الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
الكرك فإنه كان قدم إلى العقبة ومعه ابنا السلطان الملك الناصر: أبو بكر وأحمد اللذان كان والدهما الناصر أرسلهما إلى الكرك قبل تاريخه بسنين ليسكنا بها. ثم مضى السلطان إلى سفره وهو محترز غاية التحرز بحيث إنه ينتقل في الليل عدة مرار من مكان إلى مكان ويخفي موضع مبيته من غير أن يظهر أحدًا على مافي نفسه مما بلغه عن بكتمر الساقي إلى أن وصل إلى ينبع. فتلقاه الأشراف من أهل المدينة وقدم عليه الشريف أسد الدين رميثة من مكة ومعه قواده وحريمه فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم وساروا معه إلى أن نزل على خليص فر منه نحو ثلاثين مملوكًا إلى جهة العراق فلم يتكلم السلطان. وسار حتى قدم مكة ودخلها فأنعم على الأمراء وأنفق في جميع من معه من الأجناد والمماليك ذهبًا كثيرًا وأفاض على أهل مكة بالصدقات والإنعام. فلما قضى النسك عاد يريد مصر وعرج إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسار حتى وصلها فلما دخلها هبت بها ريح شديدة في الليل ألقت الخيم كلها وتزايد اضطراب الناس واشتدت ظلمة الجو فكان أمرًا مهولًا فلما كان النهار سكن الريح فظفر أمير المدينة بمن فر من المماليك السلطانية فخلع السلطان عليه وأنعم عليه بجميع ماكان مع المماليك من مال وغيره وبعث بالمماليك إلى الكرك فكان ذلك آخر العهد بهم. ثم مرض الأمير بكتمر الساقي وولده أحمد فمات أحمد في ليلة الثلاثاء سابع المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ومات أبوه الأمير بكتمر الساقي في ليلة الجمعة عاشر المحرم بعد ابنه أحمد بيومين وحمل بكتمر إلى عيون القصب فدفن بها واتهم السلطان أنه سمهما. وذلك أنه كان قد عظم أمر بكتمر بحيث إن السلطان كان معه في هذه السفرة ثلاثة آلاف ومائة عليقة ومع بكتمر الساقي ثلاثة آلاف عليقة وبلغت عدة خيوله الخاصة مائة طوالة بمائة سايس بمائة سطل وكان عليق خيول إسطبله دائمًا ألفًا ومائة عليقة كل يوم ومع هذا لم يقنعه ذلك. وأخذ يدبر في قتل السلطان وبلغ السلطان ذلك بعد أن خرج من القاهرة فتحرز على نفسه بدربة وعقل ومعرفة ودهاء ومكر حتى صار في أعظم حجاب من بكتمر وغيره. ثم أخذ هو أيضًا يدبر على بكتمر وأخذ يلازمه في الليل والنهار بحيث أن بكتمر عجز في الطريق أن ينظر إلى زوجته فإنه كان إذا ركب أخذ يسايره بجانبه ويكالمه من غير جفاء وإذا نزل جلس معه فإن مضى إلى خيامه أرسل السلطان في الحال خلفه بحيث إنه استدعاه مرة وهو يتوضأ بواحد بعد آخر حتى كمل عنده اثنا عشر جمدار. فلما ثارت الريح بالمدينة قصد السلطان قتل بكتمر وولده أحمد تلك الليلة. وأعد لذلك جماعة فهجموا على ولده أحمد فلم يتمكنوا منه واعتذروا بأنهم رأوا حرامية وقد أخذوا لهم متاعًا فمروا في طلبهم فداخل الصبي منهم الفزع ثم زاد احتراز السلطان على نفسه ورسم للأمراء أن يناموا بمماليكهم على بابه. ولما سار من المدينة عظم عنده أمر بكتمر فلما كان في أثناء الطريق سقى أحمد بن بكتمر ماء باردًا في مسيره كانت فيه منيته ثم سقى بكتمر بعد موت ولده مشروبًا فلحق بابنه. واشتهر ذلك حتى إن زوجة بكتمر لما مات صاحت وقالت للسلطان بصوت سمعها كل أحد: يا ظالم أين تروح من الله ولدي وزوجي فأما زوجي كان مملوكك وولدي ايش كان بينك وبينه وكررت ذلك مرارًا فلم