الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **
فيها مات السلطان طغريل ابن السلطان محمد وكان بعد هزيمته من أخيه مسعود قد استولى علـى بلـاد الجبـل فمـات فـي هـذه السنـة فـي المحـرم وقيل إن وفاته كانت في أول سنة ثمان وعشرين وهـو الأصـح فـي ظنـي وكـان مولـده سنـة ثلـاث وخمسمائـة فـي المحـرم أيضـاً وكـان خيـراً عاقلاً ولما بلغ أخاه مسعوداً خبر وفاته سار نحو همذان وأقبلت العساكر جميعاً إليه واستولى على همذان ذكر قتل إسماعيل صاحب دمشق فـي هـذه السنـة فـي رابـع عشـر ربيـع الآخـر قتـل شمـس الملـوك إسماعيـل بـن تـوري بـن طغتكين وكان مولده في سابع جمادى الآخرة سنة ست وخمسمائة قتله على غفلة جماعة باتفاق من والدته وقد اختلف في سببه فقيل إن الناس لفرط جور إسماعيل المذكور وظلمه ومصادرته كرهوه وشكوه لأمه فاتفقت مع من قتله وقيل بل إن أمه اتهمت بشخص من أصحاب والده يقال له يوسف بن فيروز فأراد قتل أمه فاتفقت مع من قتله. وسر الناس بقتله ولما قتل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن توري وحلف له الناس. وفيها بعد قتل شمس الملوك وصل عماد الدين زنكي إلى دمشـق وحصرهـا وضيـق عليهـا وقـام فـي حفـظ البلـد معيـن الديـن أنـز مملـوك طغتكيـن القيام التام الذي تقدم به واستولى على الأمر بسببه فلما لم ير زنكي في أخذ دمشق مطمعه اصطلح مع أهلها ورحل عنها عائداً إلى بلاده. ذكر قتل حسن بن الحافظ لدين الله العلوي قـد تقدم في سنة ست وعشرين وخمسمائة أن أباه استوزره فتغلب حسن المذكور على الأمر واستبد به وأساء السيرة وأكثر من قتل الأمراء وغيرهم ظلماً وعدواناً وأكثر من مصادرات الناس فأراد العسكر الإيقاع به وبأبيه فعلم أبوه الحافـظ ذلـك فسقـاه سمـاً فمـات ولمـا مـات حسن استوزر الحافظ تاج الدولة بهرام وكان نصرانياً فتحكم واستعمل الأرمن على الناس فكان ما سنذكره. الحرب بين الخليفة المسترشد وبين السلطان مسعود وأسر الخليفة وقتله: فـي هـذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد وبين السلطان مسعود وسببه أن جماعة من عسكـر مسعـود فارقـوه مغاضبيـن واتصلـوا بالخليفـة المسترشد وهونوا عليه قتال السلطان مسعود فاغتر بكلامهم وسار من بغداد إلى قتال السلطان مسعود وسار مسعود إليه واتقعوا عاشر رمضان من هذه السنة فصار غالب عسكر الخليفة مع مسعود وانهزم الباقون وأخذ الخليفة المسترشد أسيراً ونهب عسكره وأسروا وبقى المسترشد مع مسعود أسيراً ثم سار به مسعـود مـن همـذان إلـى مراغـة فـي شوال لقتال ابن أخيه داود بن محمود فنزل على فرسخين من مراغـة والمسترشـد معـه فـي خيمـة منفـردة وكـان قـد اتفـق مسعـود مع الخليفة على مال يحمله الخليفة إليه وأن لا يعود يخرج من بغداد واتفق وصـول رسـول السلطـان سنجـر إلـى مسعـود فركـب مسعود والعساكر لملتقاه فوثبت الباطنية على المسترشد وهو في تلك الخيمة فقتلوه ومثلوا به فجدعـوا أنفه وأذنيه وقتل معه نفر من أصحابه وكان قتل المسترشد يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة