الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **
من تاريخ اليمن لعمارة وفـي هـذه السنـة استقـر فـي ملـك اليمـن علـي بـن مهدي وأزال ملك بني نجاح على ما قدمنا ذكره فـي سنـة اثنتـي عشرة وأربعمائة وعلي بن مهدي المذكور من حمير من أهل قرية يقال لها الغبرة من سواحل زبيد كان أبوه مهدي المذكور رجلاً صالحاً ونشأ ابنه على طريقة أبيه في العزلة والتمسك بالصلاح ثم حج واجتمع بالعراقيين وتضلع من معارفهم ثم صار علي بن مهـدي المذكور واعظاً وكان فصيحاً صبيحـاً حسـن الصـوت عالمـاً بالتفسيـر غزيـر المحفوظـات وكـان يتحدث في شيء من أحوال المستقبل فيصدق فمالت إليه القلوب واستفحل أمره وصار له جموع فقصد الجبال وأقام بها إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. ثم عاد إلى أملاكه وكان يقول في وعظه: أيها الناس دنا الوقت أزف الأمر كأنكم بما أقول لكم وقد رأيتموه عياناً. ثم عاد إلى الجبال إلى حصن يقال له الشرف وهو لبطن من خولان فأطاعوه وسماهم الأنصار وسمى كل من صعد معه من تهامـة المهاجريـن وأقـام علـى خولـان رجـلاً اسمـه سبـأ وعلـى المهاجرين رجلاً اسمه التويتـي وسمـى كـلا مـن الرجليـن شيـخ الإسلـام وجعلهمـا نقيبيـن علـى الطائفتيـن فلا يخاطبه أحد غيرهما وهما يوصلان كلامه إلى الطائفتين وكلام الطائفتين وحوائجهما إليه وأخذ يغادي الغارات ويراوحها على التهايم حتى أخلى البوادي وقطع الحرث ثم إنه حاصر زبيد واستمر مقيماً عليها حتى قتل فاتك بن محمد آخر ملوك بني نجاح قتله عبيدة وجرى بين ابن مهدي وعبيد فاتك حروب كثيرة وآخرها أن ابن مهدي انتصر عليهم وملـك زبيـد واستقـر فـي دار الملـك يـوم الجمعـة رابـع عشر رجب من هذه السنة أعني سنة أربع وخمسيـن وخمسمائـة. وبقـي ابن مهدي في الملك شهرين وإحدى وعشرين يوماً ثم مات علي بن مهـدي المذكـور فـي السنـة التـي ملك فيها في شوال ثم ملك اليمن بعده ولده مهدي بن علي بن مهدي ولم يقع تاريخ وفاته ثم ملك اليمن بعده ولده عبد النبي بن مهدي ثم خرجت المملكة عـن عبـد النبـي المذكـور إلـى أخيـه عبـد اللـه ثـم عـادت إلـى عبـد النبـي واستقـر فيهـا حتـى سـار إليه توران شاه بن أيوب من مصر في سنة تسع وستين وخمسمائة وفتح اليمن واستقر في ملكه وأسـر عبـد النبي المذكور وهو عبد النبي بن مهدي بن علي بن مهدي الحميري وهو من ملك اليمـن مـن بنـي حميـر وكان مذهب علي بن مهدي التكفير بالمعاصي وقتل من خلف اعتقاده من أهل القبلة واستباحة وطء سباياهم واسترقاق ذراريهـم وكـان حنفـي الفـروع وكـان أصحابـه يعتقدون فيه فوق ما يعتقده الناس في الأنبياء صلوات الله عليهم ومن سيرته قتل من شرب ومن سمع الغناء. وما كان منه إلى أن قتل مات محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه بـن ألـب أرسلـان أرسلـت الأمـراء وطلبـوا عمـه سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه ليولوه السلطنة وكان قد اعتقل في الموصل مكرماً فجهزه قطب الدين مودود بن زنكـي صاحـب الموصـل بشـيء كثيـر وجهـاز يليـق بالسلطنـة وسـار معه زين الدين علي كجك بعسكر الموصل إلى همذان وأقبلت العساكر إليهم كل يوم تلقـاه طائفة وأميره ثم تسلطت العساكر عليه ولم يبق له حكم وكان سليمان فيه تهور وخرق وكان يدمن شرب الخمر حتى أنه شرب في رمضان نهاراً وكان يجمع عنده المساخر ولا يلتفت إلى الأمراء فأهمل العسكر أمره وصاروا لا يحضرون بابه وكان قد رد جميع الأمور إلى شـرف الدين كردبازو الخادم وهو من مشايخ الخدم السلجوقية يرجع الأمور إلى دين وحسن تدبير. فاتفق يوماً أن سليمان شرب بظاهر همذان بالكشك فحضر إليه كردياز ولامه فأمر سليمان من عنده من المساخر فعبثوا بكردبازو حتى أن بعضهم كشف له سوءته فاتفق كردبازو مع الأمراء على قبضه وعمل كردبازو دعوة عظيمة فلما حضرها الملك سليمان في داره قبض عليـه كردبـازو وحبسه وبقي في الحبس مدة ثم أرسل إليه كردبازو من خنقه وقيل سقاه سماً ولمـا مـات سـار الدكـز في عساكر تزيد على عشرين ألفاً ومعه أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان ووصل إلى همذان فلقيه كردبازو وأنزله في دار المملكة وخطب لأرسلـان شـاه بالسلطنـة وكـان الدكـز مزوجـاً بـأم أرسلـان شـاه فولـدت للدكـز أولاداً منهم: البهلوان محمد وقزل أرسلان عثمان أبناء الدكز. وبقي الدكـز أتابـك أرسلـان وابنـه البهلـوان وهو أخو أرسلان لأمه حاجبه وكان هذا الدكز أحد مماليك السلطان مسعود اشتراه في أول أمره ثم أقطعه آران وبعض بلاد أذربيجان فعظم شأنه وقوي أمره ولما خطب لأرسلان شاه بالسلطنة في تلك البلاد أرسل الدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه بالسلطنة على عادة الملوك السلجوقية فلم يجب إلى ذلك ونحن قد قدمنا ذكر موت سليمان وولاية أرسلان ليتصل ذكر الحادثة وهي في الكامل مذكـورة فـي موضعيـن فـي سنـة خمـس وسنـة سـت وخمسمائة. وولاية العاضد العلويين فـي هـذه السنـة توفـي الفائـز بنصـر اللـه أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر خليفة مصر وكانت خلافته ست سنين ونحو شهرين وكان عمره لما ولي ثلاث سنين وقيل خمس سنين ولما مات دخل الصالح بن رزيك القصر وسأل عمن يصلح فأحضر له منهـم إنسـان كبيـر السـن فقـال بعـض أصحـاب الصالـح لـه سـراً: لا يكـون عبـاس أحزم منك. حيث اختار الصغير فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه وأمر بإحضار العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ ولم يكـن أبـوه خليفـة وكـان العاضـد ذلـك الوقـت مراهقـاً فبايـع لـه بالخلافـة وزوجـه الصالح بابنته ونقل معها من الجهاز ما لا يسمع بمثله. وفاة المقتفي لأمر الله فـي هـذه السنـة ثانـي ربيـع الـأرل توفـي الخليفـة المقتفـي لأمـر اللـه أبـو عبـد اللـه محمـد بـن المستظهـر أبي العباس أحمد بعلة التراقي وكان مولده ثاني ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وأربعمائة وأمه أم ولد وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً وكان حسن السيرة وهـو أول مـن استبـد بالعـراق منفرداً عن سلطان يكون معه وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار في جميع البلاد حتى كان لا يفوته منها شيء. وهو ثاني ثلاثينهم ولما توفي المقتفي لأمر الله محمد بويع ابنه يوسف ولقب المستنجد بالله وأم المستنجد أم ولد تدعى طاووس ولما بويع المستنجد بالخلافة بايعه أهله وأقاربه فمنهم عمه أبو طالب ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي وكان أكبر من المستنجد ثم بايعه الوزير ابن هبيرة وقاضي القضاة وغيرهم. ذكر وفاة صاحب غزنة في هذه السنة في رجب توفي السلطان خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعـود بـن محمـد بـن سبكتكين صاحب غزنة وكان عادلاً حسن السيرة وكانت ولايته في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ولما مات ملك بعده ابنه ملكشاه بن خسروشاه وقيل والده