ إِلَّا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا وُجِدَ، وَقِيلَ: الْفَاءُ فِي «فَأَشَاءُ» لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى مَا أَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ إِلَّا بَكَيْتُ؛ لِأَنِّي أَشَاءُ أَنْ أَبْكِيَ فَالْعِلَّةُ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمَعْلُولِ، لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا؛ وَلِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهَا أَنَّ مُرَادَهَا أَنَّهُ مَا يَحْصُلُ لِي مِنْ شِبَعٍ، وَلَا تَسَبَّبَ عَنْهُ مَشِيئَتِي لِلْبُكَاءِ إِلَّا يُوجَدُ مِنِّي فَوْرًا، مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَقِيلَ: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ لَازِمٌ لِلشِّبَعِ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْمَشِيئَةُ، وَلَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ لَازِمَةً لِلشِّبَعِ، وَلِذَا قَالَتْ: فَأَشَاءُ وَلَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى: «مَا أَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ إِلَّا بَكَيْتُ» (قَالَ) أَيْ: مَسْرُوقٌ (قُلْتُ: لِمَ) أَيْ لِمَ تَشَائِينَ أَنْ تَبْكِي، وَفِي التَّحْقِيقِ لِمَ تَتَسَبَّبُ عَنِ الشِّبَعِ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْمُسَبَّبُ عَنْهَا وُجُودُ الْبُكَاءِ فَوْرًا؟ (قَالَتْ: أَذْكُرُ) أَيْ أَشَاءُ أَنْ أَبْكِيَ لِأَنِّي أَذْكُرُ (الْحَالَ الَّتِي فَارَقَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّنْيَا) وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْنَا، وَهِيَ أَصْلُ السَّيِّدِ، قَالَ مِيرَكْ شَاهْ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ فَارَقَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنَ الدُّنْيَا، وَهَذِهِ النُّسْخَةُ أَنْسَبُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا فِي أَصْلِ الْكِتَابِ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْجِيهٍ وَتَكَلُّفٍ وَتَقْدِيرٍ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلَى بِمَعْنَى عَنْ أَوِ التَّقْدِيرُ مُتَعَدِّيًا، وَمَا رَأَى عَلَيْنَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهَا قَالَتْ: كُلَّمَا شَبِعْتُ بَكَيْتُ، لِتَذَكُّرِ الْحَالِ الَّتِي فَارَقَتْ عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَّنَتْ تِلْكَ الْحَالَةَ بِقَوْلِهَا: (وَاللَّهِ مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ) تَنْوِينُهُمَا لِلتَّنْكِيرِ قَصْدًا لِلْعُمُومِ، وَلَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَإِذَا لَمْ يَشْبَعْ مِنْهُمَا فَبِالْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْبَعَ مِنْ غَيْرِهِمَا، مِنَ الْأَعْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ) أَيْ مِنْ أَيَّامِ عُمْرِهِ، فَلَمْ يُوجَدْ يَوْمٌ قَطُّ شَبِعَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ مِنْهُمَا، وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ شَبِعَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَرَّةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، قِيلَ: كَلِمَةُ لَا فِي: «وَلَا لَحْمٍ»، تُفِيدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ مَا شَبِعَ مِنْ لَحْمٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا: الْمَقْصُودُ نَفْيُ شِبَعِهِ مِنْ خُبْزٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ مَا شَبِعَ مَنْ لَحْمٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، لَا نَفْيُ شِبَعِهِ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا مَعًا مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ آكَدُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَنْسَبُ فِي مَزِيَّةِ الْمَرْتَبَةِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنِ الِأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ) أَيْ فَضْلًا عَنْ خُبْزِ بُرٍّ (يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ) أَيْ تُوُفِّيَ وَفَاءً بِقَوْلِهِ: حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَالْغِنَى، وَاخْتَارَ الْفَقْرَ وَالْفَنَاءَ. «أُرِيدُ أَنْ أَجُوعَ يَوْمًا فَأَصْبِرُ، وَأَشْبَعُ يَوْمًا فَأَشْكُرُ». وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَمَالَ هُوَ الْحَالُ الْمُتَضَمِّنُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَلَالِ، وَالْجَمَالِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِمَا الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ وَالْفَنَاءُ وَالْبَقَاءُ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَحْوَالِ. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْكَاشِفِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخَ الشَّمَائِلِ، وَأَبُو مَعْمَرٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ بَعْدَ وَاوِ عَمْرٍو، وَقَالَا: بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَهُوَ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ حَيْثُ قَرَأَ الْوَاوَ مُكَرَّرًا، وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ (قَالَ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ) بِفَتْحٍ فَضَمٍّ (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ، وَلَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا) فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا مُرَقَّقًا قَطُّ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ، (حَتَّى مَاتَ) قَالَ مِيرَكُ: فَائِدَةُ تَكْرَارِ الْحَدِيثِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي السَّنَدِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَتَفَاوُتٍ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِالتَّطْوِيلِ وَالِاقْتِصَارِ لِلتَّقْوِيَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ. .باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ إِدَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي النِّهَايَةِ الْإِدَامُ بِالْكَسْرِ، وَالْأُدَامُ بِالضَّمِّ، مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ يَعْنِي مَائِعًا أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ: «سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ، وَسَيِّدُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْمَاءُ، وَسَيِّدُ الرَّيَاحِينِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْفَاغِيَةُ»، يَعْنِي وَرَقَ الْحِنَّاءِ.رَوَى الْبَيْهَقِيُ عَنْ أَنَسٍ. خَيْرُ الْإِدَامِ اللَّحْمُ، وَهُوَ سَيِّدُ الْإِدَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ جُعِلَ اللَّحْمُ إِدَامًا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَا يَجْعَلُهُ إِدَامًا، وَيَقُولُ: لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْتَدِمَ ثُمَّ أَكَلَ لَحْمًا لَا يَحْنَثُ. قَالَ الْعِصَامُ: وَلَا يُنَافِيهِ عَدَمُ حِنْثِ مَنْ حَلِفَ لَا يَأْتَدِمُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَأَهْلُهُ لَا يُعِدُّونَ اللَّحْمَ إِدَامًا؛ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَقْصِدُونَهُ لِذَاتِهِ لَا لِلتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَى إِسَاغَةِ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَيْسَ كَمَا زَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ، بَلْ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ اللَّحْمَ إِدَامٌ، قُلْتُ: الْمَسْأَلَةُ إِذَا كَانَتْ خِلَافِيَّةً فِي الْمَذْهَبِ، فَلَا اعْتِرَاضَ، مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ هَذَا. وَقَالَ مِيرَكُ: الْإِدَامُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، كَالْأُدْمِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَيُقَالُ: بِضَمِّهَا أَيْضًا، مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ، وَيُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ، وَجَمْعُهُمَا أُدُمٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَالدَّالِ كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَيُقَالُ: أَدَمَ الْخُبْزَ بِاللَّحْمِ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ إِذَا أَكَلَهُمَا مَعًا، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، أَنَّ الْأُدْمَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعُ إِدَامٍ، وَفِي الْمُغْرِبِ الْإِدَامُ هُوَ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ، وَجَمْعُهُ أُدُمٌ بِضَمَّتَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ الَّذِي يُطَيِّبُ الْخُبْزَ وَيَلْتَذُّ بِهِ الْآكِلُ وَالْأُدْمُ مِثْلُهُ، وَالْجَمْعُ آدَامٌ كَحُلْمٍ وَأَحْلَامٍ، وَمَدَارُ التَّرْكِيبِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِصْلَاحِهِ الْخُبْزَ وَجَعْلِهِ مُلَائِمًا لِحِفْظِ الصِّحَّةِ فِي الْجِسْمِ، وَالَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ الْأَدِيمُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (وَمَا أُكِلَ مِنَ الْأَلْوَانِ) أَيْ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ، وَأَصْنَافِهَا جَمْعًا وَفُرَادَى وَاعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ حَبْسُ نَفْسِهِ النَّفِيسَةِ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَغْذِيَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ غَالِبًا بِالطَّبِيعَةِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ الْأَطْعِمَةِ بَلْ كَانَ يَأْكُلُ مَا اعْتِيدَ مِنْ لَحْمٍ وَفَاكِهَةٍ وَتَمْرٍ وَغَيْرِهَا، مِمَّا سَيَأْتِي. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَا: أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَنْبَأَنَا (يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) بِالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي حَدِيثِهِ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (نِعْمَ الْأُدْمُ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ (أَوِ الْإِدَامُ) وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ (الْخَلُّ) يَعْنِي وَقَعَ الشَّكُّ فِي حَدِيثِهِ دُونَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، عَلَى الْإِبْهَامِ لَا يُلَائِمُ الْمَقَامَ، وَقَوْلُ الْحَنَفِيِّ: أَوْ لِلتَّخْيِيرِ بَعِيدٌ عَنِ الْمَرَامِ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ مَدْحُ الِاقْتِصَادِ فِي الْمَأْكَلِ، وَمَنْعُ النَّفْسِ مِنْ مَلَاذِّ الْأَطْعِمَةِ، وَالتَّقْدِيرُ ائْتَدِمُوا بِالْخَلِّ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا تَخِفُّ مُؤْنَتُهُ، وَلَا يَعِزُّ وُجُودُهُ، وَلَا تَتَأَنَّقُوا فِي الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّهَا مَفْسَدَةٌ فِي الدِّينِ، مَقْصَمَةٌ لِلْبَدَنِ، هَذَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَالصَّوَابُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ أَنَّهُ مَدْحٌ لِلْخَلِّ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الِاقْتِصَادُ فِي الْمَطْعَمِ، وَتَرْكُ الشَّهَوَاتِ، فَمَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدَ أُخَرَ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لَدَى أُولِي الْأَلْبَابِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الصَّوَابُ، إِذْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَمْدَحُ طَعَامًا، وَلَا يَذُمُّهُ، فَإِنَّ فِي الْأَوَّلِ شَائِبَةُ الشَّهْوَةِ، وَفِي الثَّانِي احْتِقَارُ النِّعْمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَإِنَّهُ قَامِعٌ لِلصَّفْرَاءِ، نَافِعٌ لِلْأَبْدَانِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِمَدْحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ تَفْضِيلًا، فَإِنَّهُ مِنَ الْحُكْمِيَّاتِ الَّتِي لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ فَائِدَةٍ، وَخَاصِّيَّةٍ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ. وَرِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مُسْلِمٍ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْأُدْمَ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ، فَدَعَا بِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ التَّحْدِيثِ عَلَى الْأَكْلِ تَأْنِيسًا لِلْآكِلِينَ. وَعَنْ أُمٍّ سَعِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي الْخَلِّ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّهُ كَانَ إِدَامَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي». وَفِي حَدِيثٍ: «لَمْ يُفْقَرْ بَيْتٌ فِيهِ خَلٌّ». رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، رَدٌّ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ الْحَالِ الْحَاضِرِ، لَا لِتَفْضِيلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، خِلَافًا لِمَنْ ظَنَّهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَهُ قَدَّمُوا لَهُ خُبْزًا، فَقَالَ: أَمَا مِنْ أُدْمٍ، فَقَالُوا مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ، فَقَالَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ. جَبْرًا وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِ مَنْ قَدَّمَهُ، لَا تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ لَوْ حَضَرَ نَحْوُ لَحْمٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ لَبَنٍ لَكَانَ أَوْلَى بِالْمَدْحِ مِنْهُ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مَدْحُهُ، لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأُدْمِ، هَذَا وَفِي طَلَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِدَامَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَكْلَ الْخُبْزِ مَعَ الْإِدَامِ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصِّحَّةِ، بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَاسْتُفِيدَ مِنْ كَوْنِهِ أُدْمًا أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أُدُمًا حَنِثَ بِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِقَضَاءِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ) قَالَ مِيرَكُ: هُوَ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْحَنَفِيُّ، مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ، ثِقَةٌ مُتْقِنٌ صَاحِبُ حَدِيثٍ مِنَ السَّابِعَةِ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ (عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ: أَلَسْتُمْ) الْخِطَابُ لِلتَّابِعِينَ أَوْ لِلصَّحَابَةِ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ) مَا بَدَلٌ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، أَيْ أَيُّ شَيْءٍ شِئْتُمْ مِنْهُمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ وَيَكُونَ ظَرْفًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ وَفِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ خَبَرُ أَلَسْتُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَلَسْتُمْ مُتَنَعِّمِينَ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مِقْدَارَ مَا شِئْتُمْ مِنَ التَّوْسِعَةِ وَالْإِفْرَاطِ فِيهِ، فَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْكَلَامُ فِيهِ تَعْبِيرُ تَوْبِيخٍ؛ وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: (لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَضَافَهُ إِلَيْهِمْ لِلْإِلْزَامِ حِينَ لَمْ يَقْتَدُوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَمُسْتَلَذَّاتِهَا، وَفِي التَّقْلِيلِ لِمَأْكُولَاتِهَا وَمَشْرُوبَاتِهَا، وَأَمَّا قَتْلُ خَالِدٍ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ، لَمَّا قَالَ لَهُ كَانَ صَاحِبُكُمْ يَقُولُ: كَذَا، فَقَالَ صَاحِبُنَا: وَلَيْسَ بِصَاحِبِكَ فَقَتَلَهُ، فَهُوَ لَمْ يَكُنْ لِمُجَرَّدِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، بَلْ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْهُ الرِّدَّةُ، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَا أَبَاحَ لَهُ بِهِ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى النَّظَرِ فَقَوْلُهُ: (وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ) حَالٌ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَأَدْخَلَ الْوَاوَ تَشْبِيهًا لَهُ بِخَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا، عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ وَالْأَوَّلُ عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، وَالدَّقَلُ بِفَتْحَتَيْنِ التَّمْرُ الرَّدِيءُ وَيَابِسُهُ، وَمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ، فَتَرَاهُ لِيُبْسِهِ وَرَدَائَتِهِ لَا يَجْتَمِعُ، وَيَكُونُ مَنْشُورًا كَذَا فِي النِّهَايَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ) مَفْعُولُ يَجِدُ، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَمِنَ الدَّقَلِ بَيَانٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ. (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ) نِسْبَةً إِلَى خُزَاعَةَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ (حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ سُفْيَانَ) أَيِ الثَّوْرِيِّ (عَنْ مُحَارِبِ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (بْنِ دِثَارٍ) بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ كَذَا فِي الْجَامِعِ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَالثَّلَاثَةُ أَيْضًا، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا. (حَدَّثَنَا هَنَّادٌ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ (حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ (عَنْ زَهْدَمٍ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (الْجَرْمِيِّ) بِالْجِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَالرَّاءِ السَّاكِنَةِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ، وَذُكِرَ فِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَأُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ جِيءَ (بِلَحْمِ دَجَاجٍ) قَالَ الْحَنَفِيُّ: مَفْعُولٌ قَائِمٌ مَقَامَ فَاعِلِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: نَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ أَبِي مُوسَى، وَزَعَمَ أَنَّهُ بِلَحْمِ دَجَاجٍ، غَلَطٌ فَاحِشٌ، انْتَهَى. وَفِي كَوْنِهِ غَلَطًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا، نَظَرٌ ظَاهِرٌ إِذِ التَّقْدِيرُ أُتِيَ بِلَحْمِ دَجَاجٍ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ لِلْحَاضِرِينَ، كَمَا سَيَأْتِي فَتُقُدِّمَ طَعَامُهُ. ثُمَّ الدَّجَاجُ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ أَنَّ الدَّجَاجَ اسْمُ جِنْسٍ، وَهُوَ مُثَلَّثُ الدَّالِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَابْنُ مَائِدٍ، وَلَمْ يَحْكِ النَّوَوِيُّ ضَمَّ الدَّالِ، وَاحِدَةُ دَجَاجَةٍ مُثَلَّثَةٌ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمَّ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَأَفَادَ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِهِ أَنَّ الدِّجَاجَ بِالْكَسْرِ اسْمٌ لِلذُّكْرَانِ دُونَ الْإِنَاثِ، الْوَاحِدُ مِنْهَا دِيكٌ، وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ لِلْإِنَاثِ دُونَ الذُّكْرَانِ، وَالْوَاحِدُ دَجَاجَةٌ بِالْفَتْحِ أَيْضًا، سُمِّيَ بِهِ لِإِسْرَاعِهِ مِنْ دَجَّ يَدِجُّ مِنْ حَدِّ نَصَرَ إِذَا بَالَغَ فِي السَّيْرِ سَرِيعًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أُتِيَ بِطَعَامٍ فِيهِ دَجَاجٌ كَمَا يَأْتِي (فَتَنَحَّى) مِنَ التَّنَحِّي مِنَ النَّحْوِ أَيْ صَارَ إِلَى طَرَفِ الْقَوْمِ وَتَبَاعَدَ (رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) قِيلَ: هُوَ زَهْدَمُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَى حَدِيثَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ مِنْ تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مَوْلًى مِنَ الْمَوَالِي. وَزَعَمَ أَنَّهُ زَهْدَمُ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِرَجُلٍ لَيْسَ فِي مَحِلِّهِ؛ لِأَنَّ زَهْدَمَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بَيَّنَهُ بِصِفَتِهِ وَنِسْبَتِهِ (فَقَالَ) أَيْ أَبُو مُوسَى (مَا لَكَ) اسْتِفْهَامٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ أَيُّ شَيْءٍ مَانِعٌ أَوْ بَاعِثٌ لَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ مِنَ التَّنَحِّي (قَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (إِنِّي