الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
هو داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة المهلبي أمير مصر ولاه الخليفة هارون الرشيد على إمرة مصر على الصلاة بعد عزل محمد بن زهير الأزدي فقدم مصر لأربع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة أربع وسبعين ومائة وقدم معه إبراهيم بن صالح بن علي العباسي على الخراج فدخلا مصر معًا " لأربع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 174 وسكن داود العسكر على العادة وجعل على شرطته عضار بن مسلم الطائي ثم أخذ داود في إصلاح أمر مصر وأخرج الجند الذين كانوا ثاروا على عمر بن غيلان صاحب خراج مصر في أيام محمد بن زهير المعزول عن إمرة مصر إلى بلاد المغرب وأخرج بعضهم أيضًا إلى بلاد المشرق وكانوا عدة كبيرة. ثم ورد عليه الأمر من الرشيد أن يأخذ المصريين ببيعة ابنه الأمير محمد ابن زبيدة ففعل ذلك. وكان الرشيد عقد لابنه محمد المذكور بولاية العهد ولقبه بالأمين وأخذ له البيعة من الناس وعمره خمس سنين وكتب بذلك إلى الأقطار. وكان سبب البيعة للأمين أن خاله عيسى بن جعفر بن المنصور جاء إلى الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك وسأله في ذلك وقال له: إنه ولدك وخلافته لك وإن أختي زبيدة تسألك في ذلك فوعده الفضل بذلك وسعى فيه عند الرشيد حتى بايع له الناس بولاية العهد وترك ولده المأمون وهو أسن من ولده محمد الأمين بشهر ثم بعد ذلك عهد الرشيد للمأمون بولاية العهد بعد الأمين على ما سيأتي ذكره. وأما جند مصر الذين أخرجوا من مصر فإنهم ساروا إلى المغرب في البحر فأسرهم الفرنج بعد حروب وسكن الحال بديار مصر وأمن الناس واستمر داود على إمرة مصر إلى أن صرفه الرشيد عنها بموسى بن عيسى العباسي المعزول عن إمرة مصر قديمًا وذلك لست خلون من المحرم سنة خمس وسبعين ومائة فكانت ولايته على مصر سنة واحدة ونصف شهر. وأما أمر الجند الذين أسرهم الفرنج فإن داود بن يزيد المذكور جهزهم نجدة إلى هشام بن عبد الرحمن الأموي فيما قيل وسببه أن هشام بن عبد الرحمن صاحب الأندلس لما فرغ من حرب أخويه سليمان وعبد الله وأجلاهما عن الأندلس وخلا سره منهما انتدب لمطروح بن سليمان بن يقظان الذي كان خرج عليه وسير إليه جيشًا كثيفًا وجعل عليهم أبا عثمان عبيد الله بن عثمان فساروا إلى مطروح وهو بسرقسطة فحصروه بها فلم يظفروا به فرجع أبوعثمان ونزل بحصن طرطوشة بالقرب من سرقسطة وبث سراياه على أهل سرقسطة ثم إن مطروحًا خرج في بعض الأيام يتصيد وأرسل البازي على طائر فاقتنصه فنزل مطروح ليذبحه ومعه صاحبان له قد انفرد بهما فقتلاه وأتيا برأسه إلى أبي عثمان فأرسله أبو عثمان إلى هشام. السنة التي حكم فيها داود بن يزيد على مصر وهي سنة أربع وسبعين ومائة. فيها حج بالناس هارون الرشيد على طريق البصرة ودخل البصرة ووسع في جامعها من ناحية القبلة. وفيها وقعت العصبية وثارت الفتن بين أهل السنة والرافضة. وفيها استقضى الرشيد يوسف ابن القاضي أبي يوسف يعقوب صاحب أبي حنيفة في حياة والده. وفيها توفي روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة المهلبي