خسروشاه المذكـور توفـي فـي حبـس غياث الدين الغوري وأنه آخر ملوك بني سبكتكين حسبما تقدم ذكره في سنة سبع وأربعين وخمسمائة والله أعلم بالصواب. ذكر وفاة ملكشاه والسلجوقي: في هذه السنة توفي السلطان ملكشـاه بـن محمـود بـن محمـد بـن ملكشـاه بـن ألـب أرسلـان ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة حج أسد الدين شيركوه بن شاذي مقدم جيش نور الدين محمود بن زنكي. فـي هـذه السنـة فـي ربيـع الآخـر توفـي الملك علاء الدين الحسيـن بن الحسين الغوري ملك الغور وكان عادلاً حسن السيرة ولما مات ملك بعده ابن أخيه غياث الدين محمد وقد تقدم ذكر ذلك في سنة سبع وأربعين وخمسمائة. ذكر نهب نيسابور وتخريبها وعمارة الشاذباخ: فـي هـذه السنـة تقـدم المؤيـد أي بـه بإمسـاك أعيان نيسابور لأنهم كانوا رؤساء للحرامية والمفسدين وأخذ المؤيد يقتـل المفسديـن فخربـت نيسابـور وكـان مـن جملـة مـا خـرب مسجـد عقيل وكان مجمعاً لأهل العلم وكان فيه خزائن الكتب الموقوفة وخرب مـن مـدارس الحنفيـة سبع عشرة مدرسة وأحرق ونهب عدة من خزائن الكتب. وأما الشاذباخ فإن عبد الله بن طاهـر بـن الحسيـن بناهـا لمـا كـان أميـراً علـى خراسان للمأمون وسكنها هو والجند ثم خربت بعد ذلـك ثـم جددت في أيام السلطان ألب أرسلان السلجوقي ثم تشعثت بعد ذلك فلما كان الآن وخربت نيسابور أمر المؤيد أمح أي به بإصلاح سور الشاذباخ وسكنها هو والناس فخربت نيسابور كل الخراب ولم يبق بها أحد. في هذه السنة في رمضان قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك الأرمني وزير العاضد العلوي جهزت عليه عمة العاضد من قتله وهو داخل في القصر بالسكاكين ولم يمت في تلك الساعة بل حمل إلى بيته وأرسل يعتب على العاضد. فأرسل العاضد إلى طلائع المذكور يحلف له أنه لم يرض ولا علم بذلك وأمسك العاضد عمته وأرسلها إلى طلائع فقتلها وسأل العاضد أن يولى ابنـه رزيـك الـوزارة ولقـب العـادل ومـات طلائـع واستقـر ابنـه العـادل رزيك في الوزارة وكان للصالح طلائع شعر حسن فمنه في الفخر: أبى الله إلا أن يدين لنا الدهـر ويخدمنا في ملكنا العز والنصر علمنا بأن المال تفنى ألوفه ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا سحاب لديه البرق والرعد والقطر ذكر ملك عيسى مكة حرسها الله تعالى: كان أميـر مكـة قاسـم بـن أبـي فليتـة بـن قاسـم بـن أبـي هاشـم العلـوي الحسينـي فلمـا سمـع بقـرب الحـاج من مكة صادر المجاورين وأعيان مكة وأخذ أموالهم وهرب إلى البرية. فلما وصل الحاج إلى مكة رتب أمير الحاج مكان قاسم عمه عيسى بن قاسم بن أبي هاشم فبقي كذلك إلى شهر رمضان ثم إن قاسم بن أبي فليتة جمع العرب وقصد عمه عيسى فلما قارب مكة رحـل عنها عيسى فعاد قاسم فملكها ولم يكن معه ما يرضى به العرب فكاتبوا عمه عيسى وصاروا معه فقدم عيسى إليهم فهرب قاسم وصعد إلى جبل أبى قبيس فسقط عن فرسه فأخذه أصحاب عمه عيسى وقتلوه فغسله عمه عيسى ودفنه بالمعلى عند ابنه أبي فليتة. واستقرت مكة لعيسى. ذكر غير ذلك: فـي هـذه السنـة عبـر عبـد المؤمـن بـن علـي المجـاز إلـى الأندلـس وبنى على جبل طارق من الأندلس مدينة حصينة وأقام بها عدة أشهر ثم عاد إلى مراكش. وفيها ملك قرا أرسلان صاحب حصن كيفا قلعة شاتان وكانت لطائفـة مـن الأكـراد ولمـا ملكهـا خربهـا وأضـاف أعمالهـا إلـى حصن طالب. فـي هـذه السنـة نازل نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم وهي للفرنج مدة