الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ثم توجه الأمير قرابغا الأبوبكري أمير مجلس في يوم الخميس أول جمادى الآخرة إلى قبة النصر ثم عاد ولم يقف على خبرة كل ذلك لضعف خيول عساكر الناصري وكلهم من السفر فلم يجد الناصري لهم منعة فأقام بهم على الصالحية ليتراجع أمرهم وتعود قواهم هذا والأمراء بالديار المصرية لابسون آلة الحرب وهم على ظهور خيولهم بسوق الخيل تحت القلعة. وفي ليلة الخميس المذكورة هرب من المماليك السلطانية اثنان ومن مماليك الأمراء جماعة كبيرة بعد أخذهم نفقة السلطان وساروا الجميع إلى الناصري. ثم طلب السلطان أجناد الحلقة فدارت النقباء عليهم فأحضروا منهم جماعة كبيرة فرقوا على أبواب القاهرة ورتبوا بها لحفظها. ثم ندب السلطان الأمير ناصر الدين محمد ابن الدواداري أحد أمراء الطبلخانات ومعه جماعة لحفظ قياسر القاهرة وأغلق والي القاهرة باب البرقية. ثم رتب السلطان النفطية على برج ثم قدم الخبر على السلطان بنزول طليعة الناصري بمدينة بلبيس ومقدمها الطواشي طقطاي الرومي الطشتمري. ثم في يوم الجمعة نزلت عساكر الناصري بالبئر البيضاء فأخذ عند ذلك عسكر السلطان يتسلل إلى الناصري شيئًا بعد شيء. وكان أول من خرج إليه من القاهرة الأمير جبريل الخوارزمي ومحمد بن بيدمر نائب الشام وبجمان المحمدي نائب الإسكندرية وغريب الخاصكي والأمير أحمد بن أرغون الأحمدي اللالا. ثم نصب السلطان السناجق السلطانية على أبراج القلعة ودقت الكوسات الحربية فاجتمعت العساكر جميعها وعليهم آلة الحرب والسلاح. ثم ركب السلطان والخليفة المتوكل على الله معه من قلعة الجبل بعد العصر وسار السلطان بمن معه حتى وقفا خلف دار الضيافة وقد اجتمع حول السلطان من العامة خلائق لا تحصى كثرة فوقف هناك ساعة ثم عاد وطلع إلى الإسطبل السلطاني وجلس فيه من غير أن يلقى حربًا وصعد الخليفة إلى منزله بقلعة الجبل وقد نزلت الذلة على الدولة الظاهرية وظهر من خوف السلطان وبكائه ما أبكى الناس شفقة له ورحمة عليه. فلما غربت الشمس صعد السلطان إلى القلعة وبات بالقصر السلطاني ومعه عامة مماليكه ثم في يوم السبت ثالث جمادى الآخرة نزل الناصري بعساكره بركة الجب ظاهر القاهرة ومعه من أكابر الأمراء الأمير تمربغا الأفضلي الأشرفي المدعو منطاش والأمير بزلار العمري الناصري حسن والأمير كمشبغا الحموي اليلبغاوي نائب طرابلس كان والأمير أحمد بن يلبغا العمري أمير مجلس والأمير أيدكار حاجب الحجاب وجماعة أخر من أمراء الشام ومصر وغيرها. ثم تقدمت عساكر الناصري إلى المرج وإلى مسجد التبن فعند ذلك غلقت أبواب القاهرة كلها إلا باب زويلة وأغلقت جميع الدروب والخوخ وسد باب القرافة وانتشرت الزعر في أقطار المدينة تأخذ ما ظفرت به ممن يستضعفونه. ثم ركب السلطان ثانيًا من القلعة ومعه الخليفة المتوكل على الله ونزل إلى دار الضيافة فقدم عليه الخبر بأن طليعة الناصري وصلت إلى الخراب طرف الحسينية فلقيتهم كشافة السلطان فكسرتهم. ثم ندب السلطان الأمراء فتوجهوا بالعساكر إلى جهة قبة النصر ونزل السلطان ببعض الزوايا عند دار الضيافة إلى آخر النهار. ثم عاد إلى الإسطبل السلطاني وصحبته الأمراء الذين توجهوا لقبة النصر والكوسات تدق وهم على أهبة اللقاء وملاقاة العدو وخاصكية