يجبها. قلت: ولولا أن الملك الناصر سقى ولده أحمد قبله وإلا كانت حيلة الناصر لا تتم فإن بكتمر أيضًا كان احترز على نفسه وأعلم أصحابه بذلك. فلما اشتغل بمصاب ابنه أحمد انتهز الملك الناصر الفرصة وسقاه في الحال. و أيضًا لو بقي ولده ربما وثب حواشي بكتمر به على السلطان وهذا الذي قلته على الظن مني. والله أعلم. ويأتي أيضًا بعض ذكر بكتمر الساقي في الوفيات. انتهى. ثم وصل إلى القاهرة مبشر الحاج في ثامن المحرم سنة ثلاث وثلاثين تلك المظفري الجمدار وأخبر بسلامة السلطان فدقت البشائر وخلع عليه خلع كثيرة واطمأن الناس بعد ما كان بينهم أراجيف. ثم وصل السلطان إلى الديار المصرية في يوم السبت ثامن عشر المحرم بعد ما خرج معظم الناس إلى لقائه ومد شرف الدين النشو شقاق الحرير والزربفت من بين العروستين إلى باب الإسطبل فلما توسط بين الناس صاحت العوام: هو إياه ما هو إياه با لله اكشف لنا لثامك وأرنا وجهك وكان قد تلثم فعند ذلك حسر اللثام عن وجهه فصاحوا بأجمعهم: الحمد لله على السلامة ثم بالغوا في إظهار الفرح به والدعاء له وأمعنوا في ذلك فسر السلطان بهذا الأمر ودخل القلعة ودقت البشائر وعملت الأفراح ثلاثة أيام. وهذه حجة السلطان الملك الناصر الثالثة وهي التي يضرب بها المثل. وجلس السلطان على كرسي الملك وخلع على الأمراء قاطبة. وكان بلغ السلطان أن ألماس الحاجب كان اتفق مع بكتمر الساقي على الفتك بالسلطان. قلت: وبكتمر وألماس كلاهما مملوكه ومشتراه. انتهى. ثم أخذ السلطان يدبر على ألماس حتى قبض عليه وعلى أخيه قرا في العشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وحمل قرا من يومه إلى الإسكندرية. وسبب معرفة السلطان اتفاق ألماس مع بكتمر أن الملك الناصر لما مات بكتمر الساقي صحبته بطريق الحجاز احتاط على موجوده فكان من جملة الموجود جزدان ففتحه السلطان فوجد فيه جوابًا من الأمير ألماس إلى بكتمر الساقي يقول فيه: إنني حافظ القاهرة والقلعة إلى أن يرد علي منك ما أعتمده فتحقق السلطان أمره وقبض عليه ولما قبض السلطان على ألماس أخذ جميع أمواله وكان مالًا جزيلًا إلى الغاية فإنه كان ولي الحجوبية وباشرها وليس بالديار المصرية نائب سلطنة فإن الملك الناصر لم يول أحدًا معه بعد الأمير أرغون فعظم أمر ألماس في الحجوبية لذلك فصار هو في محل النيابة ويركبون الأمراء وينزلون في خدمته ويجلس في باب القلعة في منزلة النائب والحجاب والأمراء وقوف بين يديه. وكان ألماس رجلًا طوالًا غتميًا لا يفهم بالعربية يفعل ذلك عامدًا لإقامة الحرمة ويظهر البخل ولم يكن كذلك بل كان يفعل ذلك خوفًا من الملك الناصر فإنه كان يطلق ثم في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة قدم تنكز إلى القاهرة وأقام بها أيامًا ثم عاد إلى محل ولايته في يوم الخميس ثالث شهر رجب من سنة أربع وثلاثين وسبعمائة. وفي هذه السنة أفرج السلطان عن الأمير بهاء الدين أصلم وعن أخيه قرمجي وعن بكتوت القرماني فكانت مدة اعتقال أصلم وقرمجي ست سنين وثمانية أشهر. ثم خلع السلطان على الأمير آقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك بنيابة طرابلس بعد موت قرطاي. قلت: وإخراج آقوش نائب الكرك المذكور من مصر لأمور منها: صحبته مع ألماس ومنها ثقله على السلطان فإن السلطان كان يجله ويحترمه ويقوم له كلما دخل عليه لكبر سنه