الأمير كان هو وأخوه من وجوه دولة بني العباس. ولي روح هذا إفريقية والبصرة وغيرهما وكان جليلًا شجاعًا جوادًا. وفيها توفي عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان الإمام الحافظ عالم الديار المصرية وقاضيها ومحدثها أبوعبد الرحمن الحضري المصري مولده سنة سبع وتسعين وقيل سنة ست وتسعين ومات في يوم الأحد نصف شهر ربيع الأول من السنة وصلى عليه الأمير داود بن يزيد ودفن بالقرافة من جبانة مصر وقبره معروف بها تقصد للزيارة. قال الذهبي: وكان ابن لهيعة من الكتابين للحديث والجماعين للعلم والرحالين فيه ولقد حدثني شكر: أخبرنا يوسف بن مسلم عن بشر بن المنفر قال: كان ابن لهيعة يكنى أبا خريطة وذاك أنه كانت له خريطة معلقة في عنقه فكان يدور بمصر فكقلا قدم قوم كان يدور عليهم فكان إذا رأى شيخا سأله: من لقيت وعمن كتبت. وفيها توفي منصور مولى عيسى بن جعفر بن منصور وكان منصور هذا يلقب بزلزل وكان مغنيًا يضرب بغنائه وضربه بالعود المثل وكان الغناء يوم ذاك غير الموسيقى الآن وإنما كانت زخمات عددية وأصوات مركبة في أنغام معروفة وهو نوع من إنشاد زماننا هذا على الضروب لإنشاد المداح والوعاظ. وقد أوضحنا ذلك في غير هذا المحل في مصنف على حدته وبينا فيه الفرق بينه وبين الموسيقى. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا وثمانية أصابع ونصف. ولاية موسى بن عيسى الثانية على مصر هو موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي ولي إمرة مصر ثانية من قبل الرشيد بعد عزل داود بن يزيد المهلبي وجمع له صلاة مصر وخراجها فكتب موسى المذكور من بغداد إلى الأمير عسامة بن عمرو يستخلفه على الصلاة ثم قدم خليفته على الخراج نصربن كلثوم ثم قدم موسى إلى مصر في سابع صفر سنة خمس وسبعين ومائة وسكن بالعسكر على العادة وحدثته نفسه بالخروج على الرشيد فبلغ الرشيد ذلك. قال أبو المظفر بن قزأوغلي في تاريخه مرآة الزمان: وبلغ الرشيد أن موسى ابن عيسى يريد الخروج عليه فقال: والله لا عزلته إلا بأخس من على بابي فقال لجعفر بن يحيى: ول مصر أحقر من على بابي وأخسهم فنظر فإذا عمر بن مهران كاتب الخيزران وكان مشوه الخلقة ويلبس ثيابًا خشنة ويركب بغلًا ويردف غلامه خلفه فخرج إليه جعفر وقال: أتتولى مصر فقال: نعم فسار إليها فدخلها وخلفه غلام على بغل للثقل فقصد دار موسى بن عيسى فجلس في أخريات الناس فلما انفض المجلس قال موسى: ألك حاجة فرمى إليه بالكتاب فلما قرأه قال: لعن الله فرعون حيث قال: " انتهى كلام أبي المظفر. قلت: لم يذكر عمر بن مهران أحد من المؤرخين في أمراء مصر والجمهور على أن موسى بن عيسى عزل بابراهيم بن صالح العباسي ولعل الرشيد لم يرسل عمر هذا إلا لنكاية موسى ثم أقر الرشيد إبراهيم بعد خروج المذكور من بغداد فكانت ولاية عمر على مصر شبه الاستخلاف من إبراهيم بن صالح ولهذا أبطأ إبراهيم بن صالح عن الحضور إلى الديار المصرية بعد ولايته مصر عن موسى المذكور وكانت ولاية عمر بن مهران على خراج مصر وإبراهيم على الصلاة وهذا أوجه من الأول. وقال الذهبي: ولى الرشيد مصر لجعفر بن يحيى البرمكي بعد عزل موسى فعلى هذا يكون عمر