السلطان حوله والنفوط لا تفتر والرميلة قد امتلأت بالزعر والعامة ومماليك الأمراء ولم يزالوا على ذلك حتى أصبحوا يوم الاثنين وإذا بالأمير آقبغا المارديني حاجب الحجاب والأمير جمق ابن أيتمشر البجاسي والأمير إبراهيم بن طشتمر العلائي الدوادار قد خرجوا في الليل ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية ولحقوا بالناصري. ثم أصبح السلطان من الغد وهو يوم خامس جمادى الآخرة فر الأمير قرقماس الطشتمري الدوادار الكبير وقرا دمرداش الأحمدي أتابك العساكر بالديار المصرية والأمير سودون باق أمير مجلس ولحقوا بالناصري وكانوا في عدة وافرة من المماليك والخدم والأطلاب الهائلة ولم يتأخر عند السلطان من أعيان الأمراء إلا ابن عمه الأمير قجماس وسودون الشيخوني النائب وسودون طرنطاي وتمربغا المنجكي وأبوبكر بن سنقر وبيبرس التمان تمري الصفوي ومقدم المماليك شنكل وطائفة من أمرائه مشترواته وخاصكيته. والعجب أن السلطان كان أنعم في أمسه على الأمراء الذين توجهوا لكل أمير من أمراء الألوف عشرة آلاف دينار ولكل أمير طبلخاناه خمسة آلاف دينار وحلفهم على طاعته ونصرته وأعطى في ليلة واحدة للأمير الكبير قرا دمرداش الأحمدي ثلاثين ألف دينار دفعة واحدة وخاتما مثمنًا قيمته آلاف عديدة حتى قال له قرا دمرداش المذكور: يا مولانا السلطان روحي فداؤك لا تخف ما دمت أنا واقف في خدمتك أنت آمن. فشكره السلطان فنزل من عنده وفي الحال ركب وخرج من باب القرافة وقطع الماء الذي يجري إلى القلعة وتوجه مع من ذكرنا من الأمراء إلى الناصري فليم يلتفت الناصري لهم ذاك الالتفات الكلي بل فعل مع غيرهم ممن توجه إليه من أمراء مصر. انتهى. ولما بلغ السلطان نفاق هؤلاء الأمراء عليه بعد أن أنعم عليهم بهذه الأشياء علم أن دولته قد زالت فأغلق في الحال باب زويلة وجميع الدروب وتعطلت الأسواق وامتلأت القاهرة بالزعر واشتد فسادهم وتلاشت الدولة الظاهرية وانحل أمرها. وخاف والي القاهرة حسام الدين بن الكوراني على نفسه فقام من خلف باب زويلة وتوجه إلى بيته واختفى. وبقي الناس غوغاء وقطع المسجونون قيودهم بخزانة شمائل وكسروا باب الحبس وخرجوا على حمية جملة واحدة فلم يردهم أحد بشغل كل واحد بنفسه وكذلك فعل أهل حبس الديلم وأهل سجن الرحبة هذا والسلطان إلى الآن بقلعة الجبل والنفوط عمالة والكوسات تدق حربيًا ثم أمر السلطان مماليكه فنزلوا ومنعوا العامة من التوجه إلى يلبغا الناصري فرجمهم العامة بالحجارة فرماهم المماليك بالنشاب وقتلوا منهم جماعة تزيد عدتهم على عشر أنفس. ثم أقبلت طليعة الناصري مع عدة من أعيان الأمراء من أصحابه فبرز لهم الأمير قجماس ابن عم السلطان في جماعة كبيرة وقاتلهم وأكثر الرمي عليهم من فوق القلعة بالسهام والنفوط والحجارة بالمقاليع وهم يوالون الكر والفر غير مرة. وثبتت المماليك السلطانية ثباتًا جيدًا غير أنهم في علم بزوال دولتهم. هذا وأصحاب السلطان تتفرق عنه شيئًا بعد شيء فمنهم من يتوجه إلى الناصري ومنهم من يختفي خوفًا على نفسه حتى لم يبق عند السلطان إلا جماعة يسيرة ممن ذكرنا من الأمراء فلما كان آخر النهار المذكور أراد السلطان أن يسلم نفسه فمنعه من بقي عنده من الأمراء وخاصكيته وقالت مماليكه: نحن نقاتل بين يديك حتى نموت ثم سلم بعد ذلك