الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ثم كانت
المباركة على المسلمين وكانت في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الأخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة في وسط نهار الجمعة. وكان صلاح الدين كثيرًا ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركًا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر فسار في ذلك الوقت واجتمع له من العساكر الإسلامية عدد يفوت الحصر وكان قد بلغه أن العدو اجتمع في عدة كثيرة بمرج صفورية بأرض عكا عندما بلغهم اجتماع العساكر الإسلامية فسار صلاح الدين ونزل على طبرية على سطح الجبل ينتظر قصد الفرنج فلما بلغهم نزوله في الموضع المذكور لم يتحركوا ولا خرجوا من منزلتهم وكان نزولهم في الموضع المذكور يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر فلما رآهم لا يتحركون نزل جريدة على طبرية وترك الأطلاب على حالها قبالة العدو ونزل طبرية وهاجمها وأخذها في ساعة واحدة وانتهب الناس ما فيها وأخذوا في القتل والسبي والحريق وبقيت القلعة ممتنعة بمن فيها. ولما بلغ العدو ما جرى في طبرية قلقوا لذلك ورحلوا نحوها فبلغ السلطان صلاح الدين ذلك فترك على طبرية من يحاصرها ولحق بالعسكر والتقى بالعدو على سطح جبل طبرية الغربي منها وذلك في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر فحال الليل بين العسكرين فناما على المصاف إلى بكرة يوم الجمعة الثالث والعشرين منه فركب العسكران وتصادما والتحم القتال واشتد الأمر ودام القتال حتى لم يبق إلا الظفر فحال الليل بينهم وناما على المصاف وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو وأنهم لا ينجيهم إلا القتال والجهاد. وأصبحوا من الغد فحملت أطلاب المسلمين من جميع الجوانب وحمل القلب وصاحوا صيحة رجل واحد: الله أكبر وألقى الله الرعب في قلوب الكافرين وكان حقًا عليه نصر المؤمنين. ولما أحس الملك القومص بالخذلان هرب في أوائل الأمر و قصد جهة صور فتبعه جماعة من المسلمين فنجا منهم وأحاط المسلمون بالكافرين من كل جانب وأطلقوا عليهم السهام وحملوا عليهم بالسيوف وسقوهم كأس الحمام وانهزمت طائفة منهم فتبعهم المسلمون يقتلونهم واعتصمت طائفة منهم بتل يقال له: تل حطين وهي قرية عندها قبر النبي شعيب عليه السلام فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النيران واشتد بهم العطش فاستسلموا للأسر خوفًا من القتل فأسر مقدموهم وقتل الباقون وكان ممن أسر من مقدميهم الملك جفري وأخوه الملك والبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك وابن الهنفري وابن صاحب طبرية أو مقدم الديوية قال ابن شداد: لقد حكى لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصًا واحدًا ومعه نيف وثلاثون أسيرًا ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم من الخذلان. ثم إن الملك القومص الذي هرب في أول الوقعة وصل إلى طرابلس وأصابه ذات الجنب فهلك. وأما مقدم الأسبتار والذيوية فإنه قتلهما السلطان صلاح الدين وقتل من بقي من أصحابهما حيًا وأما البرنس أرناط فإن السلطان كان نذر أنه إن ظفر به قتله وذلك أنه كان عبر إليه بالشوبك قوم من الديار المصرية في حال الصلح فغدر بهم وقتلهم فناشدوه الصلح الذي بينه وبين السلطان فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم وبلغ ذلك السلطان فحملته حمية دينه على أن أهدر دمه. ولما فتح الله عليه بالنصر جلس بالدهليز يعني الخيمة فإنها لم تكن نصبت بعد لشغل السلطان بالجهاد وعرضت عليه الأسارى وصار الناس يتقربون إليه بما في أيديهم منهم وهو فرح بما فتح الله عليه وأشخص الملك جفري وأخاه والبرنس أرناط وناول السلطان الملك جفري شربة من جلاب وثلج فشرب منها وكان على أشد حال من العطش ثم ناولها للبرنس ثم قال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته وإلا أنا فما سقيته فإنه كان من جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن فلذا قال السلطان لترجمان: أنت الذي سقيته. ثم أمر السلطان بمسيرهم إلى موضع عينه لهم فأكلوا شيئًا ثم عادوا بهم ولم يبق عند السلطان سوى بعض الخدم فاستحضرهم وأقعد الملك في دهليز الخيمة فطلب البرنس أرناط وأوقفه بين يديه وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد منك. ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل فسل النيمجاة فضربه بها فحل كتفه وتمم قتله من حضر وأخرجت جثته فرميت على باب الخيمة فلما رآها الملك جفري لم يشك أنه يلحقه به فاستحضره السلطان وطيب قلبه وقال له: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك إلا أن هذا تجاوز الحد وتجرأ على الأنبياء صلوات الله عليهم ثم أمره بالانصراف. وبات الناس تلك الليلة على أتم سرور. وفي هذه الواقعة يقول العماد الكاتب قصيدة طنانة منها: حططت على حطين قدر ملوكهم ولم تبق من أجناس كفرهم جنسا بطون ذئاب الأرض صارت قبورهم ولم ترض أرض أن تكون لهم رمسا وقد طاب ربانا على طبرية فيا طيبها ريا ويا حسنها مرسى وقال ابن الساعاتي قصيدة أخرى عظيمة في هذا الفتح أولها: جلت عزماتك الفتح المبينا فقد قرت عيون المؤمنينا ثم رحل السلطان بعد أن تسلم طبرية ونزل على عكا في يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر وقاتلها بكرة يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وأخذها واستنقذ من كان فيها من أسارى المسلمين وكانوا أكثر من أربعة آلاف أسير واستولى على ما كان فيها من الأموال والذخائر والبضائع لأنها كانت مظنة التجار وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع. ثم سار السلطان من عكا ونزل على تبنين يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى وهي قلعة منيعة فحاصرها حتى أخذها في يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى المذكور عنوة. ثم رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها وتسلمها في غد يوم نزوله عليها. ثم رحل عنها وأتى بيروت فنازلها يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى حتى أخذها في يوم الخميس تاسع عشرين جمادى الأولى. ولما فرغ باله من هذا رأى قصد عسقلان ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها ثم رأى أن العسكر تفرق في الساحل وكانوا قد ضرسوا من القتال وكان قد اجتمع بصور من بقي من الفرنج فرأى أن فصلى عسقلان أولى لأنها أيسر من صور فأتى عسقلان ونزل عليها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة. وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه مدينة غزة وبيت جبريل والنطرون من غير قتال وكان بين فتح عسقلان وأخذ الفرنج لها ثانيًا من المسلمين خمس وثلاثون ولما تسلم السلطان عسقلان والبلاد المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك واجتمع عليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل فسار بهم نحو القدس معتمدًا على الله تعالى مفوضًا أمره إليه منتهزًا الفرصة في فتح باب الخير الذي حث على انتهازه بقوله صلى الله عليه وسلم: من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يعلم متى يغلق دونه ". وكان نزول السلطان على القدس في يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين المذكورة ونزل بالجانب الغربي وكان مشحونًا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة حتى إنه حزر أهل الخبرة فمن كان مع السلطان من كان فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفًا خارجًا عن النساء والصبيان ثم انتقل السلطان لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب عليها المجانيق وضايق البلد بالزحف والقتال حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهم ولما رأى العدو ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع لهم عنه وظهرت لهم أمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم ما جرى فاستكانوا إلى طلب الأمان وسلموا المدينة في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم. فانظر إلى هذا الاتفاق العظيم كيف يسر الله تعالى عوده إلى المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم صلى الله عليه وسلم. قال: وكان فتحًا عظيمًا شهده من العلماء خلق ومن أرباب الحرب والزهد عالم كثير وارتفعت الأصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير وصفيت فيه الجمعة يوم فتحه ونكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان الصليب شكلًا عظيمًا ونصر الله الإسلام. وكان الفرنج قد استولوا على القدس - بعد فتحه الأول في زمن عمر - في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وقيل: في ثاني شعبان وقيل يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة أعني سنة اثنتين وتسعين وذلك كان في خلافة المستعلي أبي القاسم أحد خلفاء مصر من بني عبيد وكان من وزارة بدر الجمالي بديار مصر. وقد حكينا طرفا من فلك في ترجمة المستعلي في هذا الكتاب. قلت: وعلى هذا الحساب يكون القدس أقام بيد الفرنج نيفًا وتسعين سنة من يوم أخفوه في خلافة المستعلي إلى أن فتحه السلطان صلاح الدين في هذه المرة ثانيًا. ولله الحمد. قال ابن شداد: وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين دينارًا وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينارًا واحدًا فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيرًا وأفرج عمن كان بالقدس من أسارى المسلمين وكانوا خلقًا عظيمًا. وأقام السلطان بالقدس يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال ثم رسم بإيصال من قام بقطيعته من الفرنج إلى مأمنه وهي مدينة صور فلم يرحل السلطان من القدس ومعه من المال الذي جبي شيء وكان يقارب مائتي ألف دينار أو عشرين ألفًا. ولما فتح القدس حسن عنده فتح صور وعلم أنه متى أخره عسر عليه فتحه فسار نحوها حتى أتى عكا فنزل عليها ونظر في أمورها ثم رحل عنها متوجهًا إلى صور في يوم الجمعة خامس شهر رمضان من سنة ثلاث وثمانين المذكورة فنزل قريبًا منها وأرسل لإحضار آلات القتال حتى تكاملت عنده نزل عليها في ثاني عشر الشهر المذكور وقاتل أهلها قتالًا شديدًا وضايقها واستدعى أسطول مصر وكان السلطان يضايقها في البر والبحر ثم سير من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال من السنة وخرج أسطول صور في الليل فكبس أسطول المسلمين في البحر وأخذوا المقدم والرئيس وخمس قطع للمسلمين وقتلوا خلقًا كثيرًا من الرجال وذلك في السابع والعشرين من الشهر المذكور وعظم ذلك على السلطان وضاق صدره وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار وامتنع الناس من القتال لكثرة الأمطار فجمع السلطان الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بالرحيل لتستريح الرجال فرحل عنها في يوم الأحد ثاني في القعدة وتفرقت العساكر وأعطى كل طائفة منها دستورًا فسار كل قوم إلى بلادهم وأقام هو في جماعة من خواضه بمدينة عكا إلى أن دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة. فرحل ونزل على كوكب في أول المحرم ولم يبق معه من العسكر إلا القليل وكان كوكب حصنًا حصينًا فيه الرجال و الأقوات فعلم السلطان أنه لا يؤخذ إلا بقتال شديد. فرحل إلى دمشق فدخلها في سادس عشرين شهر ربيع الأول من السنة وأقام بدمشق خمسة أيام. وبلغه أن الفرنج قصدوا جبلة واغتالوها فخرج مسرعًا وقد سير يستدعي العساكر من جميع البلاد وسار يطلب جبلة فلما علم الفرنج بخروجه كفوا عن ذلك. وكان السلطان بلغه وصول عماد الدين صاحب سنجار ومظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل وعسكر الموصل إلى حلب قاصدين خدمته والغزاة معه فسار السلطان نحو حصن الأكراد حتى اجتمع بالمذكورين وتقوى بهم للغاية لما. انتهى كلام ابن شداد. وقال القاضي شمس الدين بن خلكان: " وفي يوم الجمعة رابع جمادى الأولى دخل السلطان يعني صلاح الدين بلاد العدو على تعبئة حسنة ورتب الأطلاب وسارت الميمنة أولًا ومقدمها عماد الدين زنكي والقلب في الوسط والميسرة في الأخير ومقدم الميسرة مظفر الدين بن زين الدين صاحب أربل فوصل إلى أنطرسوس يوم الأحد سادس جمادى الأولى فوقف قبالتها ينظر إليها فإن قصده كان جبلة فاستهان أمرها وعزم على قتالها فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول إلى جانب البحر والميسرة على الجانب الآخر ونزل هو موضعه والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحرة وهي مدينة راكبة على البحر ولها برجان فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا عليها واشتد القتال فما استتم نصب الخيام حتى صعد المسلمون سورها وأخفوها بالسيف وغنم المسلمون جميع ما فيها وأحرق البلد وأقام عليها إلى رابع عشر جمادى الأولى وسلم أحد البرجين إلى مظفر الدين فما زال يحاربه حتى أخربه. وحضر إلى السلطان ولده الملك الظاهر بعساكر حلب لأنه كان طلبه فجاء بعساكر عظيمة. ثم سار السلطان يريد جبلة فوصلها في ثاني عشر جمادى الأولى وما استتم نزول العسكر عليها حتى أخذت البلد وكان فيه مسلمون مقيمون وقاض يحكم بينهم وقوتلت القلعة