نائبًا عن جعفر ولم يصل جعفر إلى مصر في هذه السنة ولهذا لم يثبت ولايته أحد من المؤرخين انتهى. وكان عزل موسى بن عيسى عن إمرة مصر في ثامن عشرين صفر سنة 174 فكانت ولايته هذه الثانية على مصر سنة واحدة إلا أيامًا قليلة. قلت: ومما يؤيد قولي إنه كان على الخراج قول ابن الأثير في الكامل وذكر ذلك في سنة 176 قال: وفيها عزل الرشيد موسى بن عيسى عن مصر ورد أمرها إلى جعفر بن يحيى بن خالد فاستعمل عليها جعفر عمر بن مهران. وكان سبب عزله أن الرشيد بلغه أن موسى عازم على الخلع فقال: والله لا أعزله آلا بأخس من على بابي فأمر جعفرًا فأحضر عمر بن مهران وكان أحول مشوه الخلق وكان لباسه خسيسًا وكان يردف غلامه خلفه فلما قال له الرشيد: أتسير إلى مصر أميرا قال: أتولاها على شرائط إحداها أن يكون إذني إلى نفسي إذا أصلحت البلاد انصرفت فأجابه إلى ذلك فسار فلما وصل إليها أتى دار موسى فجلس في أخريات الناس فلما تفرقوا قال: ألك حاجة قال: نعم ثم دفع إليه الكتب فلما قرأها قال: هل يقدم أبو حفص أبقاه الله قال: أنا أبو حفص فقال موسى: لعن الله فرعون حيث قال: " فتقدم عمر إلى كاتبه ألا يقبل هدية إلا ما يدخل في الكيس فبعث الناس بهداياهم فلم يقبل دابة ولا جارية ولم يقبل إلا المال والثياب فأخذها وكتب عليها أسماء أصحابها وتركها وكان أهل مصر قد اعتادوا المطل بالخراج وكسره فبدأ عمر برجل منهم فطالبه بالخراج فلواه فأقسم ألا يؤديه إلا بمدينة السلام فبذل الخراج فلم يقبله منه وحمله إلى بغداد فأدى الخراج بها فلم يمطله أحد فأخذ النجم الأول والنجم الثاني فلما كان النجم الثالث وقعت المطاولة والمطل وشكوا الضيق فأحضر تلك الهدايا وحسبها لأربابها وأمرهم بتعجيل الباقي فأسرعوا في ذلك فاستوفى خراج مصر عن آخره ولم يفعل ذلك غيره ثم انصرف إلى بغداد ". انتهى كلام ابن الأثير برمته. السنة التي حكم فيها موسى بن عيسى ثانيًا على مصر وهي سنة خمس وسبعين ومائة. فيها عقد الرشيد البيعة بالخلافة من بعده لابنه محمد بن زبيدة ولقب بالأمين وعمره خمس سنين وكانت أمه زبيدة حرضت الرشيد وأرضوا الجند بأموال عظيمة حتى سكتوا. وفيها خرج يحيى بن عبد الله بن الحسن العلوي بالديلم وقويت شوكته وتوجهت إليه الشيعة من الأقطار فاغتم الرشيد من ذلك واشتغل عن اللهو والشرب وندب لحربه الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي في خمسين ألفًا وفرق فيهم الأموال فانحلت عزائم يحيى المذكور وطلب الصلح من الرشيد فصالحه الرشيد وأمنه ثم حبسه بعد مدة إلى أن مات. وفيها هاجت العصبية بالشام بين القيسية واليمانية وقتل منهم عدد كثير وكان على إمرة الشام موسى ابن ولي العهد عيسى العباسي فعزله الرشيد واستعمل على الشام موسى بن يحيى البرمكي فقدم موسى وأصلح بينهم. وفيها عزل الرشيد عن إمرة خراسان العباس بن جعفر وأمر عليها خاله الغطريف بن عطاء. وفيها توفي الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم الأصبهاني الأصل المصري أحد الأعلام وشيخ إقليم مصر وعالمه كنيته أبو الحارث مولده في شعبان سنة أربع وتسعين. قال الذهبي: وحج سنة ثلاث عشرة ومائة فلقي عطاء ونافعًا وابن أبي