نفسك فلم يثق بذلك منهم لكنه شكرهم على هذا الكلام والسعد مدبر والدولة زائلة. ثم بعد العصر من اليوم المذكور قدم جماعة من عسكر الناصري عليهم الطواشي طقطاي الرومي الطشتمري والأمير بزلار العمري الناصري وكان من الشجعان والأمير ألطنبغا الأشربي في نحو الألف وخمسمائة مقاتل يريدون القلعة فبرز لهم الأمير بطا الطولوتمري الظاهري الخاصكي والأمير شكر باي العثماني الظاهري وسودون شقراق والوالد في نحو عشرين مملوكًا من الخاصكية الظاهرية وتلاقوا مع العسكر المذكور: صدموهم صدمة واحدة كسروهم فيها وهزموهم إلى قبة النصر ولم يقتل منهم غير سودون شقراق فإنه أمسك وأتي به إلى الناصري فوسطه. ولم يقتل الناصري في هذه الوقعة أحدًا غيره لا قبله ولا بعده أعني صبرًا غير أن جماعة كبيرة قتلوا في المعركة. وورد الخبر بنصرتهم على الملك الظاهر فلم يغتر بذلك وعلم أن أمره قد زال فأخذ في تدبير أمره مع خواصه فأشار عليه من عنده أن يستأمن من الناصري فعند ذلك أرسل الملك الظاهر الأمير أبا بكر بن سنقر الحاجب والأمير بيدمر المنجكي شاد القصر بالنمجاة إلى الأمير يلبغا الناصري أن يأخذا له أمانًا على نفسه ويترققًا له فسارا من وقتهما إلى قبة النصر ودخلا على الناصري وهو بمخيمه واجتمعا به في خلوة فآمنة على نفسه وأخذ منهما منجاة الملك وقال: الملك الظاهر أخونا وخشداشنا ولكنه يختفي بمكان إلى أن تخمد الفتنة فإن الآن كل واحد له رأي وكلام حتى ندبر له أمرًا يكون فيه نجاته فعادا بهذا الجواب إلى الملك الظاهر برقوق. وأقام السلطان بعد ذلك في مكانه مع خواصه إلى أن صلى عشاء الآخرة وقام الخليفة المتوكل على الله إلى منزله بالقلعة على العادة في كل ليلة. وبقي الملك الظاهر في قليل من أصحابه وأذن لسودون النائب في التوجه إلى حال سبيله والنظر في مصلحة نفسه فودعه وقام ونزل من وقته. ثم فرق الملك الظاهر بقية أصحابه فمضى كل واحد إلى حال سبيله. ثم استتر الملك الظاهر وغير صفته حتى نزل من الإسطبل إلى حيث شاء ماشيًا على قدميه فلم يعرف له أحد خبرًا. وانفض ذلك الجمع كله في أسرع ما يكون وسكن في الحال دق الكوسات ورمي مدافع النفط ووقع النهب في حواصل الإسطبل حتى أخذوا سائر ما كان فيه من السروج واللجم وغيرها والعبي ونهبوا أيضًا ما كان بالميدان من الغنم الضأن وكان عدتها نحو الألفي رأس ونهبت طباق المماليك بالقلعة. وطار الخبر في الوقت إلى الناصري فلم يتحرك من مكانه ودام بمخيمه. وأرسل جماعة من الأمراء من أصحابه فسار من عسكره عدة كبيرة واحتاطوا بالقلعة. وأصبح الأمير يلبغا الناصري بمكانه وهو يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وندب الأمير منطاش في جماعة كبيرة إلى القلعة فسار منطاش إلى قلعة الجبل في جموعه وطلع إلى الإسطبل السلطاني فنزل إليه الخليفة المتوكل على الله أبو عبد الله محمد وسار مع منطاش إلى الناصري بقية النصر حتى نزل بمخيمه فقام الناصري إليه وتلقاه وأجلسه بجانبه ووانسه بالحديث. هذا وقد انضمت العامة والزعر والتركمان من أصحاب الناصري وتفرقوا على بيوت الأمراء وحواصلهم فنهبوا ما وجموا حتى أخربوا الدور وأخذوا أبوابها وخشبها وهجموا منازل الناس خارج القاهرة ونهبوها واستمروا على ذلك وقد صارت مصر غوغاء وأهلها رعية بلا راع