بظاهر مراغة وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وثلاثة أشهر وكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوماً. وأمه أم ولد وكان فصيحاً حسن الخط شهماً. وهو الثلاثون من خلفاء بني العباس لما قتل المسترشد بالله بويع ابنه الراشـد باللـه أبـو جعفـر المنصـور بـن المسترشـد فضـل بـن المستظهـر أحمـد وكـان أبـوه قـد بايـع لـه بولايـة العهـد فـي حياتـه ثـم بعد قتله جددت له بيعة في يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة وكتب مسعود إلى بغداد بذلك فحضر بيعته أحد وعشرين رجلاً من أولاد الخلفاء. ذكر قتل دبيس في هذه السنة قتل السلطان مسعود دبيس بن صدقة على باب سرداقه بظاهر مدينة خوى أمـر غلامـاً أرمنيـاً بقتله فوقف على رأس دبيس وهو ينكث في الأرض بإصبعه فضرب رقبته وهـو لا يشعـر وكـان ابنه صدقة بن دبيس بالجيلة فلما بلغه الخبر اجتمع عليه عسكر أبيه وكثر جمعه وما أكثر ما يتفق قرب موت المتعاديين فإن دبيساً كان يعادي المسترشد بالله فاتفق قتل أحدهما عقيب قتل الآخر. فـي هـذه السنـة استولـى الفرنـج علـى جزيرة جربة من أعمال إفريقية وهرب وأسر من كان بها من المسلمين. وفيها صالح المستنصر بن هود الفرنج على تسليم حصن زوطة من بلاد الأندلس وسلمه إلى صاحب طليطلة الفرنجي. ذكر ملك شهاب الدين حمص فـي هـذه السنـة فـي الثانـي والعشرين من ربيع الأول تسلم شهاب الدين محمود بن توري صاحب دمشـق مدينـة حمـص وقلعتها وسبب ذلك أن أصحابها أولاد الأمير قيرخان بن قراجا والوالي بها من قبلهم ضجروا من كثرة تعرض عماد الدين زنكي إليها وإلى أعمالها فراسلوا شهاب الدين في أن يسلموها إليه ويعطيهم عوضها تدمر فأجابهم إلى ذلك وتسلم حمص وأقطعها المملوك جـده معيـن الديـن أنز وسلم إليهم تدمر. فلما رأى عسكر زنكي بحلب وحماة خروج حمص إلى صاحب دمشق تابعوا الغارات على بلدها فأرسل شهاب الدين محمود إلى عماد الدين زنكي في الصلح فاستقر بينهما وكف عسكر عماد الدين عن حمص. فيهـا سـارت عساكـر عمـاد الديـن زنكـي الذيـن بحلـب وحمـاة ومقدمهـم إسـوار نائـب زنكـي بحلب إلى بلاد الفرنج بنواحـي اللاذقيـة وأوقعـوا بمـن هنـاك مـن الفرنـج وكسبـوا مـن الجـواري والمماليك والأسرى والدواب ما ملأ الشام من الغنائم وعادوا سالمين. وهو حادي ثلاثينهم كان الراشد قد اتفق مع بعض ملوك الأطراف مثل عماد الدين زنكي وغيـره علـى خلـاف السلطان مسعود وطاعة داود بن السلطان محمود فلما بلغ مسعوداً ذلك جمع العساكر وسار إلى بغداد ونزل عليها وحصرها ووقع في بغداد النهب من العيارين والمفسدين ودام مسعود محاصرها نيفاً وخمسين يوماً فلم يظفر بهم فارتحل إلى النهروان. ثم وصل طرنطي صاحب واسط بسفن كثيرة فعاد مسعود إلى بغداد وعبر إلى غربي دجلة واختلفـت كلمة عساكر بغداد فعاد الملك داود إلى بلاده أذربيجان في ذي القعدة وسار الخليفة الراشد من بغداد مع عماد الدين زنكي إلى الموصل ولما سمع مسعود بمسير الخليفة وزنكي سـار إلـى بغـداد واستقـر بهـا