مليكة وسعيد المقبري وأبا الزبير وابن شهاب فأكثر عنهم ثم ذكر جماعة كثيرة ممن روى عنه. انتهى. وكان كبير الديار المصرية ورئيسها وأمير من بها في عصره بحيث إن القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته وكان الشافعي يتأسف على فوات لقيه. قيل: إن الإمام مالكًا كتب إليه من المدينة: بلغني أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق وتمشي في الأسواق فكتب إليه الليث بن سعد: " وعن ابن الوزير قال: قد ولي الليث الجزيرة وكان أمراء مصر لا يقطعون أمرًا إلا بمشورته فقال أبو المسعد وبعث بها إلى المنصور أبي جعفر: " الوافر " لعبد الله عبد الله عندي نصائح حكتها في السر وحدي أمير المؤمنين تلاف مصرًا فإن أميرها ليث بن سعد وكانت وفاة الليث في رابع عشر شعبان. ذكر الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وتوفي الحكم بن فصيل الواسطي والخليل بن أحمد فيما قيل وقد مر وخشاف الكوفي صاحب اللغة والقاسم بن معن المسعودي الكوفي والليث بن سعد فقيه مصر. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع سواء مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعًا وثمانية عشر إصبعًا. ولاية إبراهيم بن صالح ثانيًا على مصر تقدم ذكر ترجمته في ولايته الأولى على مصر أعاده الرشيد إلى ولاية مصر ثانيا بعد عزل موسى بن عيسى العباسي في صفر سنة لست وسبعين ومائة. ولما ولي إبراهيم مصر أرسل باستخلاف عسامة بن عمرو على الصلاة إلى أن قمم نصر بن كلثوم على خراج مصر في مستهل شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائة. وتوفي عسامة بن عمرو لسبع بقين من شهر ربيع الآخر من السنة. ثم قدم إلى مصر روح بن زنباع خليفة لإبراهيم على الصلاة والخراج - وروح بن زنباع هذا أبوه حفيد روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان - فدام روح بن زنباع المذكور على صلاة مصر وخراجها إلى أن قدمها إبراهيم بن صالح بعده بأيام في النصف من جمادى الأولى كل ذلك من سنة ست وسبعين ومائة. وسكن إبراهيم العسكر وجمع له الرشيد بين الصلاة والخراج فلم تطل أيامه ومات لثلاث خلون من شعبان سنة ست وسبعين وقام بأمر مصر بعد موته ابنه صالح بن إبراهيم بن صالح مع صاحب شرطته خالد بن يزيد إلى أن ولي مصر عبد الله بن المسيب. وكان مقامه بها شهرين وثمانية عشر يومًا. وكان إبراهيم المذكور من وجوه بني العباس وولي الأعمال الجليلة مثل دمشق وفلسطين ومصر للمهدي أولًا ثم ولي الجزيرة لموسى الهادي ثم ولي مصر ثانيا في هذه المرة لهارون الرشيد وكان خيرًا دينًا ممدحًا وفد عليه مرة عباد بن عباد الخواص فقال له إبراهيم هذا: عظني فقال عباد: إن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى فانظر ماذا يعرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم من عملك فبكى إبراهيم حتى سالت دموعه على لحيته رحمه الله تعالى. بن صالح على مصر وهي سنة ست وسبعين ومائة. فيها عقد الرشيد لابنه المأمون عبد الله العهد بعد أخيه محمد الأمين ولقبه المأمون وولاه الشرق وكتب بينهما كتابًا وعلقه في الكعبة وكان المأمون أسن من الأمين