رَأَيْتُهَا) أَيْ أَبْصَرْتُ الدَّجَاجَةَ- جِنْسُهَا- حَالَ كَوْنِهَا (تَأْكُلُ شَيْئًا) أَيْ مِنَ الْقَاذُورَاتِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ نَتِنًا بِنُونَيْنِ بَيْنَهُمَا فَوْقِيَّةٌ مَكْسُورَةٌ، وَيَجُوزُ سُكُونُهَا بِتَقْدِيرِ ذَا، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ شَيْئًا لَا أَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ (فَحَلَفْتُ) بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ أَقْسَمْتُ (أَنْ لَا آكُلَهَا) وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَلِفَهُ لِإِبَاءِ طَبْعِهِ وَكَرَاهَتِهِ لِأَكْلِهَا نَتِنًا كَمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: فَقَذِرْتُهُ لَا لِتَوَّهُمِ حُرْمَتِهِ، كَمَا تَوَهَّمَ الْحَنَفِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فَإِنَّهُ إِذَا اعْتَقَدَ الْحُرْمَةَ مَا احْتَاجَ إِلَى الْيَمِينِ، وَأَيْضًا كَوْنُهُ مِنَ التَّابِعِينَ وَفِي أَيَّامِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، يُمْنَعُ أَنْ يُحَرِّمَ حَلَالًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، مَعَ أَنَّ الطَّعَامَ مَطْبُوخٌ فِي بَيْتِ أَبِي مُوسَى (قَالَ) أَيْ أَبُو مُوسَى (ادْنُ) بِضَمِّ النُّونِ أَمْرٌ مِنَ الدُّنُوِّ أَيِ اقْرُبْ، وَخَالِفْ طَبْعَكَ، وَتَابِعْ شَرْعَكَ (فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ لَحْمَ دَجَاجٍ) فَالْأَنْسَبُ مُتَابَعَتُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ». قَالَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: لَعَلَّهُ فَهِمَ أَنَّ فِي جِنْسِهَا جَلَّالَةً، وَهِيَ يَحْرُمُ أَوْ يُكْرَهُ أَكْلُهَا عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِالْحِنْثِ حِينَئِذٍ، قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهَا جَلَّالَةً؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ أَكْلِهَا الْقَذَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّغَيُّرَ الَّذِي حُصُولُهُ شَرْطٌ فِي تَسْمِيَتِهَا جَلَّالَةً، حَتَّى يَجْرِيَ ذَلِكَ الْخِلَافُ فِيهَا، نَعَمْ، لَوْ قَيَّدَ يَمِينَهُ بِالْجَلَّالَةِ لَمْ يُنْدَبِ الْحِنْثُ فِيهَا، انْتَهَى. وَفِي جَوَابِ السُّؤَالِ وَتَطَابُقِهِمَا نَظَرٌ لَا يَخْفَى مَعَ أَنَّ حُرْمَةَ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ أَوْ كَرَاهَتِهَا مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ حَبْسِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْفُرُوعِ، وَلَا يُظَنُّ بِالْمُسْلِمِينَ لَاسِيَّمَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَرْتَكِبُوا الْكَرَاهَةَ، فَضْلًا عَنِ الْحُرْمَةِ. (حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الْأَعْرَجُ الْبَغْدَادِيُّ) بِالْمُهْمَلَةِ فَالْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَيَجُوزُ عَكْسُهُ وَإِهْمَالُهُمَا وَإِعْجَامُهُمَا (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ قَالَ مِيرَكُ: وَفِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ رَوَى لَهُ حَدِيثًا وَاحِدًا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَفِينَةَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَامِعِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِبْرَاهِيمُ رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَبُو الْحَجَّاجِ النَّضْرُ بْنُ طَاهِرٍ الْبَصْرِيُّ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ عُمَرَ بْنِ سَفِينَةَ (عَنْ جَدِّهِ) أَيْ سَفِينَةَ وَهُوَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ مِهْرَانَ أَوْ غَيْرُهُ، فَلُقِّبَ بِسَفِينَةَ؛ لِكَوْنِهِ حَمَلَ شَيْئًا كَثِيرًا فِي السَّفَرِ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ لَهُ أَحَادِيثُ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ (قَالَ: أَكَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْمَ حُبَارَى) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَلِفُ حُبَارَى لَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ، وَلَا لِلْإِلْحَاقِ، وَإِنَّمَا بُنِيَ الِاسْمُ عَلَيْهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، لَا يَنْصَرِفُ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ، أَيْ لَا تُنَوَّنُ. قُلْتُ: هَذَا سَهْوٌ مِنْهُ بَلْ أَلِفُهَا لِلتَّأْنِيثِ كَسُمَانَى، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ لَانْصَرَفَتْ. وَالْحُبَارَى طَائِرٌ مَعْرُوفٌ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَاحِدُهُ وَجَمْعُهُ سَوَاءٌ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: فِي الْجَمْعِ حُبَارَيَاتٌ، وَأَهْلُ مِصْرَ يُسَمُّونَ الْحُبَارَى الْحَبْرَجَ، وَهِيَ مِنْ أَشَدِّ الطَّيْرِ طَيَرَانًا، وَأَبْعَدِهَا شَوْطًا، وَذَلِكَ أَنَّهَا تُصَادُ بِالْبَصْرَةِ، فَتُوجَدُ فِي حَوَاصِلِهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ الَّتِي شَجَرَتُهَا الْبُطْمُ وَمَنَابِتُهَا تُخُومُ بِلَادِ الشَّامِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي الْمَثَلِ: أَطْلَبُ مِنَ الْحُبَارَى. وَإِذَا نُتِفَ رِيشُهَا، وَأَبْطَأَ نَبَاتُهَا مَاتَتْ حُزْنًا، وَهُوَ طَائِرٌ كَبِيرُ الْعُنُقِ، رَمَادِيُّ اللَّوْنِ فِي مِنْقَارِهِ بَعْضُ الطُّولِ، لَحْمُهُ بَيْنَ لَحْمِ الْبَطِّ وَالدَّجَاجِ، وَهُوَ أَخَفُّ مِنْ لَحْمِ الْبَطِّ، وَسِلَاحُهَا سِلَاحُهَا. وَمِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا تُصَادُ وَلَا تَصِيدُ، وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الطَّيْرِ حِيلَةً فِي تَحْصِيلِ الرِّزْقِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَمُوتُ جُوعًا بِهَذَا السَّبَبِ وَوَلَدُهَا يُقَالُ لَهَا: النَّهَارُ، وَفَرْخُ الْكَرَوَانِ اللَّيْلُ قَالَ الشَّاعِرُ (شِعْرٌ): كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ مِنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَقِيلَ: يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْحُمْقِ، وَيُقَالُ كُلُّ شَيْءٍ يُحِبُّ وَلَدَهُ حَتَّى الْحُبَارَى، وَقِيلَ: يُوجَدُ فِي بَطْنِهِ حَجَرٌ إِذَا عُلِّقَ عَلَى شَخْصٍ، لَمْ يَحْتَلِمْ مَا دَامَ عَلَيْهِ هَذَا. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الْحُبَارَى لَيَمُوتَ هَزْلًا بِذَنْبِ بَنِي آدَمَ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْبِسُ عَنْهَا الْقَطْرَ، بِشُؤْمِ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ الطَّيْرِ نُجْعَةً، وَرُبَّمَا تُذْبَحُ بِالْبَصْرَةِ، وَيُوجَدُ فِي حَوَاصِلِهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ، وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ وَبَيْنَ مَنَابِتِهَا مَسِيرَةُ أَيَّامٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالنُّجْعَةُ طَلَبُ الْكَلَاءِ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ حِمَارِ الْوَحْشِ، وَلَحْمَ الْجَمَلِ سَفَرًا، وَحَضَرًا وَلَحْمَ الْأَرْنَبِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ الْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ) هُوَ ابْنُ عَاصِمٍ التَّمِيمِيُّ وَيُقَالُ: الْكُلَيْنِيُّ بِنُونٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ، مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ التَّيْمِيُّ بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ (زَهْدَمِ الْجَرْمِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى) أَيْ حَاضِرِينَ أَوْ جَالِسِينَ (قَالَ) أَيْ: زَهْدَمُ وَأُعِيدَ تَأْكِيدًا (فَتُقُدِّمَ طَعَامُهُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّقَدُّمِ، كَذَا مَضْبُوطٌ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَقَدَّمَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ التَّقْدِيمِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَفِي الْقَامُوسِ قَدَمَ الْقَوْمَ كَنَصَرَ وَقَدَّمَهُمْ وَاسْتَقْدَمَهُمْ، تَقَدَّمَهُمْ وَالْمَعْنَى فَأُتِيَ بِطَعَامِهِ (وَقُدِّمَ فِي طَعَامِهِ) أَيْ فِي أَثْنَائِهِ أَوْ فِي جُمْلَتِهِ (لَحْمُ دَجَاجٍ) وَالثَّانِي أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ طَعَامٌ آخَرُ لَمَا تَنَحَّى، وَأَكَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَبَعُّدُهُ مِنْ أَكْلِهِ خُصُوصًا فَتَأَمَّلْ (وَفِي الْقَوْمِ) أَيِ الْحَاضِرِينَ (رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ) أَيْ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِمْ تَيَّمَهُ الْحُبُّ أَيْ عَبَّدَهُ وَذَلَّلَهُ، وَهُوَ تَيْمُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَهُمْ حَيٌّ مِنْ بَنِي بَكْرٍ يُقَالُ لَهُمُ اللَّهَازِمُ (أَحْمَرُ) صِفَةُ رَجُلٍ (كَأَنَّهُ مَوْلَى) أَيْ مِنْ مَوَالِيهِمْ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِ، أَوْ يُشْبِهُ مَوْلًى لِحُمْرَةِ وَجْهِهِ (قَالَ) أَيْ زَهْدَمُ (فَلَمْ يَدْنُ) أَيْ لَمْ يَقْرُبِ الرَّجُلُ إِلَى الطَّعَامِ، وَهُوَ مَعْنَى التَّبَعُّدِ السَّابِقِ، أَوْ هُمَا كِنَايَتَانِ عَنْ عَدَمِ إِقْبَالِهِ عَلَى الطَّعَامِ، وَانْتِفَاءِ تَنَاوُلِهِ مِنْهُ (فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: ادْنُ) أَيِ اقْرُبْ إِلَى الطَّعَامِ، وَكُلْ (فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مِنْهُ) تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ رَاجِعٌ إِلَى الدَّجَاجِ هُنَا، بِخِلَافِهِ هُنَاكَ، فَإِنَّهُ إِلَى الدَّجَاجَةِ، وَلِكُلٍّ وُجْهَةٌ تُظْهِرُ وَجْهَهُ (قَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا) وَفِي نُسْخَةٍ نَتِنًا (فَقَذِرْتُهُ) بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ اسْتَقْذَرْتُهُ وَعَدَدْتُهُ قَذِرًا، قَالَ مِيرَكُ: وَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الطَّرِيقِ الْأَوْلَى أَيْضًا؛ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَحَلَفْتُ أَنْ) وَفِي نُسْخَةٍ أَنِّي (لَا أَطْعَمَهُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ لَا آكُلُهُ (أَبَدًا) أَيْ مُدَّةَ مَا أَعِيشُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ الدَّجَاجِ عِنْدَ أَبِي مُوسَى إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً، لَا تَخْلُو عَنْ إِشْكَالٍ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَوْرَدَهُمَا الْمُصَنِّفُ، إِذِ الْأَوْلَى بِظَاهِرِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اعْتِذَارَ الرَّجُلِ عَنْ تَنَحِّيهِ مِنَ الْقَوْمِ، مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي مُوسَى إِيَّاهُ: ادْنُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْحَدِيثَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ بِظَاهِرِهَا يَدُلُّ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْرِفَ إِحْدَاهُمَا عَنِ الظَّاهِرِ، تَدَبَّرْ. قُلْتُ: تَدَبَّرْنَا وَوَجَدْنَا الْقِصَّةَ وَاحِدَةً، فَدَبَّرْنَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِتَعَدُّدِ قَوْلِهِ: ادْنُ، بَلْ هُوَ مُتَعَيِّنٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ حِينَ تَنَحَّى: ادْنُ مَا لَكَ، أَوْ مَا لَكَ ادْنُ، كَمَا هُوَ الْعَادَةُ، وَلَمَّا تَعَلَّلَ بِمَا تَعَلَّلَ، قَالَ لَهُ: ادْنُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْحَدِيثَ هَذَا. وَفِي تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَمِنْ جَهَلَةِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يُقَلِّلُ الْمَطْعَمَ، وَأَكْلَ الدَّسَمِ حَتَّى يَيْبَسَ بَدَنُهُ، وَيُعَذِّبَ نَفْسَهُ بِلُبْسِ الصُّوفِ، وَيَمْتَنِعَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَمَا هَذِهِ طَرِيقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا طَرِيقُ صَحَابَتِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَجُوعُونَ إِذَا لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، فَإِذَا وَجَدُوا أَكَلُوا، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ اللَّحْمَ وَيُحِبُّهُ، وَيَأْكُلُ الدَّجَاجَ وَيُحِبُّ الْحَلْوَاءَ، وَيُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ الْبَارِدُ، فَإِنَّ الْمَاءَ الْحَارَّ يُؤْذِي الْمَعِدَةَ وَلَا يَرْوِي. وَكَانَ رَجُلٌ يَقُولُ: لَا آكُلُ الْخَبِيصَ؛ لِأَنِّي لَا أَقُومُ بِشُكْرِهِ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا رَجُلٌ أَحْمَقٌ، وَهَلْ يَقُومُ بِشُكْرِ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِذَا سَافَرَ حَمَلَ مَعَهُ فِي سُفْرَتِهِ اللَّحْمَ الْمَشْوِيَّ، وَالْفَالَوْذَجَ، انْتَهَى. وَمَحْمَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وَمِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ». وَقَالَ السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذْلِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: الَّذِي يَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ مِنْ وَسَطِ قَلْبِهِ، يَعْنِي مَرْتَبَةَ الشُّكْرِ، أَتَمُّ مِنْ حَالَةِ الصَّبْرِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُورِثُ الْمَحَبَّةَ، نَعَمْ. إِذَا لَمْ يُوجَدْ فَمَقَامُهُ الصَّبْرُ، وَبِهِمَا يَتِمُّ مَقَامُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَهُوَ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} و{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} و{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ) قِيلَ: اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ دِرْهَمٍ (الزُّبَيْرِيُّ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (وَأَبُو نُعَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، يُقَالُ لَهُ عَطَاءٌ) فِي التَّقْرِيبِ شَامِيٌّ أَنْصَارِيٌّ سَكَنَ السَّاحِلَ، مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ (عَنْ أَبِي أَسِيدٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ الزُّرَقِيُّ، قَالَ فِي الْإِكْمَالِ أَبُو أَسِيدٍ هَذَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَقِيلَ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مُصَغَّرًا، وَلَا يَصِحُّ وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ: كُلُوا الزَّيْتَ، إِلَى آخِرِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: أَبُو أَسِيدِ بْنِ ثَابِتٍ الْمَدَنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ لَهُ حَدِيثٌ وَالصَّحِيحُ فِيهِ فَتْحُ الْهَمْزَةِ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا الزَّيْتَ) أَيْ مَعَ الْخُبْزِ، وَاجْعَلُوهُ إِدَامًا، فَلَا يُرَدُّ أَنَّ الزَّيْتَ مَائِعٌ، فَلَا يَكُونُ تَنَاوُلُهُ أَكْلًا، وَلَا الِاعْتِرَاضُ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْبَابِ (وَادَّهِنُوا بِهِ) أَمْرٌ مِنَ الِادِّهَانِ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ وَأَمْثَالُ هَذَا الْأَمْرِ لِلِاسْتِحْبَابِ لِمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ، وَيَرُدُّهُ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الزَّيْتَ يَحْصُلُ (مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) يَعْنِي زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ، ثُمَّ وَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا وَانْتِفَاعِ أَهْلِ الشَّامِ بِهَا كَذَا قِيلَ. وَالْأَظْهَرُ لِكَوْنِهَا تَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ، قِيلَ: بَارَكَ فِيهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَلْزَمُ مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ بَرَكَةُ ثَمَرَتِهَا، وَهِيَ الزَّيْتُونُ، وَبَرَكَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ الزَّيْتِ وَكَيْفَ لَا وَفِيهِ التَّأَدُّمُ وَالتَّدَهُّنُ، وَهُمَا نِعْمَتَانِ عَظِيمَتَانِ وَقَدْ وَرَدَ: عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ زَيْتَ الزَّيْتُونِ، فَتَدَاوَوْا بِهِ، فَإِنَّهُ مُصَحِّحَةٌ مِنَ الْبَاسُورِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ سَبْعِينَ دَاءً مِنْهَا الْجُذَامُ. هَذَا وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلْبَابِ، أَنَّ الْأَمْرَ بِأَكْلِهِ يَسْتَدْعِي أَكْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، أَوْ يُقَالُ: الْمَقْصُودُ مِنَ التَّرْجَمَةِ مَعْرِفَةُ مَا أَكَلَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَحَبَّ الْأَكْلَ مِنْهُ. (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ) بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ بَيْنَهُمَا سَاكِنٌ (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي أَسِيدٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ طَيِّبٌ مُبَارَكٌ. وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْهُ، وَقَالَ: فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ سَبْعِينَ دَاءً مِنْهَا الْجُذَامُ (قَالَ أَبُو عِيسَى) يَعْنِي الْمُصَنِّفَ (وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِلَا وَاوٍ، وَإِنْ كَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الِاسْتِئْنَافِيَّةِ (كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ وَكَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ (يَضْطَرِبُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) أَيْ فِي إِسْنَادِهِ (فَرُبَّمَا) بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِالِاضْطِرَابِ هُنَا (أَسْنَدَهُ) أَيْ: أَوْصَلَهُ وَرَفَعَهُ كَمَا سَبَقَ (وَرُبَّمَا أَرْسَلَهُ) أَيْ فَحَذَفَ الصَّحَابِيَّ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يُؤَخِّرَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى إِيرَادِ الْأَسَانِيدِ بِالتُّهَمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُضْطَرِبَ عَلَى مَا فِي جَوَاهِرِ الْأُصُولِ هُوَ الَّذِي يَخْتَلِفُ الرُّوَاةُ فِيهِ، فَيَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى وَجْهٍ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، مُخَالِفٍ لَهُ، وَيَقَعُ الِاضْطِرَابُ فِي الْإِسْنَادِ تَارَةً، وَفِي الْمَتْنِ أُخْرَى، وَفِيهِمَا أُخْرَى، مِنْ رَاوٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ إِنْ أَمْكَنَ التَّرْجِيحُ بِحِفْظِ رُوَاةِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ كَثْرَةِ صُحْبَةِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ لِلرَّاجِحِ، وَلَا اضْطِرَابَ حِينَئِذٍ، وَإِلَّا فَمُضْطَرِبٌ يَسْتَلْزِمُ الضَّعْفَ، انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَخَالُفُ رِوَايَتَيْنِ أَمْ أَكْثَرَ إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا مُخَالَفَةً لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَتَرَجَّحْ إِحْدَاهُمَا بِنَحْوِ كَثْرَةِ طُرُقِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ كَوْنِهَا أَصَحُّ أَوْ أَشْهَرُ أَوْ رُوَاتُهَا أَتْقَنُ أَوْ مَعَهُمْ زِيَادَةُ عِلْمٍ كَمَا هُنَا فَإِنَّ الْمُسْنَدَ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ عَلَى الْمُرْسَلِ سِيَّمَا وَالْمُرْسَلُ أُسْنِدَ مَرَّةً أُخْرَى، فَوَافَقَ إِسْنَادَ غَيْرِهِ لَهُ دَائِمًا، وَهُوَ أَبُو أَسِيدٍ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ. (حَدَّثَنَا السِّنْجِيِّ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَبِالْجِيمِ نِسْبَةً إِلَى سَنْجٍ، قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى مَرْوَ (وَهُوَ أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (الْمَرْوَزِيُّ) بِفَتْحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا سَاكِنٌ (السِّنْجِيُّ) ذَكَرَهُ أَوَّلًا، وَثَانِيًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ ذِكْرُ نِسْبَتِهِ فَقَطْ، وَقَدْ يَقَعُ ذِكْرُ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَنِسْبَتِهِ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ) أَيْ مِثْلَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى (وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَنْ عُمَرَ) يَعْنِي فَيَكُونُ الْحَدِيثُ بِهَذَا الطَّرِيقِ مُرْسَلًا، فَالْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ، وَالِاضْطِرَابُ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ وَفَاعِلُهُ (الدُّبَّاءُ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُعْجِبُهُ، أَيْ يُرْضِيهِ أَكْلُهُ، وَيَسْتَحْسِنُهُ وَيُحِبُّ تَنَاوُلَهُ، وَهُوَ بِضَمِّ الدَّالِ، وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، مَمْدُودٌ، وَيَجُوزُ الْقَصْرُ، حَكَاهُ الْفَرَّاءُ، وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالْمُسْتَدِيرِ مِنْهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الدُّبَّاءُ هُوَ الْيَقْطِينُ وَهُوَ بِالْمَدِّ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَحَكَى الْقَاضِي فِيهِ الْقَصْرَ أَيْضًا، الْوَاحِدَةُ: دُبَّاءَةٌ أَوْ دُبَّاةٌ، انْتَهَى. وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَتَاجِ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الدُّبَّاءُ هِيَ الْقَرْعُ، وَاحِدُهَا: دُبَّاءَةٌ، وَزْنُهَا فُعَّالٌ، وَلَامُهَا هَمْزَةٌ، وَلَا يُعْرَفُ انْقِلَابُ لَامِهَا عَنْ وَاوٍ أَوْ يَاءٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَخْرَجَهَا الْهَرَوِيُّ فِي الدَّالِ مَعَ الْبَاءِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ زَائِدَةٌ، وَأَخْرَجَهَا الْجَوْهَرِيُّ فِي الْمُعْتَلِّ، عَلَى أَنَّ هَمْزَتَهُ مُنْقَلِبَةٌ، وَكَأَنَّهُ أَشْبَهَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَأُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِتْيَانِ أَيْ فَجِيءَ (بِطَعَامٍ) أَيْ فِيهِ دُبَّاءٌ (أَوْ دُعِيَ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، أَيْ طُولِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَهُ) أَيْ لِلطَّعَامِ، وَالشَّكُّ مِنْ أَنَسٍ، أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، قَالَ أَنَسٌ: (فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ) أَيْ أَطْلُبُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ (فَأَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ قُدَّامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ مُخْتَلِفًا، يَجُوزُ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيهِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْ صَاحِبِهِ كَرَاهَةً وَمُنَاوَلَةُ الضِّيفَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مِمَّا وُضِعَ بَيْنَ أَيْدِيهِمِ اعْتِمَادًا عَلَى رِضَى الْمُضِيفِ، وَإِنَّمَا يُمْتَنَعُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ قُدَّامِ الْآخَرِ لِنَفْسِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِ مَخْصُوصًا بِغَيْرِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (لِمَا أَعْلَمُ) مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ أَيْ لِعِلْمِي أَوْ لِلَّذِي أَعْلَمُهُ (أَنَّهُ) أَيِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُحِبُّهُ) أَيِ الدُّبَّاءَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ حِينَ أَعْلَمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَبِهِمَا قُرِئَ فِي الْمُتَوَاتِرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} قِيلَ: وَكَانَ سَبَبُ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مَا فِيهِ مِنْ إِفَادَةِ زِيَادَةِ الْعَقْلِ، وَالرُّطُوبَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَمَا كَانَ يَلْحَظُهُ مِنَ السِّرِّ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِ، إِذْ خَصَّصَهُ بِالْإِنْبَاتِ عَلَى أَخِيهِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى وَقَاهُ حَرَّ الشَّمْسِ، وَبَرْدَ اللَّيْلِ، وَتَرَبَّى فِي ظِلِّهِ فَكَانَ لَهُ كَالْأُمِّ الْحَاضِنَةِ لِوَلَدِهَا. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ) أَيِ ابْنِ طَارِقِ بْنِ نَافِقٍ الْأَحْمَسِيِّ بِمُهْمَلَتَيْنِ، ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مُقِلٌّ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فِي بَيْتِهِ (فَرَأَيْتُ عِنْدَهُ دُبَّاءً يُقَطِّعُ) بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَالتَّقْطِيعُ جَعْلُ الشَّيْءِ قِطْعَةً قِطْعَةً، وَبَابُ التَّفْعِيلِ لِلتَّكْثِيرِ (فَقُلْتُ: مَا هَذَا) أَيْ مَا فَائِدَتُهُ لَا مَا حَقِيقَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَ فِي مَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ حَقِيقَتَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ رَدًّا عَلَى شَارِحٍ، حَيْثُ قَالَ: الْجَوَابُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ تَوَهُّمٌ مِنْهُمَا أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الدُّبَّاءُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى مَا فَائِدَةُ كَثْرَةِ تَقْطِيعِهِ (قَالَ: نُكْثِرُ) بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَتَشْدِيدِ مُثَلَّثَةٍ مَكْسُورَةٍ مِنَ التَّكْثِيرِ، هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ كَثِيرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِكْثَارِ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، لَكِنَّ الْأُصُولَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ تَحْتِيَّةٍ، وَفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ مُشَدَّدَةٍ، فَقَوْلُهُ: (بِهِ) أَيْ بِالتَّقْطِيعِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَقَوْلُهُ: (طَعَامَنَا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَمَرْفُوعٌ عَلَى الْأَخِيرِ، وَقَالَ الْعِصَامُ: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْرُوفِ، مِنَ التَّقْطِيعِ، كَتَكْثِيرٍ مِنَ التَّكْثِيرِ، وَفِي بَعْضِهَا بِقَطْعٍ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَنُكْثِرُ مِنَ الْإِكْثَارِ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْرُوفِ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَفِي بَعْضِهَا يُقَطَّعُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَيَكْثُرُ مُسْنَدًا إِلَى طَعَامِنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِأَمْرِ الطَّبْخِ، وَمَا يُصْلِحُهُ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّوَكُّلَ، بَلْ يُلَائِمُ الِاقْتِصَادَ فِي الْمَعِيشَةِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْقَنَاعَةِ، وَلَمَّا كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَثِيرَ الرِّوَايَةِ، وَالْمُطْلَقُ يُصْرَفُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ (قَالَ أَبُو عِيسَى وَجَابِرٌ هَذَا) أَيِ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا سَبَقَ (هُوَ جَابِرُ بْنُ طَارِقٍ، وَيُقَالُ: ابْنُ أَبِي طَارِقٍ) يَعْنِي لَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُكْثِرِينَ وَهُوَ وَأَبُوهُ صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (وَهُوَ) أَيْ جَابِرُ بْنُ طَارِقٍ (رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْرِفُ لَهُ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ) رُوِيَ مَعْلُومًا عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ، وَرُوِيَ مَجْهُولًا عَلَى صِيغَةِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُنْصَبُ الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ، وَعَلَى الثَّانِي يُرْفَعُ، قِيلَ: لَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ هَذَا فِي جَابِرٍ هَذَا وَتَرْكِهِ فِي ابْنِ أَسِيدٍ السَّابِقِ مَعَ أَنَّ مِثْلَهُ فِيهِ انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ حَالَ أَبِي أَسِيدٍ مَشْهُورٌ بِالنَّفْيِ عَنْ ذَلِكَ لِشُهْرَتِهِ، أَوْ أَنَّهُ حَفِظَ ذَلِكَ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ، فَبَيَّنَ مَا عَرَفَهُ وَسَكَتَ عَمًّا لَا يَعْرِفُهُ، وَزَيْدٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَأَبُو خَالِدٍ اسْمُهُ سَعْدٌ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) قِيلَ: هُوَ أَخُو الْأَخْيَافِ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) قِيلَ: اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ (أَنَّهُ) أَيْ إِسْحَاقَ (سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ غُلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي لَفْظِهِ أَنَّ مَوْلَى خَيَّاطًا دَعَاهُ (لِطَعَامٍ صَنَعَهُ فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: أَيْ إِسْحَاقُ، فَقَالَ: (أَنَسٌ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ) يَعْنِي بِطَلَبٍ مَخْصُوصٍ أَوْ تَبَعًا لَهُ لِكَوْنِهِ خَادِمًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَرَّبَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ فَقَدَّمَ الْخَيَّاطُ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا) بِفَتْحَتَيْنِ (فِيهِ دُبَّاءٌ) بِضَمِّ دَالٍ، وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ وَبِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ، الْقَرْعُ، الْوَاحِدَةُ: دُبَّاءَةٌ (وَقَدِيدٌ) أَيْ لَحْمٌ مَمْلُوحٌ مُجَفَّفٌ فِي الشَّمْسِ أَوْ غَيْرِهَا، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْقَدُّ الْقَطْعُ طُولًا كَالشِّقِّ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي السُّنَنِ عَنْ رَجُلٍ ذَبَحْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً وَنَحْنُ مُسَافِرُونَ، فَقَالَ: أَمْلِحْ لَحْمَهَا، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ (قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ) أَيْ يَتَطَلَّبُ (الدُّبَّاءَ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ) وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَإِنَّمَا كُسِرَ هُنَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَهُوَ مُفْرِدُ اللَّفْظِ مَجْمُوعُ الْمَعْنَى، أَيْ جَوَانِبِهَا، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِجَانِبِهِ دُونَ جَانِبِ الْبَقِيَّةِ أَوْ مُطْلَقًا، وَلَا يُعَارِضُهُ نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لِلْقَذَرِ وَالْإِيذَاءِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوَدُّونَ ذَلِكَ مِنْهُ لِتَبَرُّكِهِمْ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَحْوَ بُصَاقِهِ وَمُخَاطِهِ، يُدَلِّكُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ، وَقَدْ شَرِبَ بَعْضُهُمْ بَوْلَهُ، وَبَعْضُهُمْ دَمَهُ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ إِلَيْهِ وَلَا أَطْعَمُهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ مُخْتَلِفًا يَجُوزُ أَنْ يَمُدَّ الْآكِلُ يَدَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيهِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْ صَاحِبِهِ كَرَاهَةً، وَيُقَالُ: رَأَيْتُ النَّاسَ حَوْلَهُ وَحَوْلَيْهِ، وَحَوَالَيْهِ وَاللَّامُ مَفْتُوحَةٌ فِي الْجَمِيعِ وَلَا يَجُوزُ كَسْرُهَا، وَيُقَالُ: حَوَالَيِ الدَّارِ، قِيلَ: كَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ حَوَالَيْنَ، كَقَوْلِكَ: جَانِبَيْنِ فَسَقَطَتِ النُّونُ، لِلْإِضَافَةِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا»، ثُمَّ الْقَصْعَةِ بِفَتْحِ الْقَافِ هِيَ الَّتِي يَأْكُلُ مِنْهَا عَشَرَةُ أَنْفُسٍ، كَذَا فِي مُهَذِّبِ الْأَسْمَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَوَالَيِ الصَّحْفَةِ وَهِيَ الَّتِي يَأْكُلُ مِنْهَا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ عَلَى مَا فِي الْمُهَذَّبِ، وَالصِّحَاحِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: هِيَ تَسَعُ ضِعْفَيْ مَا تَسَعُ الْقَصْعَةُ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ (فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ) أَيْ مَحَبَّةً شَرْعِيَّةً لَا طَبِيعِيَّةً، أَوِ الْمُرَادُ أُحِبُّهَا مَحَبَّةً زَائِدَةً (مِنْ يَوْمِئِذٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ مُعْرَبٌ مَجْرُورٌ بِمِنْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، عَلَى اكْتِسَابِ الْبِنَاءِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَرُوِيَ بَعْدَ يَوْمِئِذٍ فَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ بَعْدَ مُضَافًا إِلَى مَا بَعْدَهُ، بَلْ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، فَحِينَئِذٍ يَوْمِئِذٍ بَيَانٌ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، وَأَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ، فَيَجُوزُ الْوَجْهَانِ، كَمَا قُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} فِي السَّبْعَةِ وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ أَكْلِ الشَّرِيفِ طَعَامَ مَنْ دُونَهُ مِنْ مُحْتَرِفٍ وَغَيْرِهِ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِ وَمُؤَاكَلَةُ الْخَادِمِ، وَبَيَانُ مَا كَانَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَاللُّطْفِ بِأَصْحَابِهِ، وَتَعَاهُدِهِمْ بِالْمَجِيءِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَفِيهِ الْإِجَابَةُ إِلَى الطَّعَامِ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا، ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَأَنَّهُ يُسَنُّ مَحَبَّةُ الدُّبَّاءِ لِمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُحِبُّهُ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَأَنَّ كَسْبَ الْخَيَّاطِ لَيْسَ بِدَنِيءٍ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَسَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) كَحَبِيبٍ (وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالُوا: أَخْبَرَنَا) وَفِي أَصْلٍ صَحِيحٍ أَنْبَأَنَا (أَبُو أُسَامَةَ) قِيلَ: اسْمُهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ) بِالْمَدِّ وَيَجُوزُ قَصْرُهُ، فَفِي الْمُغْرِبِ الْحَلْوَاءُ، الَّذِي يُؤْكَلُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْجَمْعُ الْحَلَاوَى، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقِيلَ: الْحَلْوَاءُ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ حَلَاوَةٌ، فَقَوْلُهُ: (وَالْعَسَلَ) تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمَجِيعُ، وَهُوَ تَمْرٌ يُعْجَنُ بِاللَّبَنِ، وَقِيلَ: مَا صُنِعَ وَعُولِجَ مِنَ الطَّعَامِ بِحُلْوٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْفَاكِهَةِ، وَنُقِلَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ مَقْصُورٌ يُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ مَمْدُودٌ يُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ، فَقَالَ: هِيَ بِالْقَصْرِ، فَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْحَلْوَاءُ الْعَسَلُ مِنْ جُمْلَةِ الطَّيِّبَاتِ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَدَخَلَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّ مَا شَابَهَ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَآكِلِ اللَّذِيذَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ حُبُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا عَلَى مَعْنَى كَثْرَةِ التَّشَهِّي، وَشِدَّةِ نَزْعِ النَّفْسِ لِأَجْلِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنَالُ مِنْهُمَا إِذَا حَضَرَا نَيْلًا صَالِحًا، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُعْجِبُهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى السُّكَّرَ، وَخَبَرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ مَلَاكَ أَنْصَارِيٍّ، فَجَاءَتِ الْجَوَارِي مَعَهُنَّ الْأَطْبَاقُ عَلَيْهَا اللَّوْزُ وَالسُّكَّرُ، فَأَمْسَكُوا أَيْدِيَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تَنْتَهِبُونَ، قَالُوا: إِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ النُّهْبَةِ، قَالَ: أَمَّا الْعِرْسَانُ فَلَا، قَالَ مُعَاذٌ: فَرَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاذِبُهُمْ وَيُجَاذِبُونَهُ غَيْرَ ثَابِتٍ، كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: قَالَ: وَلَا يَثْبُتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى شَيْءٌ، وَشَنَّعَ عَلَى احْتِجَاجِ الطَّحَاوِيِّ بِهِ لِمَذْهَبِهِ أَنَّ النِّثَارَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، قُلْتُ: لَوْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ لَمَا احْتَجَّ بِهِ لِمَذْهَبِهِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي رِيَاضِهِ، أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَبَصَ فِي الْإِسْلَامِ عُثْمَانُ، قَدِمَتْ عَلَيْهِ عِيرٌ تَحْمِلُ دَقِيقًا وَعَسَلًا فَخَلَطَهُمَا، وَصَحَّ أَنَّ عِيرًا قَدِمَتْ فِيهَا جَمَلٌ لَهُ عَلَيْهِ دَقِيقٌ حُوَّارَى، وَعَسَلٌ وَسَمْنٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ دَعَا بِبُرْمَةٍ فَنُصِبَتْ عَلَى النَّارِ، وَجَعَلَ فِيهَا مِنَ الْعَسَلِ وَالدَّقِيقِ وَالسَّمْنِ، ثُمَّ عُصِدَ حَتَّى نَضِجَ، ثُمَّ أُنْزِلَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا هَذَا شَيْءٌ تُسَمِّيهِ فَارِسٌ الْخَبِيصَ. (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ) بِفَتْحِ الْفَاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا الزَّعْفَرَانِيَّةُ، (أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ) بِجِيمَيْنِ مُصَغَّرًا قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ (أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ) اسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ (أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا قَرَّبَتْ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ قَدَّمَتْ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنْبًا مَشْوِيًّا) قَالَ شَارِحٌ: مِنْ شَاةٍ وَرَدَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِهَذَا التَّقْيِيدِ (فَأَكَلَ مِنْهُ) قِيلَ: الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ ذِكْرِ هَذَا عَقِبَ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ، أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَةِ، وَأَنْفَعُهَا لِلْبَدَنِ وَالْكَبِدِ وَالْأَعْضَاءِ، وَلَا يَنْفِرُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ بِهِ عِلَّةٌ، أَوْ آفَةٌ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، اللَّحْمُ سَيِّدُ الطَّعَامِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، سَيِّدُ طَعَامِ أَهْلِ الدُّنْيَا اللَّحْمُ، ثُمَّ الْأُرْزُ، وَمِنْهَا عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ عَنْ أَبِي سَمْعَانَ، سَمِعْتُ عُلَمَاءَنَا يَقُولُونَ: كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّحْمَ، وَهُوَ يَزِيدُ فِي السَّمْعِ، وَهُوَ سَيِّدُ الطَّعَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَكْلُهُ يُزِيدُ سَبْعِينَ قُوَّةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَكْلُهُ يُزِيدُ فِي الْعَقْلِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُصَفِّي اللَّوْنَ، وَيُحَسِّنُ الْخُلُقَ، وَمَنْ تَرَكَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا سَاءَ خُلُقُهُ، ذَكَرَهُ فِي الْإِحْيَاءِ (ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَمَا تَوَضَّأَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَيَكُونُ نَاسِخًا لِحَدِيثِ تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، وَيُوَافِقُهُ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ وَإِنْ كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: أَكَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِوَاءً) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَمْدُودًا أَيْ مَشْوِيًّا، يَعْنِي مَعَ الْخُبْزِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ وَفِي الْقَامُوسِ شَوَى اللَّحْمَ شَيًّا فَاشْتَوَى وَانْشَوَى، وَهُوَ الشِّوَاءُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ، وَكَغِنَى فَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ لَحْمًا ذَا شِوًى، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الشِّوَاءَ لَيْسَ مَصْدَرًا بَلِ اسْمٌ لِلَّحْمِ الْمَشْوِيِّ بِالنَّارِ (فِي الْمَسْجِدِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ أَكْلِ الطَّعَامِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى، وَمَحَلُّهُ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَا يُقَذِّرُ الْمَسْجِدَ، وَإِلَّا فَيُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ أَكْلِهِمْ عَلَى زَمَنِ الِاعْتِكَافِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ خِلَافُ الْأَوْلَى مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَلَمْ نَزِدْ عَلَى أَنْ مَسَحْنَا أَيْدِينَا بِالْحَصْبَاءِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (وَكِيعٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (عَنْ أَبِي صَخْرَةَ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: ضِفْتُ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ) قِيلَ: مَعْنَاهُ صِرْتُ ضَيْفًا