قتالًا شديدًا ثم سلمت بالأمان في يوم السبت تاسع عشر جمادى الأولى من السنة. ثم سار السلطان عنها إلى اللاذقية فنزل عليها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى ولها قلعتان يعني اللاذقية متصلتان على تل مشرف على البلد واشتد القتال إلى آخر النهار فأخذ البلد دون القلعتين وغنم المسلمون منه غنيمة عظيمة لأنه كان بلد التجار ثم جدوا في أمر القلعتين بالنقوب حتى بلغ طول النقب ستين ذراعًا وعرضه أربع أذرع. فلما رأى أهل القلعتين الغلبة لاذوا بطلب الأمان وذلك في عشية يوم الجمعة الخامس والعشرين من الشهر والتمسوا الصلح على سلامة أنفسهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم ما خلا الغلال والذخائر والسلاح وآلات الحرب فأجاب السلطان إلى ذلك ورفع العلم الإسلامي عليها في يوم السبت وأقام عليها إلى يوم الأحد السابع والعشرين من الشهر. ثم رحل عنها ونزل صهيون وقاتلهم أشذ قتال حتى أخذ البلد يوم ثاني عشر جمادى الآخرة ثم قدموا إلى القلعة وصدقوا القتال فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأجابهم إليه بحيث يؤخذ من الرجل عشرة دنانير ومن المرأة خمسة دنانير ومن كل صغير ديناران الذكر والأنثى سواء. وأقام السلطان صلاح الدين بهذه الجهات حتى أخذ عمة قلاع منها بلاطنس وغيرها من الحصون المتعلقة بصهيون. ثم رحل عنها وأتى بكاس وهي قلعة حصينة على العاصي ولها نهر يخرج من تحتها وكان النزول عليها في يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة وقاتلوها قتالًا شديدًا إلى يوم الجمعة تاسع الشهر ففتحها عنوة فقتل أكثر من بها وأسر الباقون وغنم المسلمون جميع ما كان فيها ولها قلعة تسمى الشغر وهي في غاية المنعة يعبر إليها بجسر وليس عليها طريق فسلطت المجانيق عليها من جميع الجوانب فرأوا أن لا ناصر لهم فطلبوا الأمان في يوم الثلاثاء ثالث عشر الشهر. ثم سار السلطان إلى برزيه وهي أيضًا من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل ويحيط بها أودية من جميع جوانبها وعلوها خمسمائة ونيف وسبعون ذراعًا وكان نزوله عليها يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر فقاتلوها حتى أخذوها عنوة في يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه. ثم سار السلطان إلى دربساك فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب وهي قلعة منيعة فقاتلها قتالًا شديدًا حتى أخذها وترقى العلم الإسلامي عليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من رجب وأعطاها للأمير علم الدين سليمان بن جندر. وسار عنها بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من رجب ونزل على بغراس وهي قلعة حصينة بالقرب من أنطاكية وقاتلها قتالًا شديدًا حتى صعد العلم الإسلامي عليها في ثاني شعبان فراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكرة فكان الصلح بينهم على أن يطلقوا كل أسير عندهم لا غير والصلح إلى سبعة أشهر فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد. ثم رحل السلطان فسأله ولده الملك الظاهر صاحب حلب أن يجتاز به فأجابه إلى ذلك فوصل إلى حلب في حادي عشر شعبان وأقام بالقلعة ثلاثة أيام وولده يقوم بالضيافة حق القيام. ثم سار من حلب فاعترضه تقي الدين عمر ابن أخيه وأصعده إلى قلعة حماة وصنع له طعامًا وأحضر له سماعًا من جنس ما يعمل الصوفية وبات فيها ليلة واحدة وأعطاه السلطان جبلة واللاذقية. ثم سار السلطان على طريق بعلبك ودخل دمشق قبل شهر رمضان بأيام يسيرة. ثم سار في أوائل شهر رمضان يريد صفد فنزل عليها ولم يزل القتال عمالًا في كل يوم حتى تسلمها بالأمان في رابع عشر شوال. وفي شهر رمضان المذكور سلمت الكرك سلمها نواب صاحبها وخلصوا صاحبها بذلك فإنه كان في الأسر من نوبة حطين. ثم نزل السلطان بالغور وأقام بقية الشهر فأعطى الجماعة دستورًا. وسار السلطان مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه العادل المذكور لأن العادل المذكور كان متوجهًا إلى مصر فدخل السلطان القدس في ثامن ذي الحجة وصلى به العيد. وتوجه في حادي عشر ذي الحجة إلى عسقلان لينظر في أمورها فتوجه إليها وأخذها من أخيه وعوضه عنها الكرك. ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها. ثم سار فدخل عكا وأقام بها معظم المحرم من سنة خمس وثمانين وخمسمائة يصلح أحوالها ورتب فيها الأمير بهاء ودخل السلطان دمشق في مستهل صفر من السنة وأقام بها إلى شهر ربيع الأول من السنة. ثم خرج إلى شقيف أرنون وهو موضع حصين فخيم في مرج عيون بالقرب من الشقيف في سابع عشرين شهر ربيع الأول فأقام أيامًا على قتاله والعسكر تتواصل إليه فلما تحقق صاحب الشقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه فلم يشعر به إلا وهو قائم على باب خيمته فأذن له في الدخول وأكرمه السلطان واحترمه وكان من أكبر الفرنج قدرًا وكان يعرف بالعربية وعنده اطلاع على بعض التواريخ والأحاديث وكان حسن التأتي لما حضر بين يدي السلطان وأكل معه الطعام ثم خلا به وذكر أنه مملوكه وتحت طاعته وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب واشترط عليه أن يعطى موضعًا يسكنه بدمشق فإنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الفرنج وإقطاعًا بدمشق يقوم به وبأهله وشروطًا غير ذلك فأجابه إلى ذلك. وفي أثناء شهر ربيع الأول وصل إلى السلطان الخبر بتسليم الشوبك وكان قد أقام عليه جمعًا يحاصرونه مدة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه فسلموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة فرسم عليه. ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها في ثالث عشر شهر رجب من سنة خمس وثمانين المذكورة. وفي ذلك اليوم سير السلطان صاحب الشقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة. ثم سار السلطان وأتى عكا ودخلها بغتة ليقوي قلوب من بها واستدعى العساكر من كل ناحية وكان العدو مقدار ألفي فارس وثلاثين ألف راجل. وتكاثر الفرنج واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا ومنعوا من يدخل إليها ويخرج وذلك في يوم الخميس سلخ رجب فضاق صدر السلطان لذلك ثم اجتهد في فتح الطريق إليها لتستمر السابلة بالميرة والنجدة وشاور الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لفتح الطريق ففعلوا ذلك وانفتح الطريق وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا فأشرف على أمورها ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام وتأخر الناس إلى تل العياضية وهو مشرف على عكا. وفي هذه المنزلة توفي الأمير حسام الدين طمان المقدم ذكره وذلك في نصف شعبان من سنة خمس وثمانين وخمسمائة وكان من الشجعان ". قال ابن خلكان: قال شيخنا ابن شداد: وسمعت السلطان ينشد - وقد قيل له إن الوخم قد عظم بعكا وان الموت قد فشا بين الطائفتين -: اقتلاني ومالكًا واقتلا مالكًا معي - قلت: وهذا الشعر له سبب ذكرناه في ترجمة الأشتر النخعي اسمه مالك في أوائل هذا الكتاب فإنه ملك مصر وكان الأشتر من أصحاب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحكاية مطولة تنظر في ترجمة مالك أعني الأشتر النخعي من هذا الكتاب. قال ابن شداد: ثم إن الفرنج جاءهم الإمداد من البحر واستظهروا على الجماعة الإسلامية بعكا وكان فيهم الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب والأمير بهاء الدين قراقوش الخادم الصلاحي وضايقوهم أشد مضايقة إلى أن غلبوا عن حفظ البلد. فلما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة أسنة سبع وثمانين وخمسمائة خرج من عكا رجل عوام في البحر ومعه كتب إلى السلطان من المسلمين يذكرون حالهم وما هم فيه وأنهم تيقنوا الهلاك ومتى أخذوا البلد عنوة ضربت رقابهم وأنهم صالحوا على أن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار وخمسمائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جماعتهم وصليب الصلبوت على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وفراريهم ونسائهم وضمنوا للمركيس - لأنه كان الواسطة في هذا الأمر - أربعة آلاف دينار. فلما وقف السلطان على الكتب المشار إليها أنكر ذلك إنكارًا عظيمًا وعظم عليه هذا الأمر وجمع أهل الرأي من أكابر دولته وشاورهم فيما يصنع واضطربت آراؤه وتقسم فكره وتشوش حاله وعزم أن تكتب في تلك الليلة كتب مع الرجل العوام الني قدم عليه بهذا الخبر ينكر المصالحة على هذا الوجه وبينما هو يتردد في هذا فلم يشعر إلا وقد ارتفعت أعلام العدو وصلبانه وناره على سور البلد وذلك في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة وصاح الفرنج صيحة واحدة وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حزنهم ووقع من الصياح والعويل والبكاء ما لا يذكر.
|