بشهر واحد غير أن الأمين أفه زبيدة بنت جعفر هاشمية والمأمون أفه أم ولد اسمها مراجل ماتت أيام نفاسها به ومولدهما في سنة سبعين ومائة. وفيها حج بالناس سليمان بن منصور العباسي. وفيها أيضًا حجت زبيدة بنت جعفر زوج الرشيد وأمرت في هذه السنة ببناء المصانع والبرك في طريق الحج. وفيها عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن إمرة خراسان وولاها حمزة بن مالك الخزاعي وكان حمزة يلقب بالعروس. وفيها توفي إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة أبو إسحاق الفهري الشاعر المشهور. كان الأصمعي يقول: ختم الشعراء بابن هرمة وهو آخر الحجج. وفيها توفي صالح بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وفيها توفي أبو عوانة وآسمه الوضاح بن عبد الله البزاز الواسطي الحافظ مولى يزيد بن عطاء اليشكري ويقال من سبي جرجان رأى الحسن البصري وابن سيرين. وتوفي بالبصرة في شهر ربيع الأول. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعًا. مبلغ الزيادة خمسة عشر وستة عشر إصبعًا. M0لية عبد الله بن المسيب على مصر هو عبد الله بن المسيب بن زهير بن عمرو بن جميل الضبي أمير مصر. ولاه الرشيد مصر على الصلاة بعد موت إبراهيم بن صالح العباسي فقدم إلى مصر لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة ست وسبعين ومائة وسكن العسكر وجعل على شرطته أبا المكيس ولم تطل ولاية عبد الله المذكور على إمرة مصر وعزل بإسحاق بن سليمان في شهر رجب سنة سبع وسبعين ومائة فكانت ولايته على إمرة مصر نحو عشرة أشهر وأقام بمصر بطالًا من غير إمرة إلى أن وليها استخلافًا عن عبد الملك بن صالح العباسي في سنة ثمان وسبعين ومائة نحو الشهرين وصرف عبد الملك بعبيد الله بن المهدي فصرف عبد الله بن المسيب هذا عن استخلاف مصر بعزل عبد الملك بن صالح فإنه كان خليفته على مصر ولزم عبد الله بن المسيب بيته إلى أن استخلفه ثانيًا عبيد الله بن المهدي لما ولي مصر بعد عبد الملك بن صالح فباشر عبد الله بن المسيب صلاة مصر قليلًا باستخلاف عبيد الله بن المهدي المذكور ثم صرف ولزم داره إلى أن مات. وفي أيام ولايته على مصر مع قصرها وقع له حروب مع أهل الحوف. واستنجده هشام صاحب الأندلس فجهز له العساكر وبينما هو في ذلك ورد عليه الخبر بعزله. وكان هشام أرسل جيشًا كثيفًا واستعمل عليه عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث فدخلوا بلاد العدو وبلغوا أربونة وجرندة فبدأ بجرندة وكان بها حامية الفرنج فقتل رجالها وهدم أسوارها وأبراجها وأشرف على فتحها فرحل عنها إلى أربونة ففعل بها مثل ذلك وأوغل في بلادهم ووطىء أرض برطانية فاستباح حريمها وقتل مقاتلتها وجاس البلاد شهرًا يحرق الحصون ويسبي ويغنم وقد أجفل العدو من بين يديه هاربًا وأوغل في بلادهم ورجع سالمًا ومعه من الغنائم ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وهي من أشهر مغازي المسلمين بالأندلس. السنة التي حكم فيها عبد الله وهي سنة سبع وسبعين ومائة. فيها عزل الرشيد حمزة بن مالك الخزاعي عن إمرة خراسان وولاها الفضل ابن يحيى البرمكي مع سجستان والري. وفيها حج