في منتصف ذي القعدة وجمع مسعود القضاة وكبراء بغداد وأجمعوا على خلع الراشد بسبب أنه كان قد عاهد مسعود على أنه لا يقاتله ومتى خالف ذلك فقد خلع نفسه وبسبب أمور ارتكبها فخلع وحكم بفسقه وخلعه. وكانت مدة خلافة الراشد أحد عشر شهراً وأحد عشر يوماً تم استشار السلطان مسعود فيمـن يقيمـه فـي الخلافـة فوقـع الاتفـاق علـى محمد بن المستظهر فأحضر وأجلس في الميمنة ودخل إليه السلطان مسعود وتحالفـا ثـم خـرج السلطـان وأحضـر الأمـراء وأربـاب المناصـب والقضـاة والفقهاء وبايعوه ولقبوه المقتفي لأمر الله والمقتفي عم الراشد المذكـور وهـو والمسترشـد أبنـاء المستظهـر وليـا الخلافة وكذلك السفاح والمنصور أخوان وكذلك المهدي والرشيد أخوان وكذلك الواثق والمتوكل وأما ثلاثة أخوة ولوا الخلافة فالأمين والمأمون والمعتصم أولاد الرشيد وكذلك المكتفي والمقتدر والقاهر والمعتضد والراضي والمتقي والمطيع بنو المقتدر. وأما أربعة إخوة ولوها فالوليد وسليمان ويزيد وهشام بنـو عبـد الملـك بـن مـروان لا يعـرف غيرهم. وعمل محضر بخلع الراشد وأرسل إلى الموصل وزاد المتقي في إقطاع عماد الديـن زنكي وألقابه وأرسل المحضر فحكم به قاضي القضاة الزينبي بالموصل وخطب للمقتفي في الموصل في رجب سنة إحدى وثلاثين. فيها عزل الحافظ وزيره بهـرام النصرانـي الأرمنـي بسبـب مـا اعتقـد مـن توليـة الأرمـن علـى المسلميـن وإهانتهم لهم فأنف من ذلك شخص يسمى رضوان بن الوكحشي وجمع جمعاً وقصد بهـرام فهـرب بهـرام إلـى الصعيـد. ثـم عـاد وأمسكـه الحافـظ وحبسـه فـي القصـر. ثـم إن بهـرام المذكور ترهب وأطلقه الحافظ ولما هرب بهرام استوزر الحافظ رضوان المذكور ولقبه الملك الأفضل وهو أول وزير للمصريين لقب بالملك. ثم إنه فسد ما بين رضوان والحافظ فهرب رضوان وجرى له أمور يطول شرحها آخرها أن الحافظ قتل رضوان المذكور ولم يستوزر بعده أحداً وباشر الأمور بنفسه إلى أن مات. حصر زنكي حمص ورحيله إلى بارين وفتحها فـي هـذه السنة نزل عماد الدين زنكي حمص وبها صاحبها معين الدين أتز فلم يظفر بها فرحل عنها في العشرين من شوال إلى بعرين وحصر قلعتها وهي للفرنج وضيق عليها فجمع الفرنج ملوكهـم ورجالهـم وسـاروا إلـى زنكي ليرحلوه عن بعرين فلما وصلوا إليه لقيهم وجرى بينهم قتال شديد فانهزمت الفرنج ودخل كثير من ملوكهم لما هربوا إلى حصن بعرين وعاود عماد الدين زنكي حصار الحصن وضيق عليه وطلـب الفرنـج الأمـان فقـرر عليهـم تسليـم حصـن بعريـن وخمسين ألف دينار يحملونها إليه فأجابوا إلـى ذلـك فأطلقهـم وتسلـم الحصـن وخمسيـن ألـف وكـان زنكـي فـي مـدة مقامـه على حصار بعرين قد فتح المعرة وكفر طاب وأخذهما من الفرنج. وحضـر أهل المعرة وطلبوا تسليم أملاكهم التي كان قد أخذها الفرنج فطلب زنكي منهم كتب أملاكهم فذكروا أنها عدمت فكشف من ديوان حلب عن الخراج وأفرج عن كـل ملـك كـان عليه الخراج لأصحابه. ملك عماد الدين زنكي حمص وغيرها في هذه السنة في المحرم وصل زنكي حماة وسار منها إلى بقاع بعلبك فملك حصن المجدل وكان