ثم رحل عنها ولم يملكها. وفيها سارت الكـرج فـي جمـع عظيـم ودخلـوا بلـاد الإسلـام وملكـوا مدينـة دويـن مـن أعمـال أذربيجان ونهبوهـا. ثـم جمـع الدكـز صاحـب أذربيجـان جمعـاً عظيمـاً وغـزا الكـرج وانتصـر عليهم. وفيها حج الناس فوقعت فتنة وقتال بين صاحب مكة وأمير الحاج فرحل الحاج ولم يقدر بعضهم على الطواف بعد الوقفة. قال ابن الأثير: وكان ممن حج ولم يطـف جدتـه أم أبيـه فوصلت إلى بلادها وهي على إحرامها واستفتت الشيخ أبا القاسم بن البرزي فأفتى أنها إذا دامت على ما بقي من إحرامها إلى قابل وطافت كمل حجها الأول ثم تفدي وتحل ثم تحرم إحرامـاً ثانيـاً وتقـف بعرفـات وتكمـل مناسـك الحـج فيصيـر لهـا حجـة ثانيـة. فبقيت على إحرامها إلى قابل وفعلت كما قال فتم حجها الأول والثاني. وفيهـا مات الكيا الصنهاجي صاحب الألموت مقدم الإسماعلية وقام ابنه مقامه فأظهر التوبة. وفيها في المحرم توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد المقيم ببلد الهكارية من أعمال الموصل وأصل الشيخ عدي من الشام من بلد بعلبك فانتقل إلى الموصل وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي وأطاعوه وأحسنوا الظن به.
في هذه السنة في صفر وزر شاور للعاضد لدين اللـه العلـوي وكـان شـاور يخـدم الصالـح طلائع بن رزيك فولاه الصعيد وكانت ولاية الصعيد أكبـر المناصـب هـد الـوزارة ولمـا خـرج الصالح أوصى ابنه العادل أن لا يغير على شاور شيئاً لعلمه بقوة شاور فلما تولى العادل ابن الصالح الوزارة كتب إلى شاور بالعزل فجمع شاور جموعه وسار نحو العـادل إلـى القاهـرة فهرب العادل وطرد وراءه شـاور وأمسكـه وقتلـه وهـو العـادل رزيـك بـن الصالـح طلائـع بـن رزيك وانقرضت بمقتله دولة بني رزيك وفيهم يقول عمارة التميمي من أبيات طويلة: ولت ليالي بني رزيك وانصرمت والمدح والشكر فيهم غير منصرم كـأن صالحهم يوماً وعادلهم في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم واستقر شاور في الوزارة وتلقـب بأميـر الجيـوش وأخـذ أمـوال بنـي رزيـك وودائعهـم ثـم إن الضرغام جمع جمعاً ونازع شاور في الوزارة فـي شهـر رمضـان وقـوى علـى شـاور فانهـزم شاور إلى الشام مستنجداً بنور الدين ولما تمكن ضرغام في الوزارة قتل كثيراً من الأمراء المصريين لتخلو له البلاد فضعفت الدولة لهذا لسبب حتى خرجت البلاد من أيديهم. ذكر وفاة عبد المؤمن: فـي هـذه السنة في العشرين من جمادى الآخرة توفي عبد المؤمن بن علي صاحب بلاد المغرب وإفريقية والأندلس وكان قد سار من مراكش إلى سلا فمرض بها ومات ولما حضره الموت جمـع شيـوخ الموحديـن وقال لهم: قد جربت ابني محمداً فلم أره يصلح لهذا الأمر وإنما يصلح له ابني يوسف فقدموه فبايعوه ودعى بأمير المؤمنين واستقرت قواعد ملكه وكانـت مـدة ولايـة عبد المؤمن ثلاث وثلاثين سنة وشهوراً. وكان حازماً سديد الرأي حسن السياسة للأمور كثير سفك الدم على الذنب الصغير وكان يعظم أمر الدين ويقويه ويلزم الناس بالصلاة بحيث أنه من رآه وقت الصلاة غير مصل قتل وجمع الناس في المغرب على مذهب مالك في الفروع وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة ملك المؤيد أي به قومس ولما ملكها أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغريل ابن ملكشاه خلعة وألوية وهدية جليلة فلبس المؤيد أي به الخلع وخطب له في بلاده. وفي هذه السنة كبس الفرنج نور الدين محمود وهو نازل بعسكره في البقيعة تحت حصـن الأكراد فلم يشعر نور الدين وعسكره إلا وقد أظلت عليهم صلبان الفرنج وقصدوا خيمة نور الدين فلسرعة ذلك ركب نور الدين فرسه وفي رجله السنجة فنزل إنسـان كـردي فقطعهـا فنجا نور الدين وقتل الكردي فأحسن نور الدين إلى مخلفيـه ووقـف عليهـم الوقـوف وسـار نور الدين إلى بحيرة حمص فنزل عليها وتلاحق به من سلم من المسلمين. وفيها أمر الخليفة المستنجد بإخلاء بني أسد وهم أهل الحلة المزيدية فقتل منهم جماعة وهرب الباقون وتشتتوا في البلاد وذلك لفسادهم في البلاد وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى رجل يقال له ابن معروف. وفيها توفي سديد الدولة محمد بن عبد الكريم بـن إبراهيـم المعـروف بابـن الأنبـاري كاتـب الإنشاء بدار الخلافة وكان فاضلاً أديباً وكان عمره قريب تسعين سنة. في هذه السنة سير نور الدين محمود بن زنكي عسكراً مقدمهم أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى الديار المصرية ومعهـم شـاور وكـان قـد سار من مصر هارباً من ضرغام الوزير فلحق شاور بنور الدين واستنجده وبذل له ثلث أموال مصـر بعـد رزق جندهـا إن أعـاده إلـى الـوزارة فأرسـل نـور الديـن شيركـوه إلـى مصـر فوصل إليها وهزم عسكر ضرغام وقتل ضرغام عند قبر السيدة نفيسة وأعاد شاور إلـى وزارة العاضد العلوي. وكـان مسيـر أسـد الديـن فـي جمـادى الأولـى من هذه السنة. واستقر شاور في الوزارة وخرجت إليه الخلع في مستهل رجب من هذه السنة ثم غدر شاور بنور الدين ولم يف له بشيء مما شرط فسار أسد الدين واستولى على بلبيس والشرقية فأرسل شـاور واستنجـد بالفرنـج على إخراج أسد الدين شيركوه من البلاد فسار الفرنج واجتمع معهـم شـاور بعسكـر مصـر وعمروا شيركوه ببلبيس ودام الحصار مدة ثلـاث أشهـر وبلـغ الفرنـج حركـة نـور الديـن وأخـذه حـارم فراسلـوا شيركوه في الصلح وفتحوا له فخرج من بلبيس بمن معه من العسكر وسار بهم ووصلوا إلى الشام سالمين. وفي هذه السنة في رمضان فتـح نـور الديـن محمـود قلعـة حـارم وأخذهـا مـن الفرنـج بعـد مصاف جرى بين نور الدين والفرنج انتصر فيه نور الدين وقتل وأسر من الفرنج عالماً كثيراً وكـان فـي جملـة الأسـرى البرنـس صاحـب أنطاكيـة والقومـص صاحـب طرابلـس وغنـم منهم المسلمون شيئاً كثيراً. وفي هذه السنة أيضاً في ذي الحجة سار نور الدين إلى بانياس وفتحها وكان بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلى هذه السنة. فـي هـذه السنـة توفـي جمـال الديـن أبـو جعفـر محمـد بـن علي بن أبي منصور لأصفهاني وزير قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في شعبان مبوضاً عليه وكان قد قبض عليه قطب الدين في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وكان قد تعاهد جمال الدين المذكور وأسـد الديـن شيركوه أنهما من مات منهما قبل الآخر ينقله الآخر إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيدفنـه فيهـا فنقله شيركوه واكترى له من يقرأ القرآن عند شيله وحطه وكان ينادي في كل بلد ينزلونه بها بالصلاة عليه ولما أرادوا الصلاة عليه بالحلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد: سرى نعشه فوق الرقاب وطالما سرى جوده فوق الركاب ونائله يمر علـى الـوادي فتثنـي رمالـه عليـه وبالنـادي فتثني أرامله وطيـف بـه حـول الكعبـة ودفـن فـي ربـاط بالمدينـة بنـاه لنفسـه وبينـه وبيـن قبر النبي صلى الله عليه وسلم نحو خمسة عشر ذراعاً وهذا جمال الدين هو الذي جدد مسجد الخيف