بالناس الرشيد وكان هذا دأب الرشيد فسنة يحج وسنة يغزو وفي هذا المعنى قال بعض شعراء عصره: " الوافر " فمن يطلب لقاءك أو يرده فبالحرمين أو أقصى الثغور وفيها توفي شريك بن عبد الله بن أبي شريك أبو عبد الله القاضي النخعي أصله من الكوفة وبها توفي يوم السبت مستهل ذي القعدة وكان إمامًا عالما دينًا. قال ابن المبارك: شريك أحفظ لحديث الكوفيين من سفيان الثوري. وفيها توفي أبو الخطاب الأخفش الكبير في هذه السنة وقيل في غيرها واسمه عبد الحميد بن عبد المجيد شيخ العربية أخذ عنه سيبويه ولولا سيبويه لما كان يعرف فإن الأخفش الأوسط الذي أخذ عنه سيبويه أيضًا الأتي ذكره هو المشهور ولأبي الخطاب الأخفش هذا أشياء غريبة ينفرد بها عن العرب وقد أخذ عنه جماعة من العلماء منهم: عيسى بن عمر النحوي وأبو عبيد معمر بن المثنى وغيرهم. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها مات عبد العزيز بن أبي ثابت المدني وعبد الواحد بن زياد الزاهد العبلي فيما قيل ومحمد بن جابر الحنفي اليمامي ومحمد بن مسلم الطائفي وموسر بن أعين الحراني وهياج بن بسطام الهروي ويزيد بن عطاء اليشكري معتق أبي عوانة. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعًا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعًا وستة عشر إصبعًا. ولاية إسحاق بن سليمان على مصر هو إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي أمير مصر. ولاه الرشيد إمرة مصر بعد عزل عبد الله بن المسيب في مستهل شهر رجب سنة سبع وسبعين ومائة وجمع له الرشيد صلاة مصر وخراجها ولما دخل مصر سكن العسكر على عادة أمراء بني العباس وجعل على شرطته بعض أصحابه وهو مسلم بن بكار " بن مسلم " العقيلي وأخذ إسحاق في إصلاح أمر مصر وكشف " أمر " خراجها فلم يرض بما كان يأخذه قبله الأمراء وزاد على المزارعين زيادة أفحشت بهم فسئمته الناس وكرهته وخرج عليه جماعة من أهل الحوف من قيس وقضاعة فحاربهم إسحاق المذكور وقتل من حواشيه وأصحابه جماعة كبيرة فكتب إسحاق يعلم الرشيد بذلك فعظم على الرشيد ما ناله من أمر مصر وصرفه عن إمرتها وعقد الرشيد لهرثمة " بن أعين " على إمرة مصر وأرسله في جيش كبير إلى مصر وكان عزل إسحاق هذا عن إمرة مصر في شهر رجب من سنة ثمان وسبعين ومائة فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وأيامًا وتوجه إلى الرشيد. وقال ابن الأثير: " وفي هذه السنة " يعني سنة ثمان وسبعين ومائة " وثبت الحوفية بمصر على عاملهم إسحاق بن سليمان وقاتلوه وأمر الرشيد بهرثمة بن أعين وكان عامل فلسطين فقاتلوا الحوفية وهم من قيس وقضاعة فأذعنوا بالطاعة وأدوا ما عليهم للسلطان. فعزل الرشيد إسحاق عن مصر واستعمل عليها هرثمة مقدار شهر ثم عزله واستعمل عليها عبد الملك بن صالح ". انتهى كلام ابن الأثير برمته. ولاية هرثمة بن أعين على مصر هو هرثمة بن أعين أحد أمراء الرشيد وخواص قواده ولاه على إمرة مصر لما بلغه ما وقع لإسحاق بن سليمان العباسي مع أهل مصر وبعثه إليها في جيش كبير وحرضه على قتال المصريين و ولاه على صلاة مصر وخراجها معًا فخرج هرثمة من بغداد حتى قدم مصر ليومين خلوا من