لصاحب دمشق وراسله مستحفظ بانياس وأطاعه وسار إلى حمـص وحصرهـا. ثـم رحـل عنهـا إلـى سلميـة بسبـب نـزول الروم على حلب على ما نذكره. ثم عاد إلى منازلة حمص فسلمت إليه المدينة والقلعة. وأرسل عماد الدين زنكي وخطب أم شهاب الدين محمـود صاحـب دمشـق وتوجهـا واسمهـا مردخاتـون بنـت جاولـي وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك إسماعيل بن توري وهي التي بنت المدرسة المطلة على وادي الشقرا بظاهر دمشق وحملت الخاتون إلى عماد الدين في رمضان وإنما تزوجها طمعاً على الاستيلاء على دمشق لما رأى من تحكمها فلما خاب ما أمله ولم يحصل على شيء أعرض عنها. وصول ملك الروم إلى الشام وما فعله كان قد خرج ملك الروم متجهزاً من بلاده في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فاشتغل بقتال الأرمن وصاحب أنطاكية وغيره من الفرنج فلما دخلت هذه السنة وصل إلى الشام وسار إلى بزاعة وهي على ستة فراسخ من حلب وحاصرها وملكها بالأمان في الخامس والعشرين من رجب ثم غدر بأهلها وأسر وسبى وتنصر قاضيها وقدر أربعمائة نفـس مـن أهلهـا وأقـام علـى بزاعـة بعـد أخذهـا عشـرة أيـام ثم رحل عنها بمن معه من الفرنج إلى حلب ونزل على قويق وزحف على حلب وجرى بين أهلها وبينهم قتال كثير فقتل من الروم بطريق عظيم القدر عندهم فعادوا خاسرين وأقاموا ثلاثة أيام ورحلوا إلى الأثارب وملكوها وتركوا فيها سبايا بزاعة وتركوا عندهم من الروم من يحفظهم. وسار ملك الروم بمجموعة من الأثارب نحو شيزر فخرج الأمير أسوار نائب زنكي بحلب بمن عنده وأوقع بمن في الأثارب من الروم فقتلهم واستفكت أسرى بزاعة وسباياها وسار ملك الروم بجموعه إلى شيزر وحصرها ونصب عليها ثمانية عشر منجنيقاً وأرسل صاحب شيزر أبو العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن نصر ابن منقذ الكناني إلى زنكي يستنجده فسار زنكي ونزل على العاصي بين حماة وشيزر وكان يركب عماد الدين زنكي وعسكره كل يوم ويشرفون على الروم وهم محاصرون لشيزر بحيث يراهم الروم ويرسل السرايا فيأخذون كل ما يظفرون به منهم وأقام ملك الروم محاصراً شيزر أربعة وعشرون يوماً ثم رحل عنها من غير أن ينال منها غرضاً وسار زنكي في أثر الروم فظفر بكثير ممن تخلف منهم ومدح الشعراء زنكي بسبب ذلك فأكثروا فمن ذلك ما قاله مسلم بن خضر بن قسيم الحموي من أبيات: لعزمك أيها الملك العظيـم تذل لك الصعاب وتستقيم ألم تر أن كلب الروم لما تبين أنه الملك الرحيم وقد نـزل الزمـان علـى رضـاء ودان لخطبه الخطب العظيم فحين رميتـه بـك عـن خميـس تيقن فوت ما أمسى يروم كأنك في العجـاج شهـاب نـور توقد وهو شيطان رجيم أراد بقاء مهجته فولى وليـس سـوى الحمـام لـه حميـم ذكر مقتل الراشد كان الراشد قد سار من بغداد إلى الموصل مع عماد الدين زنكي وخلع كما تقدم ذكره. ثم فارق الراشد زنكي وسار من الموصل إلى مراغة واتفق الملك داود بن السلطان محمود وملوك تلك الأطراف على خلاف السلطان مسعود وقتاله وإعادة الراشد إلى الخلافة وسار السلطان مسعود إليهم واقتتلوا فانهزم داود وغيره واشتغل أصحاب السلطـان مسعـود بالكسـب وبقـي وحده فعمل عليه أميران يقال لهما بوزايه وعبد الرحمن طغايرك فانهزم مسعود من بين أيديهما وقبض بوزايه على جماعة من أمرائه وعلى صدقة بن دبيس صاحب الحلة ثم قتلهم أجمعين. وكان الراشد إذ ذاك بهمذان فلما كان من الوقعة ما كان سار الملك داود إلى فارس وتفرقت تلك الجموع وبقي الراشد وحده فسار إلى أصفهان فلما كان الخامس والعشرون من رمضان وثب عليه نفر من الخرسانية الذين كانوا في خدمته فقتلوه وهو يريد القيلولة وكان من أعقاب مرض قد برئ منه ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان ولما وصل خبر قتل الراشد إلى بغداد جلسوا لعزائه يوماً واحداً. ذكر غير ذلك: في هذه السنة ملك حسام الدين تمرتاش بن أيلغازي صاحب ماردين قلعة الهتاخ من ديار بكر أخذها من بعض بني مروان الذين كانوا ملوك ديار بكر جميعها وهو آخر من بقي منهم. وفيها جاءت زلزلة عظيمة بالشام والعراق وغيرهما من البلاد فخربت كثيراً هلك تحت الهدم عالم كثير. الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه فـي هـذه السنـة فـي المحـرم شـار سنجـر بجموعـه إلـى خـوارزم شاه أطسز بن محمد بن أنوش تكين وقـد تقـدم ذكـر ابتـداء أمـر محمـد بن أنوش تكين في سنة تسعين وأربعمائة. ووصل سنجر إلى خـوارزم وخـرج خـوارزم شـاه لقتالـه واقتتلـوا فانهـزم أطسـز خـوارزم شـاه واستولـى سنجر على خوارزم وأقام بها من يحفظها وعاد إلى مرو في جمادى الآخرة من هذه السنة وبعد أن عاد سنجر إلى بلاده عاد أطسز إلى خوارزم واستولى عليها. قتل محمود صاحب دمشق فـي هـذه السنة في شوال قتل شهاب الدين محمود بن توري بن طغتكين صاحب دمشق قتله غيلة على فراشه ثلاثة من خواص غلمانه وأقرب الناس منه كانوا ينامون عنده فقتلوه وخرجوا مـن القلعـة وهربـوا فنجـا أحدهـم وأخـذ الاثنـان وصلبا واستدعى معين الدين أتز أخاه جمال الدين محمد بن توري وكان صاحب بعلبك فحضر إلى دمشق وملكها. فـي هـذه السنـة فـي ذي القعدة سار عماد الدين زنكي إلى بعلبك ووصل إليها في العشرين من ذي الحجـة وحصرهـا ونصـب عليها أربعة عشر منجنيقاً فطلب أهلها الأمان فأمنهم وسلموا إليه المدينة واستمر الحصار على القلعة حتى طلبوا الأمان أيضاً فأمنهم وسلموا إليه القلعة فلما نزلوا منها وملكها غدر بهم وأمر بهم فصلبوا عن آخرهم فاستقبح الناس ذلك واستعظموه وحذره الناس وكانت بعلبك لمعين الدين أتز أعطاه إياها جمال الدين محمد لما ملـك دمشـق وكان أتز قد تزوج بأم جمال الدين محمد صاحب دمشق وكان له جارية يحبها فأخرجها أتز إلـى بعلبـك. فلمـا ملـك زنكـي بعلبـك أخـذ الجارية المذكورة وتزوجها في حلب وبقيت مع زنكي حتـى قتـل علـى قلعـة جعبر فأرسلها ابنه نور الدين محمود بن زنكي إلى أتز وهي كانت أعظم الأسباب في المودة بين نور الدين وأتز. ذكر غير ذلك فـي هـذه السنـة توالت الزلازل بالشام وخربت كثيراً من البلاد لا سيما حلب. فإن أهلها فارقوا بيوتهم وخرجوا إلى الصحراء. ودامت من رابع صفر