لِرَجُلٍ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ أَيْ كُنْتُ لَيْلَةً ضَيْفَهُ، وَزَيَّفَ هَذَا الْقَوْلَ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: مَعَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ نَزَلْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجْلٍ ضَيْفَيْنِ لَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: ضَافَ الْقَوْمَ وَتَضَيَّفَهُمْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ ضَيْفًا، وَأَضَافُوهُ وَضَيَّفُوهُ أَنْزَلُوهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ ضِفْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ صَارَ ضَيْفًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: ضِفْتُ الرَّجُلَ إِذَا نَزَلْتُ بِهِ فِي ضِيَافَتِهِ وَأَضَفْتُهُ إِذَا أَنْزَلْتُهُ وَتَضَيَّفْتُهُ إِذَا أَنْزَلْتُ بِهِ، وَتَضَيَّفَنِي إِذَا أَنْزَلَنِي، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: ضِفْتُهُ أَضِيفُهُ ضَيْفًا، نَزَلْتُ عَلَيْهِ ضَيْفًا كَتَضَيَّفْتُهُ، وَفِي الصِّحَاحِ أَضَفْتَ الرَّجُلَ وَضَيَّفْتَهُ إِذَا أَنْزَلْتَهُ لَكَ ضَيْفًا وَقَرَّبْتَهُ، وَضِفْتُ الرَّجُلَ ضِيَافَةً، إِذَا نَزَلْتَ عَلَيْهِ ضَيْفًا، وَكَذَا تَضَيَّفْتُهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَةَ مَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مُقْحَمَةٌ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ الشَّارِحِ زَيْنِ الْعَرَبِ، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ لِمَعَ عِنْدَ الْإِضَافَةِ ثَلَاثَ مَعَانٍ، الْأَوَّلُ مَوْضِعُ الِاجْتِمَاعِ، الثَّانِي زَمَانُهُ، الثَّالِثُ مُرَادِفُهُ عِنْدَ هَذَا، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الضِّيَافَةُ فِي بَيْتِ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنَةِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَذَا أَفَادَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ جَعَلْتُهُ ضَيْفًا لِي حَالَ كَوْنِي مَعَهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَعْنَى ضِفْتُ لُغَةً (فَأُتِيَ بِجَنْبٍ مَشْوِيٍّ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَأَمَرَ بِجَنْبٍ مَشْوِيٍّ (ثُمَّ أَخَذَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الشَّفْرَةَ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَهِيَ السِّكِّينُ الْعَرِيضُ الَّذِي امْتُهِنَ بِالْعَمَلِ، وَيُسَمَّى الْخَادِمُ شَفْرَةً؛ لِأَنَّهُ يُمْتَهَنُ فِي الْأَعْمَالِ كَمَا تُمْتَهَنُ هَذِهِ فِي قَطْعِ اللَّحْمِ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ (فَحَزَّ) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ فَقَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِي) أَيْ لِأَجْلِي وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحَزَّ (بِهَا) أَيْ بِالشَّفْرَةِ وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، كَمَا فِي كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، فَيَكُونُ الْجَارُّ مُتَعَلِّقًا بِحَزَّ أَيْضًا (مِنْهُ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْجَنْبِ الْمَشْوِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَجَعَلَ أَيْ طَفِقَ وَشَرَعَ يَحُزُّ لِي، وَفِي نُسْخَةٍ فَجَعَلَ يَحُزُّ، فَحَزَّ لِي، وَأُخْرَى فَجَعَلَ يَحُزُّ لِي بِهَا مِنْهُ، وَالْحَزُّ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْحُزَّةُ بِالضَّمِّ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَزَّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَلَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ، فَإِنَّهُ مِنْ صَنِيعِ الْأَعَاجِمِ، وَانْهَشُوهُ فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ، وَقَالَا: لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتِزَازُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسِخًا لِنَهْيِهِ عَنْ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ، وَأَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ تَنْبِيهًا، عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: مَعْنَى كَوْنِهِ مِنْ صَنِيعِ الْأَعَاجِمِ أَيْ مِنْ دَأْبِهِمْ وَعَادَتِهِمْ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}: كُلُّ فَاعِلٍ لَا يُسَمَّى صَانِعًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِيهِ وَيَتَدَرَّبَ يَعْنِي لَا تَجْعَلُوا الْقَطْعَ بِالسِّكِّينِ دَأْبَكُمْ وَعَادَتَكُمْ كَالْأَعَاجِمِ، بَلْ إِذَا كَانَ نَضِيجًا فَانْهَشُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَضِيجًا فَحُزُّوهُ بِالسِّكِّينِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ فِي لَحْمٍ قَدْ تَكَامَلَ نُضْجُهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَطْيَبُ؛ وَلِذَا عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ، وَالْهَنِيُّ اللَّذِيذُ الْمُوَافِقُ لِلْغَرَضِ، وَالْمَرِيءُ مِنَ الِاسْتِمْرَاءِ هُوَ ذَهَابُ ثِقَلِ الطَّعَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِ انْهَشُوا اللَّحْمَ نَهْشًا، فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ هَذَا ضَعِيفٌ، لَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ فَهُوَ حَسَنٌ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ النَّهْشَ أَوْلَى، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا مَرَّ، أَوْ عَلَى الصَّغِيرِ وَالِاحْتِزَازُ عَلَى الْكَبِيرِ؛ لِشِدَّةِ لَحْمِهِ، هَذَا وَإِنَّمَا حَزَّ لِلْمُغِيرَةِ تَوَاضُعًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارًا لِمَحَبَّتِهِ لَهُ، لِيَتَأَلَّفَهُ لِقُرْبِ إِسْلَامِهِ، وَحَمْلًا لِغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ جَلَّتْ مَرْتَبَتُهُ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ صُدُورِ مِثْلِ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ بَلْ لِأَصَاغِرِهِمْ (قَالَ) أَيِ الْمُغِيرَةُ (فَجَاءَ بِلَالٌ) وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانَ يُعَذَّبُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَاشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَعْتَقَهُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي، شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا بَعْدَهَا وَمَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، مِنْ غَيْرٍ عَقِبٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ (يُؤْذِنُهُ) بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَيُبْدَلُ وَاوًا مِنَ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَقَدْ يُبَدَّلُ وَتَشْدِيدُ الذَّالِ مِنَ التَّأْذِينِ بِمَعْنَاهُ، لَكِنْ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْمُشَدَّدَ مُخْتَصٌّ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِإِعْلَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (بِالصَّلَاةِ) يُفِيدُ التَّجْرِيدَ، وَيُقَوِّي الرِّوَايَةَ الْأُولَى (فَأَلْقَى) أَيْ رَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الشَّفْرَةَ فَقَالَ لَهُ) أَيْ لِبِلَالٍ (تَرِبَتْ يَدَاهُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ لَصِقَتَا بِالتُّرَابِ، مِنْ شِدَّةِ الِافْتِقَارِ دَعَاءٌ بِالْعَدَمِ وَالْفَقْرِ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الزَّجْرُ، لَا وُقُوعَ الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ إِيذَانَهُ بِالصَّلَاةِ، وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْعَشَاءِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَّسِعٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِحَالِ الضَّيْفِ، وَقِيلَ: قِيَامُهُ كَانَ لِلْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْإِجَابَةِ، وَمَعْنَى تَرِبَتْ يَدَاهُ، لِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَحْلَاهُ (قَالَ) أَيْ لِلْمُغِيرَةِ (وَكَانَ شَارِبُهُ) أَيْ شَارِبُ الْمُغِيرَةِ (قَدْ وَفَى) أَيْ طَالَ، وَفِي نُسْخَةٍ وَكَانَ شَارِبُهُ وَفَاءً (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَهُ) أَيْ لِلْمُغِيرَةِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ وَشَارِبِي وَفَاءً أَيْ تَمَامًا، فَقَالَ لِي فَوَضَعَ مَكَانَ الضَّمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْغَائِبَ، إِمَّا تَجْرِيدًا أَوِ الْتِفَاتًا (أَقُصُّهُ) بِتَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ أَوْ لِمُجَرَّدِ إِخْبَارٍ (لَكَ) أَيْ لِنَفْعِكَ أَوْ لِأَجْلِ قُرْبِكَ مِنِّي (عَلَى سِوَاكٍ) أَيْ يُوضَعُ السِّوَاكُ تَحْتَ الشَّارِبِ، ثُمَّ قَصَّهُ مَا فَضَلَ عَنِ السِّوَاكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَصُّ بِالشَّفْرَةِ أَوْ بِالْمِقْرَاضِ (أَوْ قُصُّهُ) بِضَمِّ الْقَافِ وَالصَّادِ وَتُفْتَحُ أَيْ أَنْتَ (عَلَى سِوَاكٍ) وَالشَّكُّ مِنَ الْمُغِيرَةِ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْقَافِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَالَ، أَيْ قَالَ كَانَ شَارِبُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَقَصَّهُ كَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى فَقَالَ، أَيْ فَقَالَ أَقُصُّهُ أَوْ قُصَّهُ عَلَى سِوَاكٍ، ثُمَّ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ قَالَ، وَكَانَ شَارِبُهُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يُلَائِمُ وُقُوعَهُ بَعْدَ الْإِيذَانِ، وَرَمْيِ الشَّفْرَةِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَيْضًا يُزَيِّفُ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي شَارِبِهِ لِبِلَالٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ كَوْنُ بِلَالٍ قَبْلَ الْإِيذَانِ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي شَارِبِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَقُصُّهُ لَكَ أَيْ لِأَجَلِكَ تَتَبَرَّكُ بِهِ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْأَوَّلِ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا طَوِيلَ الشَّارِبِ، فَدَعَا بِسِوَاكٍ وَشَفْرَةٍ، فَوَضَعَ السِّوَاكَ تَحْتَ شَارِبِهِ، ثُمَّ حَزَّهُ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: «كَانَ شَارِبِي وَفَى فَقَصَّهُ لِي عَلَى سِوَاكٍ»، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَعْيِينُ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، أَنَّ فَاعِلَ قَالَ هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَالَ هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نَقَلَ كَلَامَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالْمَعْنَى، فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الِالْتِفَاتِ، تَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ يُوَافِقُهُ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ، فَالْعِبْرَةُ بِالْمَعْنَى وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَبْنِيُّ هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي إِحْفَائِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يُظْهِرُ بِهِ حُمْرَةَ الشَّفَةِ، وَطَرَفَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ فِي الْأَحَادِيثِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَفْضَلُ حَلْقُ الشَّارِبِ أَوْ قَصُّهُ، قِيلَ: الْأَفْضَلُ حَلْقُهُ لِحَدِيثٍ فِيهِ، وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ الْقَصُّ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، بَلْ رَأْيُ مَالِكٍ تَأْدِيبُ الْحَالِقِ، وَمَا مَرَّ عَنِ النَّوَوِيِّ قِيلَ: يُخَالِفُهُ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ عَنِ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ أَنَّهُمَا كَانَا يَحْفِيَانِهِ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، الْإِحْفَاءُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يُحْفِيهِ شَدِيدًا، وَرَأَى الْغَزَّالِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ السِّبَالَيْنِ، اتِّبَاعًا لِعُمَرَ وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتُرُ الْفَمَ، وَلَا يَبْقَى فِيهِ غَمْرُ الطَّعَامِ، إِذْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَكَرِهَ الزَّرْكَشِيُّ إِبْقَاءَهُ لِخَبَرِ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَجُوسُ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ، وَيَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ، فَخَالِفُوهُمْ، وَكَانَ يَحُزُّ سِبَالَهُ كَمَا يَحُزُّ الشَّاةَ وَالْبَعِيرَ، وَفِي خَبَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، قُصُّوا سِبَالَكُمْ، وَوَفِّرُوا لِحَاكُمْ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِّرُوا اللِّحَى وَخُذُوا مِنَ الشَّوَارِبِ، وَانْتِفُوا الْإِبِطَ، وَقُصُّوا الْأَظَافِيرَ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ وَقُصُّوا سِبَالَكُمْ، وَالْعُثْنُونُ اللِّحْيَةُ، وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَنَوَّرُ، وَكَانَ إِذَا كَثُرَ شَعْرُهُ أَيْ شَعْرُ عَانَتِهِ حَلَقَهُ، وَصَحَّ لَكِنْ أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا طَلَا بَدَأَ بِعَانَتِهِ فَطَلَاهَا بِالنَّوْرَةِ، وَسَائِرِ جَسَدِهِ، وَخَبَرُ أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ زَعَمَ الدَّمِيرِيُّ وَغَيْرُهُ وُرُودَهُ، وَفِي مُرْسَلٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّمُ أَظَافِرَهُ، وَيَقُصُّ شَارِبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَرَوَى النَّوَوِيُّ كَالْعَبَّادِيِّ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْغِنَى عَلَى كُرْهٍ، فَلْيُقَلِّمْ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ»، وَفِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ: «يَا عَلِيٌّ: قَصُّ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْغُسْلُ وَالطِّيبُ وَاللِّبَاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» قِيلَ: وَلَمْ يَثْبُتْ فِي قَصِّ الظُّفُرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَدِيثٌ، بَلْ كَيْفَ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَلَا فِي تَعْيِينِ يَوْمٍ لَهُ شَيْءٌ، وَمَا يُعْزَى مِنَ النَّظْمِ فِي ذَلِكَ لِعَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ بَاطِلٌ. (حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ) بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ (التَّيْمِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ التَّمِيمِيِّ بِمِيمَيْنِ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ عَابِدٌ مِنَ السَّادِسَةِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: إِمَامٌ ثَبْتٌ (عَنْ أَبِي زُرْعَةَ) بِضَمِّ الزَّايِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، فَقِيلَ: هِرَمٌ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ: جَرِيرٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمٍ) أَيْ جِيءَ بِبَعْضِ اللَّحْمِ (فَرَفَعَ إِلَيْهِ) أَيْ مِنْ جُمْلَتِهِ (الذِّرَاعَ) أَيِ السَّاعِدَ قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْعُرْفِ وَاللُّغَةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنَ الْمِرْفَقِ إِلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، كَمَا فِي الْمُغْرِبِ لِمُطَابَقَتِهِ لِلْعُرْفِ، أَنَّهُ إِطْلَاقُ الْكُلِّ وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ، (وَكَانَتْ) أَيِ الذِّرَاعُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الذِّرَاعُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَكَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَجَزَمَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْمُغْرِبِ بِكَوْنِهِ مُؤَنَّثًا (تُعْجِبُهُ) مِنَ الْإِعْجَابِ، قِيلَ: وَإِنَّمَا كَانَتْ تَعَجِبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُرْعَةِ نُضْجِهَا مَعَ زِيَادَةِ لِينِهَا، وَبُعْدِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْأَذَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِإِفَادَةِ زِيَادَةِ قُوَى الْقَوِيِّ بِهَا (فَنَهَسَ) بِالْمُهْمَلَةِ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الذِّرَاعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُعْجَمَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ النَّهْسُ أَخْذُ اللَّحْمِ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، وَالنَّهْشُ بِجَمِيعِهَا، وَقِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ أَخْذُ مَا عَلَى الْعَظْمِ مِنَ اللَّحْمِ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، وَقِيلَ: بِالْمُعْجَمَةِ هَذَا وَبِالْمُهْمَلَةِ تَنَاوَلُهُ بِمُقَدَّمِ الْفَمِ، وَقَدِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ تَوَاضُعًا، وَإِلَّا فَالْقَطْعُ بِالسِّكِّينِ مُبَاحٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي وَقَعَ فِي الْمِشْكَاةِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَاهَا، وَقَالَ مِيرَكُ: وَإِنَّمَا فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ؛ وَلِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ تَرْكِ التَّكَبُّرِ وَالتَّكَلُّفِ، وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ، انْتَهَى. فَمَا ثَبَتَ عَنْهُ الْقَطْعُ بِالسِّكِّينِ، يُحْمَلُ عَلَى حَالَةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى قَطْعِهِ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عَنْ زُهَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعْدِ) وَفِي نُسْخَةٍ سَعِيدِ (بْنِ عِيَاضٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ) بِالتَّذْكِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالتَّأْنِيثِ (الذِّرَاعُ قَالَ) أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (وَسُمَّ فِي الذِّرَاعِ) إِنْ كَانَ مِنَ السُّمِّ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ السُّمِّ، كَانَ الْأَمْرُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ ضَمِيرًا رَاجِعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ أُعْطِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّمَّ فِي الذِّرَاعِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السُّمِّ بِمَعْنَى جَعْلِ السُّمِّ فِي الطَّعَامِ، فَذَلِكَ الْأَمْرُ الْقَائِمُ مَقَامَهُ هُوَ فِي الذِّرَاعِ، كَذَا حَقَّقَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: جُعِلَ فِيهِ سُمٌّ قَاتِلٌ لِوَقْتِهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُقْمَةً ثُمَّ أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِأَنَّهُ مَسْمُومٌ، فَتَرَكَهُ. وَلَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ السُّمُّ يَعْنِي حِينَئِذٍ، وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَعُودُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ كُلَّ عَامٍ، حَتَّى مَاتَ بِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزِيَادَةِ حُصُولِ سَعَادَةِ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ السُّمُّ مُثَلَّثُ السِّينِ، وَالضَّمُّ أَشْهَرُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَفْصَحُهَا الْكَسْرُ (وَكَانَ) أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (يُرَى) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يَظُنُّ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ (أَنَّ الْيَهُودَ سَمُّوهُ) أَيْ أَعْطُوا الرَّسُولَ السُّمَّ، فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ الضَّمِيرُ لِلذِّرَاعِ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، ثُمَّ إِنَّمَا سَمَّتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ لِرِضَاهُمْ بِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي سَمَّتْهُ لَمْ تَسُمَّهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ شَاوَرَتْ يَهُودَ خَيْبَرَ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارُوا عَلَيْهَا بِهِ، وَاخْتَارُوا لَهَا ذَلِكَ السُّمَّ الْقَاتِلَ، وَقَدْ دَعَاهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهَا: مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَتْ: قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّهُ السُّمُّ، وَإِلَّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ، فَعَفَا عَنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِحَقِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَكَلُوا مَعَهُ مِنْهَا، وَهُوَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ قَتَلَهَا فِيهِ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي ذَلِكَ، كَخَبَرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ خَيْبَرَ دَعَا الْيَهُودَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَبِيهِمْ، فَقَالُوا: فُلَانٌ، فَقَالَ: كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ فَصَدَّقُوهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ: اخْسَئُوا فِيهَا فَوَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا، قَالَ لَهُمْ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَذَكَرُوا نَحْوَ مَا مَرَّ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَكَخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ يَهُودِيَّةً سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً، ثُمَّ أَهْدَتْهَا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ مَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: سَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ، قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ، قَالَ: هَذِهِ يَعْنِي الذِّرَاعَ، قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّهُ السُّمُّ، وَإِلَّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ، فَعَفَا عَنْهَا، وَلَمْ يُعَاقِبْهَا، وَتُوَفِّي أَصْحَابُهُ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَاحْتَجَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْلَى كَاهِلِهِ، مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ، وَكَخَبَرِ الدِّمْيَاطِيِّ جَعَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ امْرَأَةُ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ تَسْأَلُ أَيُّ الشَّاةِ أَحَبُّ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُونَ: الذِّرَاعُ، فَعَمَدَتْ إِلَى عَنْزٍ لَهَا فَذَبَحَتْهَا، وَصَلَتْهَا ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى سُمٍّ يَقْتُلُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَقَدْ شَاوَرَتْ يَهُودَ فِي سُمُومٍ، فَاجْتَمَعُوا لَهَا عَلَى ذَلِكَ، فَسَمَّتِ الشَّاةَ وَأَكْثَرَتْ فِي الذِّرَاعَيْنِ وَالْكَتِفِ، فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، وَتَنَاوَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذِّرَاعَ فَانْتَهَسَ مِنْهَا، وَتَنَاوَلَ بِشْرٌ عَظْمًا آخَرَ، فَلَمَّا ازْدَرَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُقْمَتَهُ، ازْدَرَدَ بِشْرٌ مَا فِي فِيهِ، وَأَكَلَ الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الذِّرَاعَ تُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ، وَفِيهِ أَنَّ بِشْرًا مَاتَ، وَأَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَقَتَلُوهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْهَا، وَأَجَابَ السُّهَيْلِيُّ بِمَا مَرَّ أَنَّهُ تَرَكَهَا أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا مَاتَ بِشْرٌ قَتَلَهَا فِيهِ، وَأَبْدَاهُ الْبَيْهَقِيُّ احْتِمَالًا، وَعِنْدَ الزُّهْرِيِّ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ، فَتَرَكَهَا وَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَرَكَهَا لِإِسْلَامِهَا وَلِكَوْنِهِ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، مَاتَ بِشْرٌ فَلَزِمَهَا الْقِصَاصُ بِشَرْطِهِ، فَدَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَقَتَلُوهَا قِصَاصًا، أَقُولُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمَّا أَسْلَمَتْ تَرَكُوا الْقِصَاصَ، ثُمَّ إِسْلَامُهَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي مَغَازِيهِ، وَأَنَّهَا اسْتَدَلَّتْ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ السُّمِّ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ جِبْرِيلَ وَالشَّاةَ مَا أَخْبَرَاهُ قَبْلَ تَنَاوُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، لِتَظْهَرَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ، وَلِيَكُونَ سَبَبًا لِإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ، وَحُجَّةً عَلَى مَنْ عَانَدَ فِي كُفْرِهِ وَتَصَمَّمَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ (بْنُ زَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ بِلَا تَاءٍ، وَهُوَ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَلَهُ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (قَالَ: طَبَخْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِدْرًا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ شَاةً أَوْ لَحْمًا فِي قِدْرٍ، فَذَكَرَ الْقِدْرَ، وَأَرَادَ مَا فِيهِ مَجَازًا، بِذِكْرِ الْمَحَلِّ، وَإِرَادَةِ الْحَالِّ، ثُمَّ مَا قَدَّرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ طَعَامًا فِي قِدْرٍ، (وَكَانَ يُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ فَنَاوَلْتُهُ) أَيْ أَعْطَيْتُهُ (الذِّرَاعَ) ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا نَاوَلَهُ بِلَا طَلَبٍ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يُعْجِبُهُ (ثُمَّ قَالَ: نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ فَنَاوَلْتُهُ) أَيِ الذِّرَاعَ فَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُنَا مَحْذُوفٌ (ثُمَّ قَالَ: نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَمْ لِلشَّاةِ مِنْ ذِرَاعٍ) الْوَاوُ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ أَوْ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ نَاوَلْتُكَ الذِّرَاعَيْنِ، وَكَمْ لِلشَّاةِ مِنْ ذِرَاعٍ، حَتَّى أُنَاوِلَكَ ثَالِثًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ أَوْ تَعَجُّبٌ لَا إِنْكَارٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَقَامِ (فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَيْ بِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا، وَفِيهَا الْمَذْهَبَانِ الْمَشْهُورَانِ: التَّأْوِيلُ إِجْمَالًا، وَهُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ظَوَاهِرِهَا، وَتَفْوِيضُ التَّفْصِيلِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَالتَّأْوِيلُ تَفْصِيلًا، وَهُوَ مُخْتَارُ أَكْثَرِ الْخَلَفِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ السَّلَفُ عَدَمَ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُضْطَرُّوا إِلَيْهِ لِقِلَّةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ فِي زَمَانِهِمْ وَآثَرَ الْخَلَفُ التَّفْصِيلَ؛ لِكَثْرَةِ أُولَئِكَ فِي زَمَانِهِمْ، وَعَدَمِ إِقْنَاعِهِمْ بِالتَّنْزِيهِ الْمُجَرَّدِ؛ وَلِذَا زَلَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَدَمُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ (لَوْ سَكَتَّ) أَيْ عَمَّا قُلْتَ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ، وَامْتَثَلْتَ أَمْرِي فِي مُنَاوَلَةِ الْمُزَادِ (لَنَاوَلْتَنِي الذِّرَاعَ) أَيْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ (مَا دَعَوْتُ) أَيْ مُدَّةَ مَا طَلَبْتُ الذِّرَاعَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ يَخْلُقُ فِيهَا ذِرَاعًا بَعْدَ ذِرَاعٍ مُعْجِزَةً وَكَرَامَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَفٌ وَكَرَمٌ. قِيلَ: وَإِنَّمَا مَنَعَ كَلَامُهُ تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ؛ لِأَنَّهُ شَغَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى رَبِّهِ، بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى جَوَابِ سُؤَالِهِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ خَارِقَ الْعَادَةِ، يَكُونُ فِي حَالَةِ الْفَنَاءِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَعَدَمِ الشُّعُورِ عَنِ السَّوَاءِ، حَتَّى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَعْرِفُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَكَيْفَ فِي حَالِ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ، أَوْلِيَائِي تَحْتَ قِبَابِي لَا يَعْرِفُهُمْ غَيْرِي. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. هَذَا وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ أُهْدِيَتْ لَهُ شَاةٌ فَجَعَلَهَا فِي قِدْرٍ، فَدَخَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: شَاةٌ أُهْدِيَتْ لَنَا، قَالَ: نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ فَنَاوَلْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ الْآخَرَ فَنَاوَلْتُهُ، فَقَالَ: نَاوِلَنِي الذِّرَاعَ الْآخَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا لِلشَّاةِ ذِرَاعَانِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَكَتَّ لَنَاوَلْتَنِي ذِرَاعًا فَذِرَاعًا مَا سَكَتُّ، الْحَدِيثَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ. (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ) بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ (عَنْ فُلَيْحِ) بِضَمِّ فَاءٍ وَفَتْحِ لَامٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ (بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبَّادٍ) قَبِيلَةٌ (يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا كَانَتِ) وَفِي نُسْخَةٍ مَا كَانَ (الذِّرَاعُ أَحَبَّ اللَّحْمِ) وَفِي نُسْخَةٍ بِأَحَبِّ اللَّحْمِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَطْيَبَ اللَّحْمِ لَحْمُ الظَّهْرِ». (وَلَكِنَّهُ كَانَ لَا يَجِدُ اللَّحْمَ إِلَّا غِبًّا) بِكَسْرِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، لَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنْ يُؤْتَى بِاللَّحْمِ. (وَكَانَ يَعْجَلُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ يُسْرِعُ (إِلَيْهَا) أَيْ إِلَى الذِّرَاعِ (لِأَنَّهَا أَعْجَلُهَا) أَيْ أَسْرَعُ اللُّحُومِ (نُضْجًا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ طَبْخًا، وَضَمِيرُ أَعْجَلُهَا إِلَى اللُّحُومِ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَجِدُ اللَّحْمَ؛ لِأَنَّهُ مُفْرَدٌ مُحَلًّى بِاللَّامِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَجَعَلَهُ لِلَّحْمِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ تَأْنِيثَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قِطْعَةٌ لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ، وَلَعَلَّ تَعْجِيلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الذِّرَاعِ فَرَاغُهُ مِنْ أَمْرِ الْأَكْلِ، وَتَوَجُّهُهُ إِلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَبَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذِّرَاعَ لِنُضْجِهَا وَسُرْعَةِ اسْتِمْرَائِهَا مَعَ زِيَادَةِ لَذَّتِهَا وَحَلَاوَةِ مَذَاقِهَا، وَبُعْدِهَا عَنْ مَوَاضِعِ الْأَذَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا بِحَسَبِ مَا فَهِمَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَإِلَّا فَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ وَغَيْرُهَا أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّهُ مَحَبَّةً غَرِيزِيَّةً طَبِيعِيَّةً، سَوَاءٌ فَقَدَ اللَّحْمَ أَمْ لَا، وَكَأَنَّهَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ تَنْزِيهَ مَقَامِهِ الشَّرِيفِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَيْلٌ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَلَاذِّ، وَإِنَّمَا سَبَبُ الْمَحَبَّةِ سُرْعَةُ نُضْجِهَا، فَيَقِلُّ الزَّمَنُ فِي الْأَكْلِ، وَيَتَفَرَّغُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَا مَحْذُورَ فِي مَحَبَّةِ الْمَلَاذِّ بِالطَّبْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ كَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ الْمُنَافِي لِلْكَمَالِ الْتِفَاتُ النَّفْسِ وَعَنَاؤُهَا فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ، وَتَأَثُّرُهَا لِفَقْدِهِ. وَمِمَّا كَانَ يُحِبُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا الرَّقَبَةُ، عَلَى مَا وَرَدَ عَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهَا ذَبَحَتْ شَاةً فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَطْعِمِينَا مِنْ شَاتِكُمْ، فَقَالَتْ: مَا بَقِيَ عِنْدَنَا إِلَّا الرَّقَبَةُ، وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ أُرْسِلَ بِهَا، فَقَالَ لِلرَّسُولِ ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَقَالَ: أَرْسِلِي بِهَا فَإِنَّهَا هَادِيَةُ الشَّاةِ، وَأَقْرَبُ الشَّاةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الْأَذَى. فَهِيَ كَلَحْمِ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ، أَخَفُّ عَلَى الْمَعِدَةِ، وَأَسْرَعُ هَضْمًا، وَمِنْ ثَمَّةَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثَرَ مِنَ الْغِذَاءِ مَا كَثُرَ نَفْعُهُ، وَتَأْثِيرُهُ فِي الْقُوَى، وَخَفَّ عَلَى الْمَعِدَةِ، وَكَانَ أَسْرَعَ انْحِدَارًا عَنْهَا وَهَضْمًا؛ لِأَنَّ مَا جَمَعَ ذَلِكَ أَفْضَلَ الْغِذَاءِ. وَوَرَدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ الْكُلْيَتَيْنِ، لِمَكَانِهِمَا مِنَ الْبَوْلِ، قُلْتُ: رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي الطِّبِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَوَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ مِنَ الشَّاةِ سَبْعًا: الْمَرَارَةَ، وَالْمَثَانَةَ، وَالْحَيَاءَ، وَالذَّكَرَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَالْغُدَّةَ، وَالدَّمَ، وَكَانَ أَحَبَّ الشَّاةِ إِلَيْهِ مُقَدَّمُهَا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا، وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ الضَّبَّ، رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ عَائِشَةَ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا مِنْ فَهْمٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ قَبِيلَةٌ، وَاسْمُ هَذَا الشَّيْخِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ الْفَهْمِيُّ، وَيُقَالُ: اسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، قَالَ مِيرَكُ: وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي فِي الْإِسْنَادِ عَنْ شَيْخٍ مِنْ فَهْمٍ غَيْرِ مُسَمًّى (يَقُولُ) كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، قَالَ بِلَفْظِ الْمَاضِي (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَطْيَبَ اللَّحْمِ) أَيْ: أَلَذَّهُ وَأَلْطَفَهُ، فَأَطْيَبُ بِمَعْنَى أَحْسَنَ (لَحْمُ الظَّهْرِ) أَوْ مَعْنَاهُ أَطْهَرُ؛ لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ مِنَ الْأَذَى؛ وَلَعَلَّ فِيهِ تَقْوِيَةً لِلظَّهْرِ أَيْضًا وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، أَنَّ أَطْيَبِيَّتَهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا تَنَاوَلَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يَذُقْ لَمْ يَعْرِفْ، وَيُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ قِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ، وَيُقَالُ: اسْمُ أَبِي مُلَيْكَةَ: زُهَيْرٌ (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ) كَانَ الْمُنَاسِبُ ذِكْرُ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مُتَّصِلًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْبَابِ. (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةٌ (مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ) بِتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَاسْمُهُ شُعْبَةُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ مُحَمَّدٌ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ سَالِمٌ، أَوْ رُؤْبَةُ أَوْ مُسْلِمٌ، أَوْ خِدَاشٌ أَوْ مُطَرَّفٌ، أَوْ حَمَّادٌ أَوْ خُبَيْبٌ، عَشَرَةُ أَقْوَالٍ، وَهُوَ الْمُقْرِي صَاحِبُ عَاصِمٍ الْقَارِئِ الْمَشْهُورِ (عَنْ ثَابِتٍ أَبِي حَمْزَةَ) وَفِي نُسْخَةٍ: ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ (الثُّمَالِيِّ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ، وَخِفَّةِ الْمِيمِ مَنْسُوبٌ إِلَى ثُمَالَةَ، وَهُوَ لَقَبُ عَوْفِ بْنِ أَسْلَمَ أَحَدُ أَجْدَادِ أَبِي حَمْزَةَ، وَلُقِّبَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْقِيهِمُ اللَّبَنَ بِثُمَالَتِهِ أَيْ بِرَغْوَتِهِ، رَوَى عَنْ أَنَسٍ وَعِدَّةٍ وَعَنْهُ وَكِيعٌ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَخَلْقٌ ضَعَّفُوهُ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (عَنْ أُمِّ هَانِئٍ) بِهَمْزٍ فِي آخِرِهِ، قَالَ مِيرَكُ: هِيَ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْمُهَا فَاخِتَةُ، وَقِيلَ: هِنْدٌ، لَهَا صُحْبَةٌ وَأَحَادِيثُ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فِي بَيْتِي يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (فَقَالَ: أَعِنْدَكِ شَيْءٌ) أَيْ مِمَّا يُؤْكَلُ (فَقُلْتُ: لَا إِلَّا خُبْزٌ يَابِسٌ وَخَلٌّ) الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ وَالْمُسْتَثْنَى بَدَلٌ مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ فِي الصِّحَاحِ قَوْلُ عَائِشَةَ: «لَا إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ»، قَالَ الْمَالِكِيُّ: فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى إِبْدَالِ مَا بَعْدَ إِلَّا مِنْ مَحْذُوفٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا شَيْءٌ عِنْدَنَا إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ عِنْدَنَا، فَلَيْسَتْ لَا الَّتِي لِنَفِي الْجِنْسِ مِمَّا بَعْدَ إِلَّا مُسْتَثْنًى اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا بِمَا قَبْلَهَا، الدَّالُّ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ انْتَهَى. وَبَعْدَهُ لَا يَخْفَى، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ عَنْهَا، وَالْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَفْظُهُمْ: «مَا أَقْفَرَ مِنْ أُدُمٍ بَيْتٌ فِيهِ خَلٌّ» فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَيُحْمَلُ التَّغْيِيرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. قِيلَ: مِنْ حَقِّ أُمِّ هَانِئٍ أَنْ تُجِيبَ بِبَلَى عِنْدِي خُبْزٌ، فَلِمَ عَدَلَتْ عَنْهُ إِلَى تِلْكَ الْعِبَارَةِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا عَظَّمَتْ شَأْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَتْ أَنَّ الْخُبْزَ الْيَابِسَ وَالْخَلَّ لَا يَصْلُحَانِ أَنْ يُقَدَّمَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الضَّيْفِ، فَمَا عَدَّتْهُمَا بِشَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّةَ طَيَّبَ خَاطِرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَرَ حَالَهَا (فَقَالَ: هَاتِي) أَيْ أَعْطِي اسْمَ فِعْلٍ قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْضِرِي أَيْ مَا عِنْدَكِ، وَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ بِقَرِينَةِ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ (مَا أَقْفَرَ) أَيْ مَا خَلَا (بَيْتٌ مِنْ أُدُمٍ) بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِأَقْفَرَ (فِيهِ خَلٌّ) صِفَةُ بَيْتٍ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْأَجْنَبِيِّ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ حَالٌ، وَذُو الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَوْصُوفِيَّةِ، أَيْ بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ، كَذَا قَالَهُ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ، وَفِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ لِلسَّيِّدِ فِي بَحْثِ الْفَصَاحَةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَأَنَّ مَجِيءَ الْحَالِ عَنِ النَّكِرَةِ الْعَامَّةِ بِالنَّفْيِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صِفَةٌ لِبَيْتٍ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ أَقْفَرَ عَامِلٌ فِي بَيْتٍ وَصِفَتِهِ وَفِيمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ مَا خَلَا مِنَ الْإِدَامِ، وَلَا عُدِمَ أَهْلُهُ الْإِدَامَ، وَالْقَفَارُ الطَّعَامُ بِلَا إِدَامٍ، وَأَقْفَرَ الرَّجُلُ إِذَا أَكَلَ الْخُبْزَ وَحْدَهُ مِنَ الْقَفْرِ، وَالْقِفَارُ وَهِيَ الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ الَّتِي لَا مَاءَ فِيهَا. قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَتَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ بِالْفَاءِ وَالْقَافِ، وَلَيْسَ بِرِوَايَةٍ وَدِرَايَةٍ، قُلْتُ: أَمَّا الدِّرَايَةُ فَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ مَعْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ، مَا احْتَاجَ وَلَا افْتَقَرَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ أَجْلِ إِدَامٍ، وَيَكُونُ فِي بَيْتِهِمْ خَلٌّ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَقَدْ وَجَدْنَا بِخَطِّ الشَّيْخِ نُورِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الْأَيْجَبِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ، أَنَّهُ «أَفْقَرَ» نُسْخَةٌ. ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ لِلْخُبْزِ وَالْخَلِّ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِسُؤَالِ الطَّعَامِ مَنْ لَا يَسْتَحْيِ السَّائِلُ مِنْهُ، لِصِدْقِ الْمَحَبَّةِ وَالْعِلْمِ بِمَوَدَّةِ الْمَسْئُولِ، لِذَلِكَ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَارِقٍ الْبَجَلِيِّ (عَنْ مُرَّةَ) أَيِ ابْنِ شَرَاحِيلَ (الْهَمْدَانِيِّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ نِسْبَةً إِلَى الْقَبِيلَةِ (عَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ الْأَشْعَرِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ) أَيْ مُطْلَقًا أَوْ نِسَاءِ زَمَانِهَا أَوْ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كُنَّ فِي زَمَانِهَا (كَفَضْلِ الثَّرِيدِ) فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْخُبْزُ الْمَأْدُومُ بِالْمَرَقِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ اللَّحْمِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَلَذُّ وَأَقْوَى، وَهُوَ الْأَغْلَبُ (عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) أَيْ بَاقِي الْأَطْعِمَةِ وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ مِنْ جِنْسِهِ بِلَا ثَرِيدٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بِسَائِرِ الطَّعَامِ جَمِيعِهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّرِيدُ مِنَ الْخُبْزِ، وَالثَّرِيدُ مِنَ الْحَيْسِ. وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: الْبَرَكَةُ فِي ثَلَاثَةٍ فِي الْجَمَاعَةِ وَالثَّرِيدِ وَالسَّحُورِ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: الثَّرِيدُ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرَقِ، فَثَرِيدُ اللَّحْمِ أَفْضَلُ مِنْ مَرَقِهِ، وَثَرِيدُ مَا لَا لَحْمَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ مَرَقِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ فَضْلِ الثَّرِيدِ نَفْعُهُ، وَالشِّبَعُ مِنْهُ، وَسُهُولَةُ مَسَاغِهِ، وَالِالْتِذَاذُ بِهِ، وَيُسْرُ تَنَاوُلِهِ، وَتَمَكُّنُ الْإِنْسَانِ مِنْ أَخْذِ كِفَايَتِهِ مِنْهُ بِسُرْعَةٍ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرَقِ، وَمِنْ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ، مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّاتِ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمُ الثَّرِيدُ أَحَدُ اللَّحْمَيْنِ، وَفِي النِّهَايَةِ بَلِ اللَّذَّةُ وَالْقُوَّةُ إِذَا كَانَ اللَّحْمُ نَضِيجًا فِي الْمَرَقِ، أَكْثَرَ مِمَّا فِي نَفْسِ اللَّحْمِ، وَقَالَ الْأَطِبَّاءُ: هُوَ يُعِيدُ الشَّيْخَ إِلَى صِبَاهُ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفَضَائِلَ الَّتِي اجْتَمَعَتْ فِي عَائِشَةَ، مَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ مِنْ كَوْنِهَا امْرَأَةَ أَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبَّ النِّسَاءِ إِلَيْهِ، وَأَعْلَمَهُنَّ وَأَنْسَبَهُنَّ وَأَحْسَبَهُنَّ، وَإِنْ كَانَتْ لِخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ وُجُوهٌ أُخَرُ مِنَ الْفَضَائِلِ الْبَهِيَّةِ، وَالشَّمَائِلِ الْعَلِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْهَيْئَةَ الْجَامِعِيَّةَ فِي الْفَضِيلَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالثَّرِيدِ، لَمْ تُوجَدْ فِي غَيْرِهَا؛ وَلِهَذَا قِيلَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَفْضَلِيَّةِ عَائِشَةَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ فَضْلَ الثَّرِيدِ عَلَى بَاقِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ جِهَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَفْضَلِيَّةَ، مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ فَاطِمَةَ وَخَدِيجَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الثَّرِيدَ مَعَ اللَّحْمِ جَامِعٌ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَاللَّذَّةِ، وَسُهُولَةِ التَّنَاوُلِ، وَقِلَّةِ الْمُدَّةِ فِي الْمَضْغِ، فَضُرِبَ بِهِ مَثَلًا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّهَا أُعْطِيَتْ مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَحَلَاوَةِ النُّطْقِ، وَفَصَاحَةِ اللَّهْجَةِ، وَجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ، وَرَزَانَةِ الرَّأْيِ، وَرَصَانَةِ الْعَقْلِ، التَّحَبُّبَ إِلَى الْبَعْلِ، فَهِيَ تَصْلُحُ لِلتَّبَعُّلِ وَالتَّحَدُّثِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِهَا، وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا وَحَسْبُكَ أَنَّهَا عَقَلَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَعْقِلْ غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَرَوَتْ مَا لَمْ يَرْوِ مِثْلُهَا مِنَ الرِّجَالِ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ الْأَنْصَارِيُّ أَبُو طُوَالَةَ) بِضَمِّ الطَّاءِ كَانَ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ حَتَّى آسِيَةَ، وَأُمِّ مُوسَى، فِيمَا يَظْهَرُ، وَإِنِ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ آسِيَةَ وَضَمَّ إِلَيْهَا مَرْيَمَ، وَمَا قَالَهُ فِيهِمَا مُحْتَمِلٌ لِحَدِيثِ: فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بَعْدَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَإِذَا فُضِّلَتْ فَاطِمَةُ، فَعَائِشَةُ أَوْلَى وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَأْوِيلِ النِّسَاءِ بِنِسَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِتَخْرُجَ مَرْيَمُ وَأُمُّ مُوسَى وَحَوَّاءُ وَآسِيَةُ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي غَيْرِ مَرْيَمَ وَآسِيَةَ، نَعَمْ. تُسْتَثْنَى خَدِيجَةُ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ عَائِشَةَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِتَصْرِيحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرْزَقْ خَيْرًا مِنْ خَدِيجَةَ، وَفَاطِمَةُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا، إِذْ لَا يَعْدِلُ بَضْعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ بَقِيَّةَ أَوْلَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَاطِمَةَ، وَأَنَّ سَبَبَ الْأَفْضَلِيَّةِ مَا فِيهِنَّ مِنَ الْبَضْعَةِ الشَّرِيفَةِ، وَمِنْ ثَمَّةَ حَكَى السُّبْكِيُّ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ عَصْرِهِ، أَنَّهُ فَضَّلَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، أَيْ مِنْ حَيْثُ الْبَضْعَةِ لَا مُطْلَقًا، فَهُمْ أَفْضَلُ مِنْهَا عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَأَكْثَرُ ثَوَابًا وَآثَارًا فِي الْإِسْلَامِ، قُلْتُ: إِذَا لُوحِظَتِ الْحَيْثِيَّةُ فَمَا يُوجَدُ أَفْضَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُطْلَقًا؛ وَلِذَا قِيلَ: أَنَّ عَائِشَةَ أَفْضَلُ مِنْ فَاطِمَةَ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَكُونُ مَعَ زَوْجَيْهِمَا فِي الْجَنَّةِ، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِ مَنْزِلَتِهِمَا، هَذَا وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي إِتْمَامِ الدِّرَايَةِ شَرْحِ النُّقَايَةِ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ أَفْضَلَ النِّسَاءِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ»، وَفِي الصَّحِيحِ: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ»، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ لِيُسَلِّمَ عَلَيَّ وَبَشَّرَنِي أَنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأُمَّهُمَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَمْعِ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، حَتَّى تَمُرَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْضِيلِهَا عَلَى مَرْيَمَ خُصُوصًا، إِذَا قُلْنَا: بِالْأَصَحِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَبِيَّةً، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ، مَرْيَمُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَفَاطِمَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا فَاطِمَةُ»، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمُرْسَلُ يُفَسِّرُ الْمُتَّصِلَ، قُلْتُ: يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ خَدِيجَةُ، ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، بَعْدَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ»، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ رَكِبَتْ بَعِيرًا مَا فَضَّلْتُ عَلَيْهَا أَحَدًا»، ثُمَّ قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ أَفْضَلَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ وَآسِيَةُ وَخَدِيجَةُ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ. وَفِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا الْوَقْفُ، قُلْتُ: وَقَدْ صَحَّحَ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ قَالَتْ: قَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَزَقَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، آمَنَتْ بِي حِينَ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَأَعْطَتْنِي مَالَهَا حِينَ حَرَمَنِي النَّاسُ. وَسُئِلَ ابْنُ دَاوُدَ، فَقَالَ: عَائِشَةُ أَقْرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ مِنْ جِبْرِيلَ وَخَدِيجَةُ أَقْرَأَهَا السَّلَامَ جِبْرِيلُ مِنْ رَبِّهَا، فَهِيَ أَفْضَلُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، فَقِيلَ: فَأَيٌّ أَفْضَلُ فَاطِمَةُ أَمْ أُمُّهَا؟ قَالَ: فَاطِمَةُ بَضْعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا نَعْدِلُ بِهَا أَحَدًا. وَسُئِلَ السُّبْكِيُّ، فَقَالَ: الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنُدِينُ اللَّهَ بِهِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَفْضَلُ، ثُمَّ أُمَّهَا خَدِيجَةَ، ثُمَّ عَائِشَةَ، وَعَنِ ابْنِ الْعِمَادِ، أَنَّ خَدِيجَةَ إِنَّمَا فُضِّلَتْ عَلَى فَاطِمَةَ بِاعْتِبَارِ الْأُمُومَةِ، لَا السِّيَادَةِ، انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَيْثِيَّاتِ مُخْتَلِفَةٌ، وَالرِّوَايَاتِ مُتَعَارِضَةٌ، وَالْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ، وَالتَّوَقُّفَ لَا ضَرَرَ فِيهِ قَطْعًا، فَالتَّسْلِيمَ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ) قِيلَ: اسْمُهُ ذَكْوَانُ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرَهُ (تَوَضَّأَ مِنْ ثَوْرِ أَقِطٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ مُثَلَّثَةٌ، وَيُحَرَّكُ وَكَكَتِفٍ وَرَجُلٍ وَإِبِلٍ، شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْمَخِيضِ الْغَنَمِيِّ، وَالْمَعْنَى مِنْ أَجْلِ أَكْلِ قِطْعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْأَقِطِ، فَفِي الْقَامُوسِ الثَّوْرُ الْقِطْعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْأَقِطِ، فَفِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ بَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ (ثُمَّ رَآهُ أَكَلَ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) أَيِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ، وَهُوَ الْوُضُوءُ مِنْ ثَوْرِ أَقِطٍ، قَدْ نُسِخَ بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآخِرَةٍ مِنْ أَكْلِهِ كَتِفَ الشَّاةِ، وَعَدَمَ تَوَضُّئِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ثُمَّ الْمُقْتَضِيَةُ لِلتَّرَاخِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ: الثَّوْرُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَقِطِ، فَعَلَى هَذَا الْإِضَافَةُ فِي ثَوْرِ أَقِطٍ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ، أَوِ الْبَيَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّوْرُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ: الْقِطْعَةُ، وَثَوْرُ أَقِطٍ: قِطْعَةٌ مِنْهُ، وَهُوَ لَبَنٌ جَامِدٌ مُسْتَحْجِرٌ بِالطَّبْخِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، وَلَوْ مِنْ ثَوْرِ أَقِطٍ، يُرِيدُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَتَوَضَّأُ مِنْ أَثْوَارِ أَقِطٍ أَكَلْتُهَا، انْتَهَى. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ تَوَضَّأَ احْتِيَاطًا أَوْ أَرَادَ غَسْلَ فَمِهِ، وَكِلَاهُمَا لَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، نَعَمْ خِلَافُ الْأَوْلَى لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ ارْتِكَابُهُ لِضَرُورَةٍ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّوَضُّؤَ أُرِيدَ بِهِ فِي مَقَامَيِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَوَّلًا: مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ غَسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ وَتَنْظِيفُهُ، وَثَانِيًا: مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ حَتَّى يَنْدَفِعَ التَّدَافُعُ بَيْنَهُمَا، إِذَا تَقَرَّرَ، فَنَقُولُ: أَنَّ تَوَضُّأَهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ أَوَّلًا، وَعَدَمَهُ ثَانِيًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَعَدَمِهِ، فَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَتَوَضَّأْ»، وَهَذَا التَّوْجِيهُ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالتَّوَضُّؤِ هُنَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ أَوِ الشَّرْعِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، أَنَّ وَضُوأَهُ أَوَّلًا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْأَمْرِ، ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا، فَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالَهُ مُحْيِي السُّنَّةِ أَنَّ حَدِيثَ تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ مَنْسُوخٌ، بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ الْمَتْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْوُضُوءِ فِي مَوْضِعَيْهِ، مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ أَوِ الشَّرْعِيُّ، وَيُتَصَوَّرُ أَرْبَعَ صُوَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْوُضُوءَ الْأَوَّلَ كَانَ بَعْدَ الْأَكْلِ أَوْ قَبْلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ شَارِحٌ: قِيلَ: الْمُرَادُ غَسْلُ الْفَمِ وَالْكَفَّيْنِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَالْأَظْهَرُ اسْتِحْبَابُهُ أَوَّلًا إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ نَظَافَةَ الْيَدِ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالْوَسَخِ، وَاسْتِحْبَابُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ، إِلَّا أَنْ لَا يَبْقَى عَلَى الْيَدِ أَثَرُ الطَّعَامِ، بِأَنْ كَانَ يَابِسًا أَوْ لَمْ يَمَسَّهُ بِهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدِ لِلطَّعَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْيَدِ قَذَرًا، وَيَبْقَى عَلَيْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ رَائِحَةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، فَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، مِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إِلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ بِأَكْلِهِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ، مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ بِجَوَابَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ بِأَسَانِيدِهِمُ الصَّحِيحَةِ، وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُضُوءِ غَسْلُ الْفَمِ وَالْكَفَّيْنِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْخِلَافَ الَّذِي حَكَيْنَاهُ كَانَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ بِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ ثَوْرَ الْأَقِطِ، وَكَتِفَ الشَّاةِ بِطَرِيقِ الِائْتِدَامِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْإِدَامِ عَادَةً، فَاعْتُبِرَ الْعُرْفُ وَحُمِلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فَذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ) قِيلَ: اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا عُمَرَ كُنْيَةُ يَحْيَى (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ وَائِلِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِيهِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ) بِالْهَمْزِ وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِتَمْرٍ وَسَوِيقٍ) أَيْ جَعَلَ طَعَامَ وَلِيمَتِهِ عَلَيْهَا مِنْ تَمْرٍ وَسَوِيقٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ، وَهُوَ الطَّعَامُ الْمُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ وَالْأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَقَدْ يُجْعَلُ عِوَضَ الْأَقِطِ الدَّقِيقُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْحَيْسُ الْخَلْطُ، وَتَمْرٌ يُخْلَطُ بِسَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَيُعْجَنُ شَدِيدًا ثُمَّ يُنْدَرُ مِنْهُ نَوَاهُ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِيهِ سَوِيقٌ، قِيلَ: الْوَلِيمَةُ اسْمٌ لِطَعَامِ الْعُرْسِ خَاصَّةً وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْوَلْمِ، وَهُوَ الْجَمْعُ وَزْنًا وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ. وَنُقِلَ عَنِ الْكَشَّافِ أَنَّ اسْمَ الْوَلِيمَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ دَعْوَةٍ تُتَّخَذُ لِسُرُورٍ خَاصٍّ مِنْ نِكَاحٍ، وَخِتَانٍ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنِ اسْتُعْمِلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي النِّكَاحِ، وَيُقَيَّدُ فِي غَيْرِهِ، فَيُقَالُ وَلِيمَةُ الْخِتَانِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَصَفِيَّةُ هَذِهِ بِنْتُ حُيَيِّ بِنِ أَخْطَبَ الْيَهُودِيِّ، وَهِيَ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهِيَ مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ قَوْمِهَا، كَانَتْ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَوَقَعَتْ فِي السَّبْيِ، وَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ، وَكَانَتْ رَأَتْ قَبْلُ أَنَّ الْقَمَرَ سَقَطَ فِي حِجْرِهَا، فَتَأَوَّلَ بِذَلِكَ، قَالَ الْحَاكِمُ: وَكَذَا جَرَى لِجُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ وَقَعَتْ فِي يَدِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، وَأَسْلَمَتْ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَمَاتَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ هَذَا. وَنَقَلَ الْقَاضِي اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْإِجَابَةِ فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ، وَقَالَ: اخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهَا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ: لَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهَا، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِلَى كُلِّ دَعْوَةٍ مِنْ عُرْسٍ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ، لَكِنَّ مَحَلَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ أَوْ عُرْفِيٌّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْوَلِيمَةُ طَعَامٌ يُصْنَعُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْأَفْضَلُ فِعْلُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ) وَفِي نُسْخَةٍ سُفْيَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَهِيَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ سُفْيَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَمْ يُذْكَرْ فِي الرُّوَاةِ (الْبَصْرِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُكْسَرُ (حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْفَضْلُ، قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: كَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمَسْمُوعَةِ فِي بِلَادِنَا، وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ فُضَيْلٌ بِالتَّصْغِيرِ، كَمَا وَجَدْنَاهُ فِي النُّسَخِ الشَّامِيَّةِ (بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي) وَفِي نُسْخَةٍ ثَنَا (فَائِدٌ) بِالْفَاءِ (مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ) هُوَ الْقِبْطِيُّ وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَقِيلَ: أَسْلَمُ، أَوْ ثَابِتٌ أَوْ هُرْمُزُ (مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: هُوَ أَبُو رَافِعٍ أَسْلَمُ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، كَانَ قِبْطِيًّا وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ، فَوَهَبَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَشَّرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِ الْعَبَّاسِ أَعْتَقَهُ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ بَدْرٍ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ قَبْلَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِيَسِيرٍ (قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ) أَيِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ (عَنْ جَدَّتِهِ سَلْمَى) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهِيَ زَوْجَةُ أَبِي رَافِعٍ (أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْحُسَيْنَ بِالتَّصْغِيرِ بَدَلًا عَنِ الْحَسَنِ (وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ جَعْفَرٍ) أَيْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (أَتَوْهَا) أَيْ جَاءُوا سَلْمَى زَائِرِينَ لَهَا (فَقَالُوا) أَيْ بَعْضُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ لَهَا (اصْنَعِي لَنَا طَعَامًا مِمَّا كَانَ يُعْجِبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ، إِمَّا مِنَ الْإِعْجَابِ فَرَسُولُ اللَّهِ مَفْعُولُهُ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِيهِ لِلْمَوْصُولِ، أَوْ مِنَ الْعَجَبِ بِفَتْحَتَيْنِ مِنْ بَابِ عَلِمَ، فَهُوَ فَاعِلُهُ وَضَمِيرُ الْمَوْصُولِ فِي الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِمَّا كَانَ يُعْجِبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ فَاعِلًا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ يَسْتَحْسِنُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ إِنْ كَانَ يُعْجِبُ مِنَ الْإِعْجَابِ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا بِنَاءً عَلَى مَعْنَى الْإِعْجَابِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَجَبِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ، وَكَذَا الْحَالُ فِيمَا وَقَعَ ثَانِيًا (وَيُحَسِّنُ) مِنَ الْإِحْسَانِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ التَّحْسِينِ (أَكْلَهُ) بِالنَّصْبِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ (فَقَالَتْ يَا بُنَيَّ) بِالتَّصْغِيرِ لِلشَّفَقَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوِ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، وَبِهِمَا قُرِئَ فِي التَّنْزِيلِ، ثُمَّ إِفْرَادُهُ مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ هُوَ الْمُلَائِمُ إِيثَارًا لِأَكْبَرِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اتَّحَدَتْ طِلْبَتُهُمْ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: رُوِيَ مُصَغَّرًا وَمُكَبَّرًا انْتَهَى. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ جَمْعًا لَكِنَّ الْمُكَبَّرَ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي أُصُولِنَا، وَقَدْ قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ الْمَسْمُوعَةُ فِيهِ التَّصْغِيرُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَعَهَا وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ بِرِضَا الْآخَرِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (لَا نَشْتَهِيهِ الْيَوْمَ) وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْتَمَسَ مِنْهَا الطَّعَامَ الْمَوْصُوفَ الْمَذْكُورَ (قَالَ) أَيِ الْمُخَاطَبُ بِيَا بُنَيَّ أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ، (بَلَى) أَيْ نَشْتَهِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَرَكَةِ، وَنَفْيُهَا مَحْمُولٌ عَلَى طَرِيقِ الطَّبْعِ وَعُرِّفَ الْوَقْتُ لِاتِّسَاعِ الْعَيْشِ وَذَهَابِ ضِيقِهِ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا؛ وَلِهَذَا قَيَّدَتْهُ بِالْيَوْمِ (اصْنَعِيهِ لَنَا قَالَ) أَيِ الرَّاوِي عَنْ سَلْمَى أَوْ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ (فَقَامَتْ فَأَخَذَتْ شَيْئًا) أَيْ قَلِيلًا (مِنَ الشَّعِيرِ) وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ شَعِيرٍ، وَكَذَا فِي نُسْخَةٍ (فَطَحَنَتْهُ ثُمَّ جَعَلَتْهُ) أَيْ دَقِيقَهُ (فِي قِدْرٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: بُرْمَةٍ، (وَصَبَّتْ) أَيْ: كَبَّتْ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الدَّقِيقِ (شَيْئًا) أَيْ: قَلِيلًا (مِنْ زَيْتٍ) أَيْ زَيْتِ الزَّيْتُونِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الدُّهْنُ (وَدَقَّتِ الْفُلْفُلَ) بِضَمِّ الْفَاءَيْنِ وَسُكُونِ اللَّامِ الْأَوَّلِ، هُوَ الرِّوَايَةُ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ مُهَذَّبِ الْأَسْمَاءِ فِي الْمَضْمُومَةِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَهُوَ حَبَّةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَفِي الْقَامُوسِ الْفُلْفُلُ كَهُدْهُدٍ وَزِبْرِجٍ، حَبٌّ هِنْدِيٌّ وَالْأَبْيَضُ أَصْلَحُ، وَكِلَاهُمَا نَافِعٌ لِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا، (وَالتَّوَابِلَ) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَبْزَارُ الطَّعَامِ وَهِيَ أَدْوِيَةٌ حَارَّةٌ، يُؤْتَى بِهَا مِنَ الْهِنْدِ، وَقِيلَ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْكُزْبَرَةِ وَالزَّنْجَبِيلِ وَالرَّازِيَانِجِ وَالْكَمُّونِ، جَمْعُ تَابِلٍ بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ أَوْ مَفْتُوحَةٍ، (فَقَرَّبَتْهُ) أَيِ الطَّعَامَ بَعْدَ طَحْنِهِ وَغَرْفِهِ فِي وِعَاءٍ، (إِلَيْهِمْ فَقَالَتْ هَذَا) أَيْ وَأَمْثَالُهُ (مِمَّا كَانَ يَعْجِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِالضَّبْطَيْنِ (وَيُحَسِّنُ أَكْلَهُ) بِالْوَجْهَيْنِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ السِّلْقَ مَطْبُوخًا بِالشَّعِيرِ، قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي الْأَصْلِ قَرِيبًا وَأَكْلُ الْخَزِيرَةِ بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَزَايٍ مَكْسُورَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ فَرَاءٍ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: كَالْعَصِيدَةِ إِلَّا أَنَّهَا أَرَقُّ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: دَقِيقٌ يُخْلَطُ بِشَحْمٍ، وَالْجَوْهَرِيُّ كَالطِّيبِيِّ لَحْمٌ يُقَطَّعُ صِغَارًا وَيُصَبُّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ، فَإِذَا نَضِجَ ذُرَّ عَلَيْهِ دَقِيقٌ، وَقِيلَ: هِيَ بِالْإِعْجَامِ مِنَ النُّخَالَةِ وَبِالْإِهْمَالِ مِنَ اللَّبَنِ. وَأَكْلُ الْكَبَاثِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِمُثَلَّثَةٍ آخِرَهُ النَّضِيجُ مِنْ ثَمَرِ الْأَرَاكِ، وَقِيلَ: وَرَقُهُ، وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ جُمَّارَ النَّخْلِ، وَهُوَ كَرُمَّانٍ شَحْمُهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِجُبْنَةٍ فِي تَبُوكَ، فَدَعَا بِسِكِّينٍ فَسَمَّى وَقَطَعَ أَيْ بِقِطْعَةٍ مِنَ الْجُبْنِ، وَهُوَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ بِضَمٍّ وَبِضَمَّتَيْنِ، وَكَعُتُلٍّ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ تَجَبَّنَ اللَّبَنُ صَارَ كَالْجُبْنِ. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الِأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ نُبَيْحٍ) بِضَمِّ نُونٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ (الْعَنَزِيِّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَبِالزَّايِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي عَنَزَةَ، قَبِيلَةٌ مِنْ رَبِيعٍ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) صَحَابِيَّانِ (قَالَ: أَتَانَا النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِنَا فَذَبَحْنَا لَهُ) أَيْ لِأَجْلِهِ أَصَالَةً وَلِأَصْحَابِهِ تَبَعًا (شَاةً) وَهِيَ جِنْسٌ يَتَنَاوَلُ الضَّأْنَ وَالْمَعِزَ، وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى جَمِيعًا، وَأَصْلُهَا شَاهَةٌ؛ لِأَنَّ تَصْغِيرَهَا شُوَيْهَةٌ فَحُذِفَتِ الْهَاءُ، وَأَمَّا عَيْنُهَا فَوَاوٌ، وَإِنَّمَا انْقَلَبَتْ يَاءً فِي شِيَاهٍ لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ: «لَهُمْ» أَيْ لِجَابِرٍ وَأَهْلِ مَنْزِلِهِ (كَأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّا نُحِبُّ اللَّحْمَ) أَيْ مُطْلَقًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَدْحِ اللَّحْمِ أَوْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَى الْقُوَّةِ، لِمُدَافَعَةِ الْعَدُوِّ وَمُقَاوَمَتِهِمْ أَوِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَأْنِيسُهُمْ وَجَبْرُ خَاطِرِهِمْ، دُونَ إِظْهَارِ الشَّغَفِ بِاللَّحْمِ وَالْإِفْرَاطِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِلْمُضِيفِ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُثَابِرَ عَلَى مَا يُحِبُّهُ الضَّيْفُ إِنْ عَرَفَهُ، وَلِلضَّيْفِ إِلَى أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يُحِبُّهُ، حَيْثُ لَمْ يُوقِعِ الْمُضِيفَ فِي مَشَقَّةٍ، (وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ) أَيْ طَوِيلَةٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ أَنَّ جَابِرًا فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: انْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوعًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بَهِيمَةٌ دَاجِنٌ أَيْ شَاةٌ سَمِينَةٌ، فَذَبَحْتُهَا أَنَا وَطَحَنَتْ أَيْ زَوْجِي الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ سِرًّا، وَقُلْتُ لَهُ: تَعَالَى أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا صَنَعَ سَوْرًا أَيْ بِسُكُونِ الْوَاوِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، طَعَامًا يَدْعُوا إِلَيْهِ النَّاسَ، وَاللَّفْظَةُ فَارِسِيَّةٌ فَحَيْهَلًا بِكُمْ، أَيْ هَلُمُّوا مُسْرِعِينَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُنْزِلَنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزَنَّ عَجِينَتَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعِ خَابِزَةً لِتَخْبِزَ مَعَكِ، وَاقْدَحِي- أَيِ اغْرِفِي- مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا، وَهُمْ أَلْفٌ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَأَنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغُطُّ- أَيْتَغْلِي-، وَيُسْمَعُ غَطِيطُهَا كَمَا هِيَ، وَأَنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ. كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ، كَأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَبْحَ الشَّاةِ بَعْدَ إِتْيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْزِلِ جَابِرٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي قِصَّةِ الْخَنْدَقِ يَدُلُّ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ فِي رَيْبٍ فَارْجِعْ إِلَى الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي فِي مِشْكَاةِ الْمَصَابِيحِ، انْتَهَى. وَيُمْكِنُ دَفْعُ الْإِشْكَالِ بِأَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: أَتَانَا أَيْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَنَا بِمُنَادَاتِنَا إِيَّاهُ، فَذَبَحْنَا لَهُ شَاةً فَنَادَيْنَاهُ وَأَعْلَمْنَاهُ بِمَا عِنْدَنَا مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ، وَصَاعِ الشَّعِيرِ، فَقَالَ: «كَأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّا نُحِبُّ اللَّحْمَ»، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَذَبَحْنَا لَهُ شَاةً أُخْرَى لِمَا رَأَيْنَا مِنْ كَثْرَةِ أَصْحَابِهِ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ مَنْزِلَ جَابِرٍ لِحَاجَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَانْقَلَبَ جَابِرٌ إِلَى بَيْتِهِ، وَصَنَعَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِهِ، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ وَاسْتِيفَاؤُهَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمُطَوَّلَاتِ. (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ) أَيْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخُو عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُفْيَانُ) أَيْ فِي إِسْنَادٍ آخَرَ (وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بِالْوَاوِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَحْوِيلُ الْإِسْنَادِ وَفِي نُسْخَةٍ (ح) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنَ الْمَسْجِدِ (وَأَنَا مَعَهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) أَيْ مَعَهَا خَدَمُهَا وَحَشَمُهَا (فَذَبَحَتْ لَهُ شَاةً) أَيْ حَقِيقَةً أَوْ أَمَرَتْ بِذَبْحِهَا، وَالْجَزْمُ بِالثَّانِي يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ (فَأَكَلَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَالَةً وَغَيْرُهُ مَعَهُ تَبَعًا (مِنْهَا) أَيْ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ (وَأَتَتْهُ) أَيِ الْمَرْأَةُ الْأَنْصَارِيَّةُ (بِقِنَاعٍ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ الطَّبَقُ الَّذِي يُؤْكَلُ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَقَيَّدَهُ فِي الْقَامُوسِ بِأَنَّهُ طَبَقٌ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ جَاءَتْهُ بِهِ مَوْضُوعًا فِيهِ (مِنْ رُطَبٍ) أَيْ: بَعْضُهُ (فَأَكَلَ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الرُّطَبِ، أَوْ مِمَّا فِي الْقِنَاعِ (ثُمَّ تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ) أَيْ لِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ لِغَيْرِهِ (وَصَلَّى) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ، فَأَتَتْهُ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ مِنْ مَحَلِّهَا (فَأَتَتْهُ بِعُلَالَةٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ بَقِيَّةٍ (مِنْ عُلَالَةِ الشَّاةِ) أَيْ مِنْ بَقِيَّةِ لَحْمِهَا، وَمِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَزَعَمَ أَنَّهَا بَيَانِيَّةٌ بُعَيْدَ ذِكْرِهِ ابْنَ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْعُلَالَةَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ بَقِيَّةُ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ، فَالْبَيَانِيَّةُ لَهَا وَجْهٌ وَجِيهٌ (فَأَكَلَ) قِيلَ: فِيهِ شَبِعَ مِنْ لَحْمٍ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَمَا مَرَّ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهَا أَوْ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ، لَكِنَّ دَعْوَى الشِّبَعِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، نَعَمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ الْأَكْلِ ثَانِيًا، بَلْ قَدْ يُنْدَبُ ذَلِكَ جَبْرًا لِخَاطِرِ الْمُضِيفِ وَنَحْوِهِ، (ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، وَالْأَوَّلُ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، وَالثَّانِي لِبَيَانِ الْجَوَازِ. (حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ) بِضَمِّ الْفَاءِ فَفَتْحِ اللَّامِ (بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ) يُقَالُ: اسْمُهَا سَلْمَى بِنْتُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّةُ، مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَيُقَالُ: هِيَ إِحْدَى خَالَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَائِهِ: هِيَ بِنْتُ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَيُقَالُ: الْعَدَوِيَّةُ لَهَا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ، وَلَنَا دَوَالٍ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَنْوِينِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ جَمْعُ دَالِيَةٍ، وَهِيَ الْعَذْقُ مِنَ النَّخْلَةِ، يُقْطَعُ ذَا بُسْرٍ ثُمَّ تُعَلَّقُ، فَإِذَا رَطُبَ يُؤْكَلُ، وَالْوَاوُ فِيهِ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْأَلْفِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ فَقَوْلُهُ: (مُعَلَّقَةٌ) بِالرَّفْعِ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِدَوَالٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مِيرَكَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِقَوْلِهَا دَوَالٍ فَخِلَافُ الظَّاهِرِ، (قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ) قَالَ الْعِصَامُ: أَيْ قَائِمًا وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلْمَقَامِ لَكِنَّ الْجَزْمَ بِهِ غَيْرُ قَائِمٍ (وَعَلِيٌّ مَعَهُ يَأْكُلُ) أَيْ قَائِمًا لِقَوْلِهَا بَعْدُ فَجَلَسَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ لِعَلِيٍّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (مَهْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، كَلِمَةٌ بُنِيَتْ عَلَى السُّكُونِ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيِ اكْفُفْ، وَلَا تَأْكُلْمِنْهُ (يَا عَلِيُّ فَإِنَّكَ نَاقِهٌ) بِكَسْرِ الْقَافِ بَعْدَهُ هَاءٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ نَقَهَ الشَّخْصُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، فَيَكُونُ مِنْ حَدِّ سَأَلَ أَوْ عَلِمَ، وَالْمَصْدَرُ النَّقَهَةُ وَمَعْنَاهُ بَرِئَ مِنَ الْمَرَضِ، وَكَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ كَمَالُ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهِ قَبْلَ الْمَرَضِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِالْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالنَّقَاهَةِ، وَهِيَ حَالَةٌ بَيْنِ الْحَالَتَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، كَذَا أَفَادَهُ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، (قَالَتْ: فَجَلَسَ عَلِيٌّ) أَيْ وَتَرَكَ أَكْلَ الرُّطَبِ (وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ رُفَقَائِهِ غَيْرُ عَلِيٍّ (قَالَتْ: فَجَعَلْتُ لَهُمْ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَيْ طَبَخْتُ لِأَضْيَافِي، وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ فَجَعَلْتُ لَهُ بِإِفْرَادِ الضَّمِيرِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ شُرَّاحِهِ رَاجِعًا إِلَى عَلِيٍّ، وَبِهَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ قَالَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَجَعَلْتُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، يَعْنِي إِذَا تَرَكَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَكْلَ الرُّطَبِ، جَعَلْتُ لَهُ إِلَى آخِرِهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ لَكِنْ يُوجَدُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ لَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ أَيْضًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمَتْبُوعُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ أَيْ لَهُ أَصَالَةً وَلِغَيْرِهِ تَبَعًا، مَعَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ قَدْ يَكُونُ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ فِي نُسْخَةٍ لَهُمَا وَمَا أَبْعَدَ مَنْ قَالَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ لِابْنِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَكَذَا فِي الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ لِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَكْثَرُ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ حِينَ جَعَلُوا الضَّمِيرَ فِي لَهُمْ مُفْرَدًا، لِيَرْجِعَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهَا وَالضَّيْفَانِ، انْتَهَى. فَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ أَيْ بَعْدَ عَرْضِ أَكْلِ الرُّطَبِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهُ، جَعَلَتْ لَهُمْ (سِلْقًا) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (شَعِيرًا) أَيْ نَفْسَهُ أَوْ مَاءَهُ أَوْ دَقِيقَهُ وَالْمَعْنَى فَطَبَخْتُ وَقَدَّمْتُ لَهُمْ (فَقَالَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ النَّبِيُّ: (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ لِعَلِيٍّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (يَا عَلِيُّ مِنْ هَذَا) أَيِ: الطَّبِيخِ أَوِ الطَّعَامِ (فَأَصِبْ) أَمْرٌ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَالْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ إِذَا امْتَنَعْتَ مِنْ أَكْلِ الرُّطَبِ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا فَكُلْ مِنْهُ مَعَنَا، وَفِي التَّعْبِيرِ بِأَصِبْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَكْلَهُ مِنْهُ هُوَ الصَّوَابُ، كَمَا يُفِيدُهُ تَقْدِيرُ الْجَارِّ أَيْضًا، فَالْمَعْنَى فَخَصَّهُ بِالْإِصَابَةِ وَلَا تَتَجَاوَزْ إِلَى أَكْلٍ مِنَ الْبُسْرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَمَّا مِنْ هَذَا فَأَصِبْ، وَالْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيمُ مِنْ هَذَا يُوجِبُ الْحَصْرَ، أَيْ أَصِبْ مِنْ هَذَا لَا مِنْ غَيْرِهِ (فَإِنَّ هَذَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَإِنَّهُ (أَوْفَقُ لَكَ) أَيْ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَوْ مِنْ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَمْ يَقُلْ فِي أَوْفَقَ مِنْهُ؛ لِيَكُونَ إِشْكَالًا يَسْتَدْعِي جَوَابًا، كَمَا فَهِمَ الشُّرَّاحُ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الظَّاهِرُ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ هُنَا وَرَدَ لِمُجَرَّدِ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمَزِيَّةِ وَالْفَضْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْفَضْلِ فِي الطَّرَفِ الْمُقَابِلِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِطَرِيقِ الْإِمْكَانِ، فَيُتَصَوَّرُ الزِّيَادَةُ أَوْ بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّمَا مَنَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرُّطَبِ؛ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ تَضُرُّ بِالنَّاقِهِ لِسُرْعَةِ اسْتِحَالَتِهَا، وَضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِهَا لِعَدَمِ الْقُوَّةِ، فَأَوْفَقُ بِمَعْنَى مُوَافِقٍ، إِذْ لَا أَوْفَقِيَّةَ فِي الرُّطَبِ لَهُ أَصْلًا، وَيَصِحُّ كَوْنُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِأَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ فِي الرُّطَبِ مُوَافَقَةً لَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّ ضُرَّهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ السِّلْقِ وَالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ الْأَغْذِيَةِ لِلنَّاقِهِ؛ لِأَنَّ فِي مَاءِ الشَّعِيرِ مِنَ التَّغْذِيَةِ وَالتَّلْطِيفِ وَالتَّلْيِينِ وَتَقْوِيَةِ الطَّبِيعَةِ، مَا هُوَ نَافِعٌ لِلنَّاقِهِ جِدًّا. فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي الْحَمِيَّةُ لِلْمَرِيضِ وَالنَّاقِهِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: أَنْفَعُ مَا يَكُونُ الْحَمِيَّةُ لِلنَّاقِهِ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيطَ يُوجِبُ انْتِكَاسَهُ، وَهُوَ أَصْعَبُ مِنَ ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ، وَالْحَمِيَّةُ لِلصَّحِيحِ مَضَرَّةٌ، كَالتَّخْلِيطِ لِلْمَرِيضِ وَالنَّاقِهِ وَقَدْ تَشْتَدُّ الشَّهْوَةُ وَالْمَيْلُ إِلَى ضَارٍّ، فَيَتَنَاوَلُ مِنْهُ يَسِيرًا فَتَقْوَى الطَّبِيعَةُ عَلَى هَضْمِهِ، فَلَا يَضُرُّ بَلْ رُبَّمَا يَنْفَعُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ دَوَاءٍ يَكْرَهُهُ الْمَرِيضُ؛ وَلِذَا أَقَرَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَرْمَدُ عَلَى تَنَاوُلِ التَّمَرَاتِ الْيَسِيرَةِ، وَخَبَرُهُ فِي ابْنِ مَاجَهْ قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُبْزٌ وَتَمْرٌ، فَقَالَ: ادْنُ كُلْ، فَأَخَذْتُ تَمْرًا فَأَكَلْتُ، فَقَالَ: أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِكَ رَمَدٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْضُغُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَتَبَسَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ أَصْلٌ عَظِيمٌ لِلطِّبِّ وَالتَّطَبُّبِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي التَّدَاوِي فَقَدْ صَحَّ: «أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً فَتَدَاوَوْا». وَفِي رِوَايَةٍ: «حَيْثُ خُلِقَ الدَّاءُ خُلِقَ الدَّوَاءُ فَتَدَاوَوْا»، وَصَحَّ أَيْضًا: «تَدَاوُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً إِلَّا دَاءً وَاحِدًا، وَهُوَ الْهَرَمُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلَّا السَّامَ» أَيِ: الْمَوْتَ يَعْنِي الْمَرَضَ الَّذِي قُدِّرَ الْمَوْتُ فِيهِ، وَصَحَّ أَيْضًا لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أَصَابَ دَوَاءَ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَسَّرَتْهُ رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ: «مَا مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَلَهُ دَوَاءٌ»، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكًا، وَمَعَهُ سِتْرٌ فَجَعَلَهُ بَيْنَ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، فَكُلَّمَا شَرِبَ الْمَرِيضُ مِنَ الدَّوَاءِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الدَّاءِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بُرْأَهُ أَمَرَ الْمَلَكَ فَرَفَعَ السِّتْرَ ثُمَّ يَشْرَبُ الْمَرِيضُ الدَّوَاءَ فَيَنْفَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ وَغَيْرِهِ،: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»، وَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ رِعَايَةَ الْأَسْبَابِ بِالتَّدَاوِي لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، كَمَا لَا يُنَافِيهِ دَفْعُ الْجُوعِ بِالْأَكْلِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ بِتَدَاوِي الْمُتَوَكِّلِ اقْتِدَاءً بِسَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجَابَ عَنْ خَبَرِ: «مَنِ اسْتَرْقَى وَاكْتَوَى بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ»، أَيْ مِنْ تَوَكُّلِ الْمُتَوَكِّلِينَ الَّذِينَ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَجَعَلَ بَعْضَ التَّوَكُّلِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ إِنِ اسْتَرْقَى بِمَكْرُوهٍ، أَوْ عَلَّقَ شِفَاءَهُ بِوُجُودٍ، نَحْوَ الْكَيِّ، وَغَفَلَ عَنْ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ، نَاظِرٌ لِلرَّبِّ الدَّوَاءَ مُتَوَقِّعًا لِلشِّفَاءِ مِنْ عِنْدِهِ، قَاصِدًا صِحَّةَ بَدَنِهِ لِلْقِيَامِ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، فَتَوَكُّلُهُ بَاقٍ بِحَالِهِ اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِ سَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ إِذْ عَمِلَ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا عَلَى أَنَّهُ قِيلَ: لَا يُتِمُّ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُقْتَضَيَاتٍ لِمُسَبِّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، فَتَعْطِيلُهَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَهَذَا الْبَحْثُ بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ الْمَرِيضِ وَالطَّبِيبِ، وَحَثٌّ عَلَى طَلَبِ الدَّوَاءِ، وَتَخْفِيفٌ لِلْمَرِيضِ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ أَنَّ لِدَائِهَا دَوَاءً يُزِيلُهُ قَوِيَ رَجَاؤُهَا، وَانْبَعَثَ حَارُّهَا الْغَرِيزِيُّ، فَتَقْوَى الرُّوحُ النَّفْسَانِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ، وَبِقُوَّةِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ تَقْوَى الْقُوَى الْحَامِلَةُ لَهَا، فَيَتَدَفَّعُ الْمَرِيضُ وَتَقْهَرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْزَالِ فِي أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً التَّقْدِيرُ أَوْ إِنْزَالُ عِلْمِهِ عَلَى لِسَانِ مَلِكِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ إِلْهَامِ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِلْهَامِهِ عَلَى أَنَّ الْأَدْوِيَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ كَصِدْقِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخُضُوعِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّفْرِيجِ عَنِ الْمَكْرُوبِ أَصْدَقُ فِعْلًا، وَأَشْرَعُ نَفْعًا مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْحِسِّيَّةِ بِشَرْطِ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّةَ رُبَّمَا تَخَلَّفَ الشِّفَاءُ عَمَّنِ اسْتَعْمَلَ طِبَّ النُّبُوَّةِ لِمَانِعٍ قَامَ بِهِ، مِنْ نَحْوِ ضَعْفِ اعْتِقَادِ الشِّفَاءِ بِهِ، وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ أَيْضًا فِي عَدَمِ نَفْعِ الْقُرْآنِ لِكَثِيرِينَ مَعَ أَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ. وَقَدْ طَبَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَمَحَلُّ بَسْطِهَا فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ، وَسَائِرِ السِّيَرِ مِنْ كِتَابِ الْمَوَاهِبِ، وَزَادِ الْمَعَادِ لِابْنِ الْقَيِّمِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ) أَيِ الثَّوْرِيِّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَحْيَانًا (يَأْتِينِي) أَيْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ (فَيَقُولُ) أَيْ لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (أَعِنْدَكِ غَدَاءٌ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُؤْكَلُ أَوَّلَ النَّهَارِ (فَأَقُولُ لَا) أَيْ أَحْيَانًا (قَالَتْ) أَيْ عَائِشَةُ (فَيَقُولُ) أَيْ حِينَئِذٍ (إِنِّي صَائِمٌ) وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ بِزِيَادَةِ إِذَنْ أَيْ نَاوٍ لِلصَّوْمِ، فَهُوَ خَبَرٌ لَفْظًا، وَإِنْشَاءٌ مَعْنًى، أَوْ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ نَوَى الصَّوْمَ لِيَتَحَقَّقَ النِّيَّةُ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الصَّوْمِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِظْهَارِ الْعِبَادَةِ لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ، كَتَعْلِيمِ مَسْأَلَةٍ وَبَيَانِ حَالَةٍ، وَعَلَى جَوَازِ نِيَّةِ النَّفْلِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ، بِشَرْطِ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ النِّيَّةِ، بِمَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ التَّبْيِيتُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ فِي اللَّيْلِ»، قَالَ: وَلَا دَلِيلَ فِي: «إِنِّي صَائِمٌ»، إِذِ الِاحْتِمَالُ إِنِّي صَائِمٌ إِذًا كَمَا كُنْتُ، أَوْ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى الْفِطْرِ لِعُذْرٍ ثُمَّ تَمَّمَ الصَّوْمَ، وَلَا خَفَاءَ فِي بُعْدِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَالْخَبَرُ مُقَيَّدٌ عِنْدَنَا بِالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالْفَرَائِضِ (قَالَتْ: فَأَتَانَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَأَتَانِي (يَوْمًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (أُهْدِيَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُرْسِلَتْ (لَنَا هَدِيَّةٌ قَالَ: وَمَا هِيَ قُلْتُ: حَيْسٌ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ، هُوَ التَّمْرُ مَعَ السَّمْنِ وَالْأَقِطِ، وَقَدْ يُجْعَلُ عِوَضَ الْأَقِطِ الدَّقِيقُ أَوِ الْفَتِيتُ، ثُمَّ يُدَلَّكُ حَتَّى يَخْتَلِطَ، وَأَصْلُ الْحَيْسِ الْخَلْطُ (قَالَ أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا) أَيْ مُرِيدًا لِلصَّوْمِ وَقَاصِدًا لَهُ مِنْ غَيْرِ صُدُورِ نِيَّةٍ جَازِمَةٍ، (قَالَتْ: ثُمَّ أَكَلَ) وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ النَّفْلَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِنْ أَفْطَرَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَيُمْكِنُ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا ثُمَّ أَكَلَ لِضَرُورَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِالْقَضَاءِ لَمَّا أَكَلَتْ فِي صَوْمِ نَفْلٍ، وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَحَمَلَ الشَّافِعِيَّةُ الْأَمْرَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ خِلَافَ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لِلْوُجُوبِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَّصِلَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْمَقْصُودِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: «الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ». فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمِيرُ نَفْسِهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ، وَلَوْ كَانَ عَادَتَهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ تَطَوُّعًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُلْزِمٌ، فَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ الْمَلْعَبَةُ فِي الصَّلَاةِ مَثَلًا بِأَنْ يَشْرَعَهَا وَيَقْطَعَهَا. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى) قِيلَ: اسْمُهُ سَمْعَانُ (الْأَسْلَمِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ) لَمْ يُسَمَّ (الْأَعْوَرِ) صِفَةٌ لِأَحَدِهِمَا (عَنْ يُوسُفَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) صَحَابِيَّانِ وَرَوَى يُوسُفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، كَذَا قِيلَ: وَبَقِيَ إِلَى سَنَةِ مِائَةٍ لَهُ عَنْ عُثْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ زِيَادَةُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُكَنَّى أَبَا يَعْقُوبَ، كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ وَلَدِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُمِلَ إِلَيْهِ، وَأَقْعَدَهُ فِي حِجْرِهِ، وَسَمَّاهُ يُوسُفَ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَهُ رِوَايَةٌ، وَلَا دِرَايَةَ لَهُ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَمَّا أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، فَيُكَنَّى أَبَا يُوسُفَ أَحَدُ الْأَحْبَارِ، وَأَحَدُ مَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ يُوسُفُ وَمُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُمَا، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، (قَالَ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ أَوِ ابْنُهُ (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (أَخَذَ كِسْرَةً) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ قِطْعَةً (مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْكِيرِ (فَوَضَعَ عَلَيْهَا تَمْرَةً ثُمَّ قَالَ هَذِهِ) أَيِ التَّمْرَةُ (إِدَامُ هَذِهِ) أَيِ الْكِسْرَةِ (فَأَكَلَ) بِالْفَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ التَّمْرُ طَعَامًا مُسْتَقِلًّا، وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا بِالْأُدُومَةِ، أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَالِحٌ لَهَا، قَالَ مِيرَكُ: هَذَا الْحَدِيثُ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ التَّمْرَ إِدَامٌ، كَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ، وَيَرُدُّ قَوْلَ مَنْ شَرَطَ الِاصْطِنَاعَ فِي الْإِدَامِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَكِنْ خَصَّصَ مِنَ الْإِدَامِ مَا يُؤْكَلُ غَالِبًا وَحْدَهُ، كَالتَّمْرِ وَلَمْ يَعُدَّهُ مِنَ الْإِدَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ إِطْلَاقُ الْإِدَامِ عَلَى التَّمْرِ فِي الْحَدِيثِ مَجَازًا أَوْ تَشْبِيهًا بِالْإِدَامِ، حَيْثُ أَكَلَهُ مَعَ الْخُبْزِ، قُلْتُ: هَذَا الْمُحْتَمَلُ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِلَّا لَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَأَمَا مَبْنَى الْأَيْمَانِ وَالْحِنْثِ، فَعَلَى الْعُرْفِ الْمُخْتَلِفِ زَمَانًا وَمَكَانًا، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفِيهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْغِذَاءِ، فَإِنَّ الشَّعِيرَ بَارِدٌ يَابِسٌ، وَالتَّمْرَ حَارٌّ رَطْبٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِيهِ مِنَ الْقَنَاعَةِ مَا لَا يَخْفَى. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) يَعْنِي الدَّارِمِيَّ (حَدَّثَنَا سَعِيدُ) بِالْيَاءِ (بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبَّادِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (بْنِ الْعَوَّامِ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ (عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَيُكْسَرُ، وَسُكُونِ الْفَاءِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يَرْسُبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَقِيَ فِي آخِرِ الْوِعَاءِ مِنْ نَحْوِ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ ثُفْلٌ فَلْيَصْطَنِعْ» (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيْ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ أَنَسٌ بِالثُّفْلِ (مَا بَقِيَ مِنَ الطَّعَامِ) أَيْ فِي الْقِدْرِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ إِعْجَابِهِ أَنَّهُ مَنْضُوجٌ غَايَةَ النُّضْجِ الْقَرِيبِ إِلَى الْهَضْمِ، فَهُوَ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ أَوْ أَلَذُّ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوَاضُعِ وَالصَّبْرِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْقَلِيلِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَاقِي الْقَوْمَ آخِرُهُمْ شُرْبًا»، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، أَوْ فِي الصَّحْفَةِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ فَلَحِسَهَا اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ، وَقِيلَ: الثُّفْلُ هُوَ الثَّرِيدُ، وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّ الثُّفْلَ بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَضَمِّهَا وَهُوَ أَفْصَحُ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَفَسَّرَهُ شَيْخُ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ الْإِمَامُ الدَّارِمِيُّ بِمَا بَقِيَ مِنَ الطَّعَامِ، وَقَالَ الشَّارِحُ: الْمُظْهَرُ أَيْ: فِي الْقِدْرِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْمَسْمُوعُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: أَيْ مَا بَقِيَ فِي الْقَصْعَةِ، وَيُقَالُ: فِي وَجْهِ إِعْجَابِهِ مَا بَقِيَ فِي الْقِدْرِ أَنَّهُ أَقَلُّ دَهَانَةً، فَيَكُونُ أَسْرَعُ انْهِضَامًا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَجْمَعُ طُعُومًا فِي الْقِدْرِ فَيَكُونُ أَلَذَّ وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ دَأْبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيثَارُ، وَمُلَاحَظَةُ الْغَيْرِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ وَالضِّيفَانِ، وَأَرْبَابِ الْحَوَائِجِ، وَتَقْدِيمُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَا جَرَمَ كَانَ يَصْرِفُ الطَّعَامَ الْوَاقِعَ فِي أَعَالِي الْقِدْرِ وَالظُّرُوفِ إِلَيْهِمْ، وَيَخْتَارُ لِخَاصَّتِهِ مَا بَقِيَ مِنْهُ فِي الْأَسَافِلِ رِعَايَةً لِسُلُوكِ سَبِيلِ التَّوَاضُعِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَغْبِيَاءِ الْأَغْنِيَاءِ يَتَكَبَّرُونَ وَيَأْنَفُونَ مِنْ أَكْلِ الثُّفْلِ، وَيَصُبُّونَهُ وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بِجَمِيلِ حِكْمَتِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُنُوفَ اللَّطَائِفِ، وَأُلُوفَ الْمَعَارِفِ وَالظَّرَائِفِ فَطُوبَى لِمَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، هَذَا وَقَالَ الشُّرَّاحُ: لَقَدْ أَعْجَبَ الْمُصَنِّفَ فَخَتَمَ الْبَابَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ ثُفْلُ الْأَحَادِيثِ، وَمَا بَقِيَ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ مَا فِيهِ فِي تَعْبِيرِهِ بِالثُّفْلِ مَا قَدْ يَحْسُنُ فِيهِ رَدٌّ، وَفِي الْقَامُوسِ الثُّفْلُ مَا اسْتَقَرَّ تَحْتَ الشَّيْءِ مِنْ كُدْرَةٍ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ عَلَى تَفْسِيرِ الرَّاوِي لَهُ بِمَا ذُكِرَ حَذَرًا مِنْ أَنْ يُتَوَهَّمَ مِنْهُ إِسْنَادُ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرِ الْمُرَادِ، أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ فِي إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُشْتَمِلِ آخِرُهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّعَامِ صَنْعَةَ حُسْنِ الْمَقْطَعِ، خَتْمًا لِلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
|