شعبان سنة ثمان وسبعين ومائة فتلقاه أهل مصر بالطاعة وأذعنوا له فقبل هرثمة منهم ذلك وأمنهم وأقر كل واحد على حاله. وأرسل يعلم الرشيد بذلك ثم جعل هرثمة على شرطته ابنه حاتمًا فلم تطل مئة هرثمة على إمرة مصر وورد عليه الخبر بعزله عن إمرة مصر وخروجه بالعساكر إلى نحو إفريقية في يوم ثاني عشر شوال من السنة المذكورة فكانت إقامته على إمرة مصر شهرين ونصف شهر. وولي مصر بعده عبد الملك بن صالح العباسي وتوجه هرثمة إلى بلاد المغرب من مصر بجيوش عظيمة فلم يلق حربًا بل أذعن إليه من كان ببلاد المغرب من العصاة لعظم هيبة هرثمة المذكور فإنه كان شجاعأ مقدامًا مهيبًا ودام هرثمة بالمغرب سنين إلى أن استعفى فأعفاه الرشيد في سنة إحدى وثمانين ومائة وأذن له في القدوم عليه. وكان الرشيد يندب هرثمة للمهمات ووقع له بالمغرب أمور: منها أنه لما توجه إلى إفريقية سار صحبته يحيى بن موسى فأمره هرثمة أن يتقدمه ويتلطف بابن الجارود ليعود إلى الطاعة قبل وصول هرثمة فقدم يحيى القيروان فجرى بينه وبين ابن الجارود كلام كثير حاصله أن ابن الجارود شق العصا ولم يظهر الطاعة فخلا يحيى " بمحمد بن يزيد " الفارسي وعاتبه حتى استماله ووافقه على قتال ابن الجارود. وتقاتل يحيى وابن الفارسي مع ابن الجارود فقتل ابن الفارسي غدرًا وعاد يحيى بن موسى إلى هرثمة بطرابلس الغرب ثم سار هرثمة إلى ابن الجارود بجند طرابلس في محرم سنة تسع وسبعين ومائة فلما وصل قابس تلقاه عامة الجند وخرج ابن الجارود من القيروان في مستهل صفر وكان العلاء بن سعيد عمرو ابن الجارود ويحيى بن موسى يستبقان إلى القيروان كل منهما يريد أن " يكون " الذكر له فسبقه العلاء ودخل القيروان وقتل جماعة من أصحاب ابن الجارود وصار إلى هرثمة وسار ابن الجارود أيضًا إلى هرثمة فسيره هرثمة إلى الرشيد فاعتقله الرشيد ببغداد وسار هرثمة إلى القيروان فأمن الناس وسكنهم وبنى القصر الكبير وبنى سور مدينة طرابلس الغرب مما يلي البحر. وكان إبراهيم بن الأغلب بولاية الزاب فأكثر من الهدية إلى هرثمة حتى أقرة هرثمة على الزاب فحسن أثره فيها. ثم إن عياض بن وهب الهواري وكليب بن جميع الكلبي جمعا جموعًا وأرادا قتال هرثمة فسار إليهما هرثمة يحيى بن موسى في جيش كبير ففرق جموعهما وقتل كثيرًا من أصحابهما ثم عاد إلى القيروان فلما رأى هرثمة ما بإفريقية من الاختلاف واصل كتبه إلى الرشيد يستعفي حتى أعفاه وقدم العراق حسبما تقدم ذكره. فكانت ولاية هرثمة على إفريقية سنتين ونصفًا. على مصر هو عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الأمير أبو عبد الرحمن الهاشمي العباسي أمير مصر وليها بعد توجه هرثمة بن أعين إلى إفريقية ولاه الرشيد إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج معًا فوليها عبد الملك هذا ولم يدخلها واستعمل عليها عبد الله بن المسيب الضبى المعزول عن إمرة مصر قديمًا وقد ذكرنا نيابته عن عبد الملك هذا في ترجمته أيضًا من هذا الكتاب فجعل عبد الله بن المسيب على شرطته عمار بن مسلم فلم تطل مدة عبد الملك هذا على ولاية مصر وصرف عنها في سلخ سنة ثمان وسبعين ومائة وتولى مصر من بعده عبيد الله