بمنى وبنى الحجر بجانب الكعبة وزخرف الكعبة وغرم جملة طائلة لصاحب مكة وللمقتفي حتى مكنه من ذلك وهو الذي بنى المسجد الذي على جبل عرفات وعمل الدرج إليه وعمل بعرفات مصانـع المـاء وبنـى سوراً على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وبنى على دجلة جسراً عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس فقبض قبل أن يفرغ وبنى الربط وغيرها. وفي هذه السنة توفي نصر بن خلف ملك سجستان وعمره أكثر من مائة سنة ومدة ملكه ثمانون سنة وملك بعده ابنه أبو الفتح أحمد بن نصر. وفيها توفي الإمام عمر الخوارزمي خطيب بلخ ومفتيها والقاضي أبو بكر المحمودي صاحب فـي هـذه السنـة في ربيع الأول توفي شاه مازندران رستم بن علي بن شهريار بن قارن وملك بعده ابنه علاء الدين الحسن وفيها ملك المؤيد أي به مدينة هراة. وفيهـا كان بين قليج أرسلان صاحب قونية وما جاورها من بلاد الروم وبين باغي أرسلان بن الدانشمنـد صاحـب ملطيـة ومـا يجاورهـا مـن بلاد الروم حروب شديدة انهزم فيها قليج أرسلان واتفق موت باغي أرسلان صاحب ملطية في تلك المدة وملك بعده ملطية ابن أخيه إبراهيـم بـن محمـد بن الدانشمند واستولى ذو النون بن محمد بن الدانشمند على قيساربة وملك شاهان شاه بن مسعود أخو قليج أرسلـان مدينـة أنكوريـة واصطلـح المذكـورون علـى ذلـك واستقرت بينهم القواعد واتفقوا. وفيهـا توفـي عـون الديـن الوزيـر ابن هبيرة واسمه يحيى بن محمد بن المظفر وكان موته في جمادى الأولى ومولده سنة سبعين وأربعمائة ودفن بالمدرسة التي بناها الحنابلة بباب البصرة وكان حنبلي المذهب وأنفق على المقتفي نفاقاً عظيماً حتى أن المقتفي كان يقول: لم يتوزر لبني العباس مثله ولما مات قبض على أولاده وأهله. وفيهـا توفـي الشيـخ الأمـام أبو القاسم عمر بن عكرمة بن البرزي الفقيه الشافعي تفقه على الكيا وفيها توفي أبو الحسن هبة الله بن صاعد بن هبة الله المعروف بأمين الدولة ابن التلميذ وقد ناهـز المائـة مـن عمـره وكـان طبيـب دار الخلافـة ببغـداد ومحظيـاً عنـد المقتفـي وكان حاذقاً فاضلاً ظريف الشخص عالي الهمة مصيب الفكر شيخ النصارى وقسيسهم وكـان لـه فـي الأدب يد طولي وكان متفنناً في العلوم وكان فضلاء عصره يتعجبون كيف حرم الإسلام مع كمال فهمه وغزارة علمه والله يهدي من يشاء بفضله ويضل من يريد بحكمه. وكان أوحد الزمان أبو البركات هبة الله بن ملكان الحكيم المشهور صاحب كتاب المعتبر في الحكمة معاصراً لابن التلميذ المذكور وكان بينهما تنافس كما يقع كثير بين أهل كل فضيلة وصنعة وكان أبو البركات المذكور يهودياً ثم أسلم في آخر عمره وأصابه الجذام وتداوى وبرئ منه وذهب بصره وبقي أعمى وكان متكبراً وكان ابن التلميذ متواضعاً فعمل ابن التلميذ في أبي البركات المذكور: لنا صديق يهودي حماقته إذا تكلـم تبدو فيه من فيه يتيه والكلب أعلـى منـه منزلـة كأنـه بعـد لـم يخرج من التيه ولابن التلميذ أيضاً: يا من رماني عن قـوس فرقتـه بسهـم هجـر علـى تلافيـه وله التصانيف الحسنة منها كتاب اقرأ باذين ولـه علـى كليـات القانـون حواشـي وكتـاب اقـرأ باذيـن ابـن التلميـذ المذكور هو المعتمد عليه عند الأطباء كان شيخه في الطب أبا الحسن هبة الله بن سعيد صاحب المغني في الطب ولابن سعيد المذكور أيضاً الإقناع في الطب وهو كتاب جيد في أربعة أجزاء. في هذه السنة فتح نور الدين محمود حصن المنطرة مـن الشمـام وكـان بيـد الفرنـج. وفيهـا فـي ربيـع الآخـر توفـي الشيـخ عبـد القـادر بـن أبـي صالـح الجيلي وكنيته أبو محمد وكان مقيماً ببغداد ومولده سنة سبعين وأربعمائة. قال ابن الأثير: كان من الصلاح على حال عظيم وهو حنبلي المذهب ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد. في هذه السنة عاد أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية وجهزه نور الدين بعسكر جيد عدتهم ألفا فارس فوصل إلى ديـار مصـر واستولـى على الجيزة وأرسل شاور إلى الفرنج واستنجدهم وجمعهم وساروا في أثر شيركوه إلى جهة الصعيد والتقوا على بلد يقال له أيوان فانهزم الفرنج والمصريـون واستولـى شيركـوه علـى بلـاد الجيزة واستغلها. ثم سار إلى الإسكندرية وملكها وجعل فيها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وعاد شيركوه إلى جهة الصعيد فاجتمع عسكر مصر والفرنج وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية مدة ثلاث أشهر فسار شيركوه إليهم فاتفقوا على الصلح على مال يحملونه إلى شيركوه ويسلم إليهم الإسكندرية ويعود إلى الشام فتسلم المصريون الإسكندرية في منتصف شوال من هذه السنة وسار شيركوه إلى الشام فوصل إلى دمشق في ثامن عشر ذي القعدة واستقر الصلح بين الفرنج والمصريين على أن يكون للفرنج بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بيد فرسانهم ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. وفـي هـذه السنـة فتح نور الدين صافيتا والغربية. وفيها عصا غازي بن حسان صاحب منبج علـى نور الدين بمنبج فسير إليه نور الدين عسكراً وأخذوا منه منبج ثم أقطع نور الدين منبج قطب الدين ينال بن حسان أخا غازي المذكور فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وفيها توفي فخر الدين قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا وملك بعـده ولـده نـور الديـن محمـود بـن قـرا أرسلـان بـن داود. وفيهـا توفـي عبـد الكريـم أبـو سعيـد بن محمد بـن منصـور بـن أبـو بكـر المظفـر السمعانـي المـروزي الفقيـه الشافعـي وكـان مكثـراً مـن سمـاع الحديـث سافـر فـي طلبـه إلـى مـا وراء النهر وسمع منه ما لم يسمعه غيره وله التصانيف المشهورة الحسنة منها: ذيل تاريخ بغداد وتاريخ مدينة مرو وكتاب الأنساب في ثمان مجلدات. وقد اختصر كتاب الأنساب المذكور الشيخ عز الدين علي بن الأثير في ثلاث مجلدات والمختصر المذكور هو الموجود في أيدي الناس والأصل قليل الوجود وله غير ذلك وقد جمع مشيخته فزادت عدتهم على أربعة آلاف شيخ وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي فأوقع فيه فمن جملة قولـه فيـه: أنـه كـان يأخـذ الشيـخ ببغـداد ويعبـر بـه إلـى فـوق نهـر عيسى ويقول حدثني فلان بما وراء النهر هذا بارد جداً لأن السمعاني المذكور سافر إلى ما وراء النهر حقـاً فـأي حاجـة إلـى هذا التدليس وإنما ذنبه عند ابن الجوزي أنه شافعي وله أسوة بغيره فإن ابن الجوزي لم يبق على أحد غير الحنابلة وكانت ولادة أبي سعيد السمعاني المذكور في شعبان سنة سـت وخمسمائة وكان أبوه وجده فاضلين والسمعاني منسوب إلى سمعان وهو بطن من تميم. فـي هـذه السنـة فـارق زين الدين علي كجك بن بكتكين نائـب قطـب الديـن مـودود بـن زنكـي صاحـب الموصـل خدمـه قطـب الدين واستقر بإربل وكانت في إقطاع زين الدين علي المذكور وكانـت لـه إربـل مـع غيرهـا فاقتصـر علـى إربـل وسكنها وسلم ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود وكان زين الدين علي المذكور قد عمي وطرش.
|