ومنها معارضته للسلطان فيما يرومه فأخرجه وبعث له بألف دينار وخرج معه برسبغا مسفرًا له فلما أوصله إلى طرابلس وعاد خلع عليه السلطان واستقر به حاجبًا صغيرًا. وخلع على الأمير مسعود بن أوحد بن الخطير بدر الدين واستقر حاجبًا كبيرًا عوضًا عن ألماس. وورد الخبر على السلطان من بغداد بأن صاحبها أمر النصارى بلبس العمائم الزرق واليهود الصفر اقتداء بالسلطان الملك الناصر بهذه السنة الحسنة. وفي يوم الأحد رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وسبعمائة قبض السلطان على الطواشي شجاع الدين عنبر السحرتي مقدم المماليك بسعاية النشو ناظر الخاص. وأنعم بإقطاعه وهي إمرة طبلخاناه على الطواشي سنبل واستقر نائب مقدم المماليك. وخلع على الأمير آقبغا عبد الواحد واستقر مقدم المماليك السلطانية مضافًا للأستادارية عوضًا عن عنبر السحرتي كما كان أولًا. فلما تولى آقبغا تقدمة المماليك عرض الطباق ووضع فيهم وضرب جماعة من السلاح دارية والجمدارية لامتناعهم عنه ونفاهم إلى صفد فأعجب السلطان ذلك. وفي شهر رجب من سنة خمس وثلاثين أفرج السلطان عن الأمير بيبرس الحاجب وكان له في السجن من سنة خمس وعشرين. وأفرج أيضًا عن الأمير طغلق التتاري وهو أحد الأمراء الأشرفية وكان له في السجن ثلاث وعشرون سنة فمات بعد أسبوع من قدومه. قلت: لعله مات من شدة الفرح. ثم أفرج السلطان عن الأمير غانم بن أطلس خان وكان له في السجن خمس وعشرون سنة وأفرج عن الأمير برلغي الصغير وله في السجن ثلاث وعشرون سنة وأفرج عن جماعة أخر وهم: أيدمر اليونسي أحد أمراء البرجية المظفرية والأمير لاجين العمري والأمير طشتمر أخو بتخاص والأمير بيبرس العلمي وكان من أكابر الأمراء البرجية من حواشي المظفر بيبرس والأمير قطلوبك الأوجاقي والشيخ علي مملوك سلار والأمير تمر الساقي نائب طرابلس أحد المنصورية وكان قبض عليه سنة أربع عشرة والجميع كان حبسهم في ابتداء سلطنة الملك الناصر الثالثة بعد سنة عشر وسبعمائة. وأنعم السلطان على تمر الساقي بطبلخاناه بالشام وأنعم على بيبرس الحاجب بإمرة في حلب وأنعم على طشتمر بإمرة بدمشق وعلى أيدمر اليونسي وبلاط بإمرة في طرابلس. ثم في يوم الخميس رابع شهر ربيع الأول أنعم السلطان على ولده أبي بكر بإمرة وركب بشربوش من إسطبل الأمير قوصون وسار من الرميلة إلى باب القرافة فطلع إلى القلعة والأمراء والخاصكية في خدمته وعمل لهم الأمير قوصون مهمًا عظيمًا في إسطبله. ثم إن السلطان قبض على الأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك وهو يوم ذاك نائب طرابلس في نصف جمادى الآخرة وحبس بقلعة صرخد ثم نقل منها في مستهل شوال إلى الإسكندرية ونزل النشو إلى بيته بالقاهرة وأخذ موجوده وموجود حريمه وعاقب أستاداره. واستقر عوضه في نيابة طرابلس الأمير طينال. ثم اشتغل الملك الناصر بضعف مملوكه ومحبوبه ألطنبغا المارداني وتولى تمريضه بنفسه إلى أن عوفي فأحب ألطنبغا أن ينشىء له جامعًا تجاه ربع الأمير طغجي خارج باب زويلة واشترى عدة دور من أربابها بغير رضاهم فندب السلطان النشو لعمارة الجامع المذكور فطلب النشو أرباب الأملاك وقال لهم: الأرض للسلطان ولكم قيمة البناء ولازال بهم حتى ابتاعها منهم بنصف مافي مكاتيبهم من الثمن وكانوا قد أنفقوا في عمارتها بعد مشتراها جملة فلم يعتد لهم النشو منها بشيء. وأقام النشو في