إلى تاسع عشر. في هذه السنة سار عماد الدين زنكي إلى دمشق وحصرها وزحف عليها وبذل لصاحبها جمال الدين محمد بعلبك وحمص فلم يأمنوا إليه بسبب غدره بأهل بعلبك وكان نزوله على داريـا فـي ثالـث عشـر ربيـع الـأول واستمر منازلاً لدمشق فمرض في تلك المدة جمال الدين محمد بن توري صاحب دمشق ومات في ثامن شعبان. فطمع زنكي حينئذ في ملك دمشق وزحف إليها واشتد القتال فلم ينل غرضاً. ولما مات جمال الدين محمد أقام معين الدين أتز في الملك ولده مجير الدين أتق بن محمد بن توري بن طغتكين واستمر أتز يدبر الدولة فلم يظهر لموت جمال الدين محمد أثر. ثـم رحـل زنكـي ونـزل بعـذرا مـن المـرج فـي سـادس شـوال وأحـرق عدة من قرى المرج ورحل عائداً إلى بلاده. وفي هذه السنة ملك زنكي شهر زور وأخذها من صاحبها قبجق بن ألب أرسلان شـاه التركمانـي وبقي في طاعة زنكي ومن جملة عسكره وفيها قتل المقرب جوهر من كبراء عسكر سنجر وكان قد عظم في الدولة وكان من جملة إقطاع المقرب المذكور الري. قتله الباطنية ووقفوا له في زي النساء واستغثن به فوقف يسمع كلامهم فقتلوه. وفيها توفي هبـة اللـه بـن الحسيـن بـن يوسـف المعـروف بالبديـع الإسطرلابـي وكانـت لـه اليـد الطولـى فـي عمل الإسطرلاب والآلات الفلكية وله شعر جيد وأكثره في الهزل. في هذه السنة وصل رسول السلطان سنجر ومعه بردة النبي صلى الله عليه وسلم والقضيب وكانا أخـذا مـن المسترشـد فأعادهمـا الـآن إلـى المقتفي. وفي هذه السنة ملك الإسماعيلية حصن مصياف بالشام وكان واليه مملوكاً لبني منقذ صاحب شيزر فاحتال عليه الإسماعيلية ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه وملكوا الحصن. وفيهـا توفـي الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان قتيلاً في فندق بمراكش وكان فاضلاً في الأدب وألف عدة كتب منها: قلائد العقيان ذكر فيه عدة من الفضلاء وأشعارهم ولقد أجاد فيه. فـي هـذه السنـة فـي المحـرم وقيـل فـي صفر كان المصاف العظيـم بيـن التـرك الكفـار مـن الخطـا وبيـن السلطـان سنجر. فإن خوارزم شاه أطسز بن محمد لما هزمه سنجر وقتل ولد أطسز عظم ذلك عليه وكاتب الخطا وأطمعهم في ملك ما وراء النهر فساروا في جمع عظيم وسار إليهم السلطان سنجر في جمع عظيم والتقوا بما وراء النهر فانهزم عسكر سنجر وقتل منهم خلق عظيم وأسرت امـرأة سنجـر ولمـا تمـت الهزيمـة علـى المسلمين سار خوارزم شاه أطسز إلى خراسان ونهب أموال سنجر ومن بلادها شيئاً كثيراً فـي هـذه السنـة بعـث عمـاد الدين زنكي جيشاً ففتحوا قلعة أشب وكانت من أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها ولما ملكها زنكي أمر بإخرابها وبناء القلعة المعروفة بالعمادية عوضاً عنها وكانت العمادية حصنا عظيمـاً خرابـاً فلمـا عمـره عماد الدين زنكي سمي العمادية نسبه إليه. وفيهـا سـارت الفرنـج فـي البحـر مـن صقليـة إلـى طرابلـس الغرب فحصروها ثم عادوا عنها. وفيها توفي محمد بن الدانشمند صاحب ملطية والثغر واستولى على بلاده الملك مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب قونية. فـي هـذه السنـة كـان الصلـح بيـن السلطـان مسعـود وبيـن عمـاد الدين زنكي. وفيها سار زنكي بعساكره إلى ديار بكر ففتح منها طنزة واستعرد وحيزان وحصن الروق وحصن قطليس وحصن باتاسا وحصن ذي القرنين وأخذ من بلد ماردين مما هو بيد الفرنج جملين والموزر وتل موزر من حصون شنحتان. وفيها سار السلطان سنجر بعسكره إلـى خـوارزم وحصـر أطسـز بهـا فبـذل خـوارزم شـاه أطسز الطاعة فأجابه سنجر إلى ذلك واصطلحا وعاد سنجر إلى مرو. وفيها ملك زنكي عانة من أعمال الفرات. وفيها توفي أبو القاسم محمود بن عمر النحوي الزمخشري ولد في رجب سنة سبع وستين وأربعمائة. وهو من زمخشر قرية من قرى خوارزم. كان إماماً في العلوم صنف المفصل في النحو والكشاف في التفسير وجهر القول فيه بالاعتزال وافتتحه بقوله: الحمد لله الذي خلق القرآن منجماً. ثم أصلحه أصحابه فكتبوا: الحمد لله الذي أنزل القرآن. وله غير ذلك من المصنفات فمنها: كتاب الفائق في غريب الحديث. وقدم الزمخشري بغداد وناظر بها ثم حج وجـاور بمكـة سينيـن كثيـرة فسمـي لذلـك جـار اللـه. وكـان حنفـي الفـروع معتزلـي الأصـول وللزمخشري نظم حسن فمنه من جملة أبيات: فإنا اقتصرنا بالذيـن تضايقـت عيونهم والله يجزي مـن اقتصـر مليـح ولكـن عنـده كل جفوة ولم أر في الدنيا صفاءً بلا كدر ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر منصوراً: وقائلـة مـا هذه الدرر التي تساقط من عينيك سمطين سمطين فقلت لها الدر الذي كان قد حشا أبو مضر أذني تساقط من عيني في هذه السنة فتح عماد الدين زنكي الرها من الفرنج بالسيـف بعـد حصـار ثمانيـة وعشريـن يومـاً. ثـم تسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقـي الفـرات وأمـا البيـرة فنـزل علمهـا وحاصرهـا ثـم رحـل عنهـا بسبـب قتـل نائبـه بالموصل وهو نصير الدين جقر. وسبب قتله: أنه كان عند زنكي ألب أرسلان ابن السلطان محمود بن محمد السنجوقي وكان زنكي يقول: إن البلاد التي بيدي إنما هي لهذا الملك. ألب أرسلان المذكور وأنا أتابكه ولهذا أسمى أتابك زنكي وكان ألب أرسلان المذكـور بالموصـل وجقر يقوم بوظائف خدمته فحسن بعض المناحيس لألب أرسلان المذكور قتل جقر وأخذ البلـاد من عماد الدين زنكي فلما دخل جقر إلى ألب أرسلان على عادته وثب عليه من عند ألب أرسلان فقتلوه فاجتمعت كبراء دولة زنكي وأمسكوا ألب أرسلان ولم يطعه أحد. ولما بلغ زنكي ذلك وهو محاصر للبيرة عظم عليه قتل جقر وخشي من الفتن فرحل عن البيرة لذلك. وخشي الفرنج الذين بها من معاودة الحصار وعلموا بضعفهم عن عمـاد الديـن فراسلـوا نجـم الدين صاحب ماردين وسلموا البيرة إليه وصارت للمسلمين. وفيها خرج أسطول الفرنج من صقلية إلى ساحل إفريقية وملكوا مدينة برسك وقتلوا أهلها وسبوا الحريم. وفيهـا توفـي تاشفيـن بـن علـي بـن يوسـف بـن تاشفيـن صاحـب المغـرب وولـي بعـده أخـوه إسحاق ابن علي وضعف أمر الملثمين وقـوي عبـد المؤمـن وقـد تقـدم ذكـر ذلـك فـي سنـة أربـع عشـرة وخمسمائة.
|