بن المهدي. وقد ولي في هذه السنة على مصر ثلاثة أمراء وهي سنة ثمان وسبعين ومائة وكان عبد الملك هذا شريفا نبيلا وأمه أم ولد كانت لمروان بن محمد الحمار فشراها صالح بن علي فولدت له عبد الملك هذا. ويقال: إن الجارية حملت بعبد الملك هذا من مروان ولهذا قال له الرشيد لما قبض عليه وحبسه: ما أنت لصالح قال: فلمن أنا قال: لمروان قال: ما أبالي أي الفحلين غلب علي. وكان أولًا معظمًا عند الرشيد ولما ولاه دمشق سنة سبع وسبعين ومائة وخرج الرشيد و ودعه قال له الرشيد: هل من حاجة قال: نعم بيني وبينك بيت ابن الدمينة حيث يقول: " الطويل " فسكت الرشيد عن أمره حتى نقل عنه أنه يريد الخلافة فعزله عن دمشق في سنة ثمان وسبعين ومائة وكانت إقامته عليها أقل من سنة وأظن أن في تلك الأيام أضيف إليه إمرة مصر ثم أقدمه الرشيد إلى بغداد وكان قبل ذلك كتب إلى الرشيد يقول: " الطويل " أخلاي بي شجو وليس بكم شجو وكل امرئ من شجو صاحبه خلو من أي نواحي الأرض أبغي رضاكم وأنتم أناس ما لمرضاتكم نحو فلا حسن نأتي به تقبلونه ولا إن أسأنا كان عندكم عفو فقال الرشيد: والله لئن أنشأها لقد أحسن ولئن رواها كان أحسن. وولي عبد الملك هذا الجزيرة مرتين وغزا الصائفة في سنة ثلاث وسبعين ومائة وغزا الروم سنة خمس وسبعين ومائة فأخذ سبعة آلاف رأس من الروم. ومات للرشيد ولد وولد له ولد في ليلة واحدة فدخل عليه عبد الملك هذا فقال: يا أمير المؤمنين آجرك الله فيما ساءك ولاساءك فيما سرك وجعل هذه بتلك جزاء الشاكرين وثواب الصابرين! وكان لعبد الملك لسان وبيان على فأفأة كانت فيه وكانت وفاته بالرقة. السنة التي حكم فيها إسحاق وهي سنة ثمان وسبعين ومائة. فيها وثب أهل المغرب وقاتلوا متولي إفريقية الفضل بن روح بن حاتم المهلبي فأمر الرشيد هرثمة بن أعين أن يتوجه من مصر إلى المغرب وقد ذكرنا ذلك في ترجمة هرثمة وذكرنا توجهه واستيلاءه على بلاد المغرب وأنهم أذعنوا إليه بالطاعة. وفيها فوض الرشيد أمور المملكة إلى يحيى بن خالد البرمكي. وفيها سار الفضل بن يحيى البرمكي إلى خراسان أميرًا عليها فعدل في الرعية وأحسن السيرة بها. وفيها هاجت الحوفية بديار مصر بين قضاعة وقيس وقد ذكرنا قصتهم مع إسحاق بن سليمان عامل مصر. وفيها غزا الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم وغزا الشاتية سليمان بن راشد ومعه البند بطريق صقفية. وفيها حج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي العباسي. وفيها خرج بالجزيرة الوليد بن طريف وفتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين وسار إلى أرمينية وكثرت جموعه. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي إبراهيم بن حميد الرواسي الكوفي وجعفر بن سليمان الضبعي وخارجة بن مصعب والصحيح قبل هذه بعشر سنين وعليلة بن بدر البصري - واسمه الربيع وعليلة لقب له - وعيثر بن القاسم الكوفي وعبد الله بن جعفر أبو علي المديني وعمر بن المغيرة بالمصيصة والمفضل بن يونس يقال فيها. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع سواء. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعًا وستة عشر إصبعًا.
|