عمارته حتى تم في أحسن هندام فجاء مصروفه ثلاثمائة ألف درهم ونيف سوى ما أنعم به عليه السلطان من الخشب والرخام وغيره. وخطب به الشيخ ركن الدين عمر بن إبراهيم الجعبري من غير أن يتناول له معلومًا. ثم جلس السلطان بدار العدل فوجد به رقعة تتضمن الوقيعة في النشو وكثرة ظلمه وتسلط أقاربه على الناس وكثرة أموالهم وتعشق صهره ولي الدولة لشاب تركي. وكان قبل ذلك قد ذكر الأمير قوصون للسلطان أن عميرًا الذي كان شغف به الأمير ألماس قد ولع به أقارب النشو وأنفقوا عليه الأموال الكثيرة فلم يقبل السلطان فيه قول الأمراء لمعرفته لكراهتهم له فلما قرئت عليه القصة قال: أنا أعرف من كتبها واستدعى النشو ودفعها إليه وأعاد له مارماه به الأمير قوصون فحلف النشو على براءتهم من هذا الشاب وإنما هذا ومثله مما يفعله حواشي الأمير قوصون وقصد قوصون تغير خاطر السلطان علي وبكى وانصرف. فطلب السلطان قوصون وأنكر عليه إصغاءه لحواشيه في حق النشو فحلف قوصون أن النشو يكذب في حلفه ولئن قبض السلطان على الشاب وعوقب ليصدقن السلطان فيمن يعاشره من أقارب النشو فغضب السلطان وطلب أمير مسعود الحاجب وأمره بطلب الشاب وضربه بالمقارع حتى يعترف بجميع من يصحبه وكتابة أسمائهم وألزمه ألا يكتم عنه شيئًا فطلبه مسعود وأحضر المعاصير فأملى عليه الشاب عدة كثيرة من الأعيان منهم ولي الدولة فخشي مسعود على الناس من الفضيحة وقال للسلطان: هذا الكذاب ماترك أحدًا في المدينة حتى اعترف عليه وأنا أعتقد أنه يكذب عليهم وكان السلطان حشيم النفس يكره الفحش فقال لمسعود: يا بدر الدين من ذكر من الدواوين. فقال: " والله يا خوند ما خلى أحدًا من خوفه حتى ذكره فرسم السلطان بإخراج عمير المذكور ووالده إلى غزة ورسم لنائبها أن يقطعهما خبزًا بها. وكان ذلك أول انحطاط قدر النشو عند السلطان. ثم اتفق بعد ذلك أن طيبغا القاسمي الناصري وكان يسكن بجوار النشو وله مملوك جميل الصورة فاعتشر به ولي الدولة وغيره من إخوة النشو فترصد أستاذه طيبغا حتى هجم يومًا عليهم وهو معهم فأخذه منهم وخرج. وبلغ النشو ذلك فبادر بالشكوى إلى السلطان بأن طيبغا القاسمي يتعشق مملوكه ويتلف عليه ماله وأنه هجم وهو سكران على بيتي وحريمي وقد شهر سيفه وبالغ في السب. وكان السلطان يمقت على السكر فأمر في الحال بإخراج طيبغا ومملوكه إلى الشام. وكان السلطان مشغولًا في هذه الأيام بعمارة قناطر شبين القصر على بحر أبي المنجا فأنشئت تسع قناطر. ثم توجه السلطان في شهر ربيع الآخر من سنة ست وثلاثين وسبعمائة إلى الوجه القبلي للصيد ثم عاد إلى القاهرة بعد أن غاب خمسة وأربعين يومًا كل ذلك وأمر النشو في إدبار بالنسبة لما كان عليه. ثم جلس السلطان يومًا بالميدان فسقط عليه طائر حمام وعلى جناحه ورقة تتضمن الوقيعة في النشو وأقاربه والقدح في السلطان بأنه قد أخرب دولته. فغضب السلطان غضبًا شديدًا وطلب النشو وأوقفه على الورقة وتنمر عليه لكثرة ما شكي منه فقال النشو: يا خوند الناس. معذورون وحق رأسك لقد جاءني خبر هذه الورقة ليلة كتبت. وهي فعل المعلم أبي شاكر بن سعيد الدولة ناظر البيوت كتبها في بيت الصفي كاتب الأمير قوصون وقد اجتمع هذا وأقاربه في التدبير علي ثم أخذ النشو يعرف السلطان ماكان من أمر سعيد الدولة في أيام المظفر بيبرس الجاشنكير وأغراه به حتى طلبه وسلمه إلى الوالي علاء الدين