حتى أرسل الناصري الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام وقد ولاه ولاية القاهرة فسار ابن الحسام إلى القاهرة فوجد باب النصر مغلوقًا فدخل بفرسه راكبًا من جامع الحاكم إلى القاهرة وفتح باب النصر وباب الفتوح. وعند فتح الأبواب طرق جماعة كبيرة من عسكر الناصري القاهرة ونهبوا منها جانبًا كبيرًا فقاتلهم الناس وقتلوا منهم أربعة نفر. ومر بالناس في هذه الأيام شدائد وأهوال. وبلغ الناصري الخبر فبعث أبا بكر بن سنقر الحاجب وتنكزبغا رأس نوبة إلى حفظ القاهرة فدخلاها. ثم نودي بها من قبل الناصري بالأمان ومنع النهب فنزل تنكزبغا المذكور عند الجملون وسط القاهرة ونزل سيدي أبو بكر بن سنقر عند باب زويلة وسكن الحال وهدأ ما بالناس وأمنوا على أموالهم. وأما الناصري فإنه لما نزل إليه الخليفة وأكرمه كما تقدم وحضر قضاة القضاة والأعيان للهناء أمرهم الناصري بالإقامة عنده وأنزل الخليفة بمخيم وأنزل القضاة بخيمة أخرى ثم طلب الناصري من عنده من الأمراء والأعيان وتكلم معهم فيما يكون وسألهم فيمن ينصب في السلطنة بعد الملك الظاهر برقوق فأشار أكابرهم بسلطنة الناصري فامتنع الناصري من ذلك أشد امتناع وهم يلحون عليه ويقولون له: ما المصلحة إلا ما ذكرنا وهو يأبى وانفض المجلس من غير طائل فعند ذلك تقدم الناصري بكتابة مرسوم عن الخليفة وعن الأمير الكبير يلبغا الناصري بالإفراج عن الأمراء المعتقلين بثغر الإسكندرية وهم: ألطنبغا الجوباني نائب الشام وقردم الحسني وألطنبغا المعلم أمير سلاح وإحضارهم إلى قلعة الجبل والجميع يلبغاويه فسار البريد بذلك. ثم أمر الناصري بالرحيل من قبة النصر إلى نحو الديار المصرية وركب في عالم كبير من العساكر نحو الستين ألفًا حتى إنه كان عليق جمالهم في كل ليلة ألفًا وثلاثمائة إردب فول. وسار الناصري بخيوله وبجيوشه حتى طلع إلى القلعة ونزل بالإسطبل السلطاني وطلع الخليفة إلى منزله بقلعة الجبل ونزل كل أمير في بيت من بيوت الأمراء بديار مصر. وجلس الناصري في مجلس عظيم وحضر إلى خدمته الوزير كريم الدين عبد الكريم بن الغنام وموفق الدين أبو الفرج ناظر الخاص والقاضي جمال الدين محمود ناظر الجيش والقاضي بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر الشريف وغيرهم من أرباب الوظائف فأمرهم الأمير الكبير بتحصيل الأغنام إلى مطابخ الأمراء ونودي في القاهرة ثانيًا بالأمان. ثم رسم للأمير تنكزبغا رأس نوبة بتحصيل مماليك الملك الظاهر برقوق فأخذ تنكزبغا يتتبع أثرهم. وأصبح الناس في يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة في هرج كبير ومقالات كثيرة مختلفة في أمر الملك الظاهر برقوق. ثم استدعى الأمير الكبير يلبغا الناصري الأمراء واستشارهم فيمن ينصبه في سلطنة مصر فكثر الكلام بينهم وكان غرض غالب الأمراء سلطنة الناصري ما خلا منطاش وجماعة من الأشرفية حتى استقر الرأي على إقامة الملك الصالح أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان في السلطنة ثانيًا بعد أن أعيا الأمراء أمر الناصري في عدم قبوله السلطنة وهو يقول: المصلحة سلطنة الملك الصالح أمير حاج فإن الملك الظاهر برقوقًا خلعه من غير موجب فطلعوا في الحال من الإسطبل إلى القلعة واستدعوا الملك الصالح وسلطنوه وغيروا لقبه بالملك المنصور على ما سنذكره في أول ترجمته الثانية - إن شاء الله تعالى - بعد أن نذكر حوادث سنين الملك الظاهر برقوق كما هي عادة كتابنا هذا من أوله إلى آخره. وأما الملك الظاهر برقوق فإنه دام في اختفائه إلى أن قبض عليه بعد أيام على ما سنحكيه في سلطنة الملك الصالح مفصلًا إلى أن يسجن بالكرك ويعود إلى ملكه ثانيًا. قلت: وزالت دولة الملك الظاهر برقوق كأن لم تكن - فسبحان من لا يزول ملكه - بعد أن حكم مصر أميرًا كبيرًا وسلطانًا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يومًا تفصيله: مدة تحكمه أميرًا قبض على الأمير طشتمر العلائي الدوادار في تاسع ذي الحجة سنة تسع وسبعين وسبعمائة إلى أن جلس على تخت الملك وتلقب بالملك الظاهر في يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام. وكان يقال في هذه المدة الأمير الكبير أتابك العساكر. ومن حين تسلطن في سنة أربع وثمانين المذكورة إلى يوم ترك واختفى في ليلة الاثنين خامس جمادى الآخرة من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ست سنين وثمانية أشهر وسبعة عشر يومًا فهذا تفصيل تحكمه على مصر أميرًا أو سلطانًا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يومًا. وذهب ملكه من الديار المصرية على أسرع وجه مع عظمة في النفوس وكثرة مماليكه وحواشيه فإنه خلع من السلطنة وله نحو الألفي مملوك مشترى غير من أنشأه من أكابر الأمراء والخاصكية من خشداشيته وغيرهم هذا مع ما كان فيه من القوة والشجاعة والإقدام فإنه قام في هذا الأمر بالقوة في ابتداء أمره وتوثب على الرئاسة والإمرة بيده دفعة واحدة حسب ما تقدم ذكره ولم يكن له يوم ذاك عشرة مماليك مشتراة وأعجب من هذا ما سيكون من أمره في سلطنته الثانية عند خروجه من حبس الكرك وهو في غاية ما يكون من الفقر وقلة الحاشية ومع هذا يملك مصر ثانيًا كما سيأتي ذكر ذلك مفصلًا. وما أرى هذا الذي وقع للملك الظاهر في خلعه من الملك مع ما ذكرنا إلا خذلانًا من الله تعالى ولته الأمر. وقال المقريزي - رحمه الله -: وكان في سلطنته مخلطًا يخلط الصالح بالطالح. ومما حكاه المقريزي قال: وكان له في مدته أشياء مليحة منها: إبطاله ما كان يؤخذ من أهل البرلس وشورى وبلطيم من أعمال مصر شبه الجالية في كل سنة. قلت: وقد تجدد ذلك في دولة الملك الظاهر جقمق ثانيًا في سنة سبع وأربعين وثمانمائة. قال: وهو مبلغ ستين ألف درهم فضة. يعني عن الذي كان يؤخذ من هذه الجهات المذكورة قال: وأبطل ما كان يؤخذ على القمح بثغر دمياط من المكوس وما كان يؤخذ من معمل الفراريج بالجيزية وأعمالها والغربية وغيرها وما كان يؤخذ على الملح من المكس بعينتاب وما كان يؤخذ عل الدقيق بالبيرة من المكس. وأبطل أيضًا ما كان يؤخذ في طرابلس عند قدوم النائب إليها - من قضاة البر وولاة الأعمال - عن كل واحد خمسمائة درهم. وأبطل أيضًا ما كان يؤخذ في كل سنة من الخيل والجمال والبقر والغنم من أهل الشرقية من أعمال مصر. وأبطل ما كان يؤخذ من المكس بديار مصر على الدريس والحلفاء خارج باب النصر. وأبطل ضمان المغاني بالكرك والشوبك ومن منية أبن خصيب وزفتى من أعمال مصر. وأبطل رمي الأبقار بعد فراغ عمل الجسور على أهل النواحي. وأنشأ من العمائر في هذه السلطنة