علي بن المرواني فعاقبه الوالي عقوبة مؤلمة. ثم طلب السلطان الأمير قوصون وعنفه بفعل الصفي كاتبه. ثم تتبع النشو حواشي أبي شاكر وقبض عليهم وسلمهم إلى الوالي وخرب بيوتهم وحرثها بالمحراث. واشتدت وطأة النشو على الناس واستوحش الناس منه قاطبة وصار النشو يدافع عن نفسه بكل ما يمكن والمقادير تمهله. ثم بدا للسلطان أن ينقل الخليفة من مناظر الكبش إلى قلعة الجبل فنقل في ثالث عشرين ذي القعدة من سنة ست وثلاثين والخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان. وسكن الخليفة بالقلعة حيث كان أبوه الحاكم نازلًا ببرج السباع بعياله ورسم على الباب جاندار بالنوبة. وسكن ابن عمه إبراهيم في برج بجواره بعياله ورسم عليه جاندار آخر ومنعا عن الاجتماع بالناس كل ذلك لأمر قيل. ثم إن السلطان في سابع عشر محرم سنة سبع وثلاثين وسبعمائة عقد عقد ابنه أبي بكر على ابنة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموي الناصري أمير مجلس بدار الأمير قوصون. ثم قدم الأمير تنكز نائب الشام ثاني شهر رجب من سبع وثلاثين المذكورة على السلطان وهو بسرياقوس فخلع عليه وسافر في ثاني عشرينه إلى محل ولايته. ثم في هذه السنة زاد ظلم النشو على التجار ورمى على التجار الخشب بأضعاف ثمنه فكثرت الشكوى منه إلى أن توصل بعض التجار لزوجة السلطان خوند طغاي أم آنوك وقال لها: رمى علي النشو خشبًا يساوي ألفي درهم بألفي دينار فعرفت أم آنوك السلطان بذلك فأمر السلطان بطلب التاجر وقد اشتد غضبه على النشو. وبلغ النشو الخبر ففي الحال أرسل النشو رجلًا إلى التاجر وسأله في قرض مبلغ من المال فعرفه التاجر أمر الخشب وما هو فيه من الغرامة فقال له الرجل: أرني الخشب فإني محتاج إليه فلما رآه قال: هذا غرضي واشتراه منه بفائة ألف درهم إلى شهر وفرح التاجر بخلاصه من الخشب وأشهد عليه بذلك. وأخذ الرجل الخشب وأتى بالمعاقدة إلى النشو فأخذها النشو وطلع إلى السلطان من فوره وقال للسلطان: يا مولانا السلطان نزلت أخذ الخشب من التاجر فوجدته قد باعه بفائدة ألف درهم فلم يصدقه السلطان وعوق النشو وقد امتلأ عليه غضبًا فطلب السلطان التاجر وسأله عما رماه عليه النشو من الخشب فاغتر التاجر بأم آنوك وأخذ يقول: ظلمني النشو وأعطاني خشبًا بألفي دينار يساوي ألفي درهم فقال له السلطان: وأين الخشب فقال: بعته بالدين فقال النشو: قل الصحيح فهذه معاقدتك معه فلم يجد التاجر بدًا من الاعتراف فحنق عليه السلطان وقال له: ويلك تقيم علينا القالة وأنت تبيع بضاعتنا بفائدة " وسلمه إلى النشو وأمره بضربه وأخذ الألفي دينار منه مع مثلها. وعظم عنده النشو وتحقق حق مايقوله وأن الذي يحمل الناس على التكلم فيه الحسد. ثم عبر السلطان إلى الحريم وسبهن وعرفهن بما جرى من كذب التاجر وصدق النشو وقال: مسكين النشو ما وجدت أحدًا يحبه.
بعد ما أقام في السجن سبعًا وعشرين سنة ثم في يوم الاثنين ثاني عشر رمضان ركب النشو على عادته في السحر إلى الخدمة فاعترضه في طريقه عبد المؤمن بن عبد الوهاب السلامي المعزول عن ولاية قوص فضربه بالسيف فأخطأ رأس النشو وسقطت عمامته عن رأسه وقد جرح كتفه وسقط على الأرض. ونجا الفارس بنفسه وفي ظنه أن رأس النشو قد طاح عن بدنه لعظم ضربه. وبلغ السلطان ذلك فغضب ولم يحضر السماط. وبعث إلى النشو بعدة من الجمدارية والجرايحية فقطبت ذراعه بست إبر وجبينه باثنتي عشرة إبرة وألزم السلطان والي القاهرة ومصر بإحضار غريم النشو. وأغلظ السلطان على الأمراء بالكلام ومازال يشتد ويحتد حتى عادت القصاد بسلامة النشو فسكن ما به ثم بعث النشو مع أخيه رزق الله إلى السلطان يعلمه بأن هذا من فعل الكتاب بموافقة لؤلؤ شاد الدواوين فطلب السلطان الوالي وأمره بمعاقبة الكتاب الذين هم في المصادرة مع لؤلؤحتى يعترفوا بغريم النشو وكان السلطان قد قبض على لؤلؤ وكتابه وصادره قبل تاريخه بموافقة النشو فنزل الوالي وعاقب لؤلؤًا وضربه ضربًا مبرحًا وعاقب المعلم أبا شاكر وقرموطًا عقابًا شديدًا فلم يعترفوا بشيء. وعوفي النشو وطلع إلى القلعة وخلع السلطان عليه ونزل من القلعة بعد أن رتب السلطان المقدم إبراهيم بن أبي بكر بن شداد صابر أن يمشي في ركابه ومعه عشرة من رجاله في ذهابه وإيابه. ثم قبض النشو بعد ذلك على تاج الدين بن الأزرق وصادره حتى فاشتراه منه الأمير عز الدين أيدمر الخطيري وكان بجانبه ساقية فهدم الخطيري الدار والساقية وعمرهما جامعًا بخط بولاق على شاطىء النيل. قلت: وكان أصل موضع هذا الجامع المذكور أنه لما أنشئت العمائر ببولاق عمر الحاج محمد بن عز الفراش بجوار الساقية المذكورة دارًا على النيل ثم انتقلت بعد موته إلى ابن الأزرق هذا فكانت تعرف بدار الفاسقين من كثرة اجتماع النصارى بها على مالا يرضي الله تعالى. فلما صادره النشو باعها فيما باعه فاشتراها الخطيري بثمانية آلاف درهم وهدمها وبنى مكانها ومكان الساقية جامعًا أنفق فيه أموالًا جزيلة في أساساته مخافة من زيادة النيل وأخذ أراضي حوله من بيت المال وأنشأ عليها الحوانيت والرباع والفنادق. فلما تم بناؤه قوي عليه ماء النيل فهدم جانبًا منه فأنشأ تجاهه زريبة رمى فيها ألف مركب موسوقة بالحجارة قاله الشيخ تقي الدين المقريزي رحمه الله وهو حجة فيما ينقله. لكن أقول: لعله وهم في هذا وأراد أن يقول: وسق ألف مركب بالحجارة فسبق قلمه بما ذكرناه قال: وسمي هذا الجامع بجامع التوبة وجاء في غاية الحسن. فلما أفرج عن بن الأزرق من المصادرة ادعى أنه كان مكرها في بيع داره فأعطاه الأمير أيدمر الخطيري ثمانية آلاف درهم أخرى حتى استرضاه ولا يكون جامعه بني في أرض مكرهة انتهى. وقد خرجنا عن المقصود ولنرجع إلى أمر الملك الناصر. وأما النشو فإنه لا زال على بن الأزرق هذا حتى قبض عليه ثانيًا وعاقبه حتى مات وذلك في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. ثم في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة أنعم السلطان الملك الناصر في يوم واحد على أربعة من مماليكه بمائتي ألف دينار مصرية وهم: قوصون وألطنبغا المارداني وملكتمر الحجازي وبشتك. وفي هذه السنة ولد للسلطان ابنه صالح من بنت الأمير تنكز نائب الشام فعمل لها السلطان بشخاناه ودائر بيت زركش وتكملة البذلة من المخدات والمقاعد بمائتي ألف دينار وأربعين ألف دينار وعمل لها الفرح سبعة أيام. وفي هذه السنة وقع للملك الناصر غريبة وهو أنه استدعى من بلاد الصعيد بألفي رأس من الضأن واستدعى من الوجه البحري بمثلها لتتمة أربعة آلاف رأس. وشرع السلطان في عمل حوش برسمها وبرسم الأبقار البلق فوقع اختياره على موضع بقلعة الجبل مساحته أربعة أفدنة قد قطعت منه الحجارة لعمارة القاعات التي بالقلعة حتى صار غورًا عظيمًا فطلب كاتب الجيش ورتب على كل من الأمراء المقدمين مائة رجل ومائة دابة لنقل التراب وعلى كل من أمراء الطبلخاناه بحسب حاله. وأقام الأمير آقبغا عبد الواحد شادًا وأن يقيم معه من جهة كل أمير استاداره بعدة من جنده وألزم الأسرى بالعمل. ورسم لوالي القاهرة بتسخير العامة. فنصب الأمير آقبغا خيمته على جانب الموضع واستدعى استادارية الأمراء واشتد عليهم فلم يمض ثلاثة أيام حتى حضرت إليه رجال الأمراء من نواحيهم ونزل كل أستادار بخيمته ومعه دوابه ورجاله فقسمت عليهم الأرض قطعًا معينة لكل واحد منهم فجدوا في العمل ليلًا ونهارًا. واستحثهم آقبغا المذكور بالضرب وكان ظالمًا غشومًا فعسف بالرجال وكلفهم السرعة في أعمالهم من غير رخصة ولا مكنهم من الاستراحة. وكان الوقت صيفًا حارًا فهلك جماعة كثيرة منهم في العمل لعجز قدرتهم عما كلفوه. ومع ذلك كله والولاة تسخر من تظفر به من العامة وتسوقه إلى العمل فكان أحدهم إذا عجزو ألقى بنفسه إلى الأرض رمى أصحابه عليه التراب فيموت لوقته. هذا والسلطان يحضر كل يوم حتى ينظر العمل. وكان الأمير ألطنبغا المارداني قد مرض وأقام أيامًا بالميدان على النيل حتى عوفي وطلع إلى القلعة من باب القرافة فاستغاث به الناس وسألوه أن يخلصهم من هذا العمل فتوسط لهم عند السلطان حتى أعفى الناس من السخر وأفرج عمن قبض عليه منهم. فأقام العمل ستة وثلاثين يومًا إلى أن فرغ منه وأجريت إليه المياه وأقيمت به الأغنام المذكورة والأبقار البلق وبنيت به بيوت للإوز وغيرها. قلت: لعل هذا الموضع يكون هو الحوش الذي يلعب فيه السلطان بالكرة تحت قاعة الدهيشة. والله أعلم. وعند فراغ هذا الحوش استدعى السلطان الأمراء وعمل لهم سماطًا جليلًا وخلع على جماعة ممن باشر العمل وغيرهم. ثم أنشأ السلطان لمملوكيه: الأمير يلبغا اليحياوي والأمير ألطنبغا المارداني لكل منهما قصرًا تجاه حمام الملك السعيد بركة خان قريبًا من الرميلة تجاه القلعة وأخذ من إسطبل الأمير أيدغمش أمير آخور قطعة ومن إصطبل الأمير قوصون قطعة ومن إصطبل طشتمر الساقي قطعة ونزل السلطان بنفسه حتى قرر أمره. ورسم السلطان للأمير قوصون أن يشتري الأملاك التي حول إصطبله ويضيفها فيه. ثم أمر السلطان أن يكون بابا الإصطبلين اللذين أمر بإنشائهما ليلبغا وألطنبغا تجاه حمام الملك السعيد. وأقام الأمير آقبغا عبد الواحد شاد عمارة القصرين والإصطبلين المذكورين. قلت: أما إصطبل قوصون فهو البيت المعد لسكن كل من صار أتابك العساكر في زماننا هذا الذي بابه الواحد تجاه باب السلسلة. وأما بيت طشتمر الساقي حمص أخضر فهو البيت الذي الآن على ملك الأمير جرباش المحمدي الأتابك الذي بابه الواحد من حدرة البقر. وبيت أيدغمش أمير آخور لعله يكون بيت منجك اليوسفي الذي هو الآن على ملك تمربغا الظاهري رأس نوبة النوب. وأما القصران والإسطبلان اللذان عمرهما السلطان ليلبغا اليحياوي وألطنبغا المارداني فقد أخذهما السلطان حسن وجعل مكانهما مدرسته المعروفة بمدرسه السلطان حسن تجاه قلعة الجبل. والله أعلم. وفي هذه السنة أعني سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة عمل السلطان جسرًا بالنيل على جسر بن الأثير وحفر الخليج الكبير المعروف بخليج الخور. وسببه أن النيل قوي على ناحية بولاق وهدم جامع الخطيري حتى احتاج أيدمر الخطيري لتجديده فرسم السلطان للسكان على شاطىء النيل بعمل