الأولى المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة ولم يعمر داخل القاهرة مثلها بعد مدرسة السلطان حسن ولا أكثر معلومًا منها بعد خانقاه شيخو. وله أيضًا الصهريج والسبيل بقلعة الجبل تجاه الإيوان. وعمر الطاحون أيضًا بالقلعة وأنشأ جسر الشريعة على نهر الأردن بطريق الشام وطوله مائة وعشرون ذراعًا في عرض عشرين ذراعًا. وجدد خزائن السلاح بثغر الاسكندرية. وعمر سور دمنهور بالبحيرة. وعمر الجبال الشرقية بالفيوم وزاوية البرزخ بدمياط وبنى قناطر بالقدس. وبنى بحيرة برأس وادي بني سالم قريبًا من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. قال: وكان حازمًا مهابًا محبًا لأهل الخير والعلم إذا أتاه أحد منهم قام إليه ولم يعرف أحد قبله من الملوك الترك يقوم لفقيه وقلما كان يمكن أحدًا منهم من تقبيل يده إلا أنه كان محبًا لجمع المال. وحدث في أيامه تجاهر الناس بالبراطيل فكان لا يكاد يولى أحد وظيفة ولا عملًا إلا بمال وفسد بذلك كثير من الأحوال. وكان مولعًا بتقديم الأسافل وحط ذوي البيوتات. قلت: وهذا البلاء قد تضاعف الآن حتى خرج عن الحد وصار ذوو البيوت معيرة في زماننا هذا. انتهى. قال: وغير ما كان للناس من الترتيب. واشتهر في أيامه ثلاثة أشياء قبيحة: إتيان الذكران حتى تشبه البغايا لبوارهن بالغلمان وذلك لاشتهاره بتقريب المماليك الحسان. والتظاهر بالبراطيل وكان لا يكاد يولي أحدًا وظيفة إلا بمال واقتدى بهذا الملوك من بعده. وكساد الأسواق لشحه وقلة عطائه فمساوئه أضعاف حسناته. انتهى كلام المقريزي من هذا المعنى. قلت: ونحن نشاحح الشيخ تقي الدين المقريزي في كلامه حيث يقول: وحدث في أيامه ثلاثة أشياء قبيحة فأما إتيان الذكران فأقول: البلاء قديم وقد نسب اشتهار ذلك من يوم دخول الخراسانية إلى العراق في نوبة أبي مسلم الخراساني في سنة اثنتين وثلاثين ومائة من الهجرة. وأما اقتناؤه المماليك الحسان فأين الشيخ تقي الدين من مشترى الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى حسان المماليك بأغلى الأثمان الذي لم يقع للملك الظاهر في مثلها حتى إن الملك الناصر محمد قدم جماعة من مماليكه ممن شغف بمحبتهم وأنعم عليهم بتقادم ألوف بمصر ولم يطر شارب واحد منهم مثل بكتمر الساقي ويلبغا اليحياوي وألطنبغا المارديني وقوصون وملكتمر الحجازي وطقزدمر الحموي وبشتك وطغاي الكبير وزوجهم بأولاده فحينئذ الفرق بينهما في هذا الشأن ظاهر. وأما قوله: أخذ البراطيل فهذا أيضًا قديم جدًا من القرن الثالث وإلى الآن حتى إنه كان في دولة الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون ديوان يعرف بديوان البذل - أعني بديوان البرطيل - وشاع ذلك في الأقطار وصار من له حاجة يأتي إلى صاحب الديوان المذكور ويبذل فيما يرومه من الوظائف وهذا شيء لم يصل الملك الظاهر برقوق إليه. وأما شحه فهو بالنسبة لمن تقدمه من الملوك شحيح وإلى من جاء بعده كريم. والشيخ تقي الدين - رحمه الله - كان له انحرافات معروفة تارة وتارة ولولا ذاك ما كان يحكي عنه في تاريخه السلوك قوله: ولقد سمعت العبد الصالح جمال الدين عبد الله السكسري المغربي يخبرني - رحمه الله - أنه رأى قردًا في منامه صعد المنبر بجامع الحاكم فخطب ثم نزل ودخل المحراب ليصلي بالناس الجمعة فثار الناس عليه في أثناء صلاته بهم فأخرجوه من المحراب وكانت هذه الرؤيا في أواخر سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فكان تقدم الملك الظاهر برقوق على الناس وسلطنته تأويل هذه الرؤيا فإنه كان متخلقًا بكثير من أخلاق القردة شحًا وطمعًا وفسادًا ولكن الله يفعل ما يريد ولله الأمر من قبل ومن بعد. انتهى كلام المقريزي. قلت: وتعبير الشيخ تقي الدين لهذه الرؤيا أن القرد هو الملك الظاهر فليس بشيء من وجوه عديدة منها: أن برقوقًا لم يتسلطن بعد قتل الملك الأشرف إلا بعد أن تسلطن ولد الملك الأشرف الملك المنصور علي وولده الملك الصالح أمير حاج.
ومنها أن الناس لما أخرجوا القرد في أثناء الصلاة كان ينبغي أن يعود ويصلي بالناس بعد إخراجه ثانيًا صلاة أطول من الصلاة الأولى فإن برقوقا لما خلع عاد إلى السلطنة ثانيًا ومكث فيها أكثر من سلطنته الأولى حتى كانت تطابق ما وقع لبرقوق. وقولنا: إن الشيخ تقي الدين كان له تارات يشكر فيها وتارات يذم فيها فإنه لما صحب الملك الظاهر المذكور في سلطنته الثانية وأحسن إليه الظاهر أمعن في الثناء عليه في عدة أماكن من مصنفاته ونسي مقالته هذه وغيرها وفاته أن يغير مقالته هذه فإنه أمعن ويقال في المثل: من شكر وذم فكأنما كذب نفسه مرتين. وبإجماع الناس أن الملك الظاهر برقوقًا كان في سلطنته الأولى أحسن حالًا من سلطنته الثانية فإنه ارتكب في الثانية أمورًا شنيعة: مثل قتل العلماء وإبعادهم والغض منهم لما أفتوا بقتاله عند خروجه من الكرك. ونحن أعرف بأحوال الملك الظاهر وابنه الناصر من الشيخ تقي الدين وغيره وإن كان هو الأسن ولم أرد بذلك الحط على الشيخ تقي الدين ولا التعصب للملك الظاهر غير أن الحق يقال. والحق المحض فيه أنه كان له محاسن ومساوئ وليس للإمعان محل كما هي عادة الملوك والحكام. وبالجملة فهو أحسن حالًا ممن جاء بعده من الملوك بلا مدافعة. والله تعالى أعلم. السنة الأولى من سلطنة الظاهر برقوق الأولى وهي سنة أربع وثمانين وسبعمائة على أن الملك الصالح حاجيًا حكم منها إلى تاسع عشر شهر رمضان ثم حكم الملك الظاهر في باقيها. وفيها توفي قاضي قضاة الحنفية بدمشق همام الدين أمير غالب ابن العلامة قاضي القضاة قوام الدين أمير كاتب الإتقاني الفارابي الأنزاري الحنفي ولي أولًا حسبة دمشق ثم القضاء بها وكان قليل العلم بالنسبة إلى أبيه إلا أنه كان رئيسًا حسن الأخلاق كريم النفس عادلًا في أحكامه. وكان في ولايته يعتمد على العلماء من نوابه فمشى حاله وشكرت سيرته إلى أن مات في جمادى الأولى. وتوفي قاضي القضاة بدر الدين عبد الوهاب ابن الشيخ كمال الدين أحمد ابن قاضي القضاة علم الدين محمود بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي الإخنائي المالكي. ولد في حدود العشرين وسبعمائة وتولى القضاء بعد موت القاضي برهان الدين إبراهيم الإخنائي. وكان ضعيفًا فجاءه التشريف من الملك الأشرف شعبان وألقي عليه على لحافه فلما عوفي لبسه. وباشر القضاء وحسنت سيرته إلى أن صرف بعلم الدين سليمان بن خالد بن نعيم البساطي في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة ثم أعيد في صفر سنة تسع وسبعين وعزل في السنة بالبساطي ثانيًا ولزم داره إلى أن مات. وكان خيرًا دينًا مشكور السيرة. وتوفي الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الرويهب في سابع عشر شهر رمضان وقد اتضع حاله وافتقر. وكان من أعيان الأقباط وباشر عدة مباشرات منها الوزر ونظر الدولة والاستيفاء وغير ذلك. وتوفي الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن عمر بن محمد ابن قاضي القضاة تقي الدين محمد ابن دقيق العيد موقع الحكم في خامس عشر صفر. وتوفي الشيخ جمال الدين محمد بن محمد بن علي بن يوسف الأسواني في يوم الأحد عاشر شهر ربيع الأول. وكان معدودًا من الفضلاء. وتوفي الأمير فخر الدين إياس بن عبد الله الصرغتمشي الحاجب أحد أمراء الطبلخانات في ثالث شهر ربيع الأخر. وكان فيه شجاعة وعنده كرم وتعصب لمن يلوذ به. وتوفي الشيخ الإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد الحق الأسيوطي الشافعي في يوم الأحد عاشر ذي القعدة بعدما تصدر للاشتغال والإفتاء عدة سنين ودرس بعدة مدارس وكان من أعيان الشافعية. وتوفي الأمير زين الدين زبالة الفارقاني نائب قلعة دمشق بها في شعبان. وتوفي السلطان الملك المعز حسين بن أويس ابن الشيخ حسن بن حسين بن آقبغا بن أيلكان المنعوت بالشيخ حسين سلطان بغداد وتبريزوما والاهما. وكان سبط القان أرغون بن بوسعيد ملك التتار. ولي سلطنة بغداد في حياة أبيه لأن والده أويسًا كان رأى منامًا يدل على موته في يوم معين فاعتزل الملك وسلطن ولده هذا وقد تقدم ذكره في ترجمة والده المذكور في سنة ست وسبعين وسبعمائة. ودام الشيخ حسين هذا في الملك إلى أن قتله أخوه السلطان أحمد بن أويس وملك بغداد بإشارة خجا شيخ الكجحاني في هذه السنة. وكان الشيخ حسين هذا ملكًا شابًا جميلًا جليلًا شجاعًا مقدامًا كريمًا محببًا للرعية كثير البر قليل الطمع ولقد كانت العراق في أيامه مطمئنة معمورة إلى أن ملكها أخوه أحمد بعده فاضطربت أحوالها إلى أن قتل ثم ملكها قرا يوسف وأولاده فكان خراب العراق على أيديهم. وبالجملة فكان الشيخ حسين هذا هو آخر ملوك بغداد والعراق. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع ونصف. مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا وثلاثة أصابع. وهي سنة الغرقى لعظم زيادة النيل. السنة الثانية من سلطنة الظاهر برقوق الأولى وهي سنة خمس وثمانين وسبعمائة. وفيها توفي الأديب المقرئ الفاضل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى ابن مخلوف بن مر بن فضل الله بن سعد بن ساعد السعدي الأعرج الشاعر المشهور. كان لديه فضيلة وعلا قدره على نظم الشعر وكان عارفًا بالقراءات وقال الشعر وسنه دون العشرين سنة. ومن شعره رحمه الله: الكامل إن الكريم إذا تنجس عرضه لو طهروه بزمزم لم يطهر وتوفي الأمير عز الدين أيدمر بن عبد الله من صديق المعروف بالخطائي وهو مجرد بالإسكندرية. كان أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية ورأس نوبة وكان ممن انضم على الأمير بركة الجوباني فقبض عليه برقوق وحبسه مدة ثم أفرج عنه وأعاده على إمرته إلى أن مات. وخلف موجودًا كبيرًا استولى عليه ناظر الخاص. وتوفي الأمير سيف الدين بلاط بن عبد الله السيفي المعروف بالصغير أمير سلاح وهو بطرابلس في جمادى الأولى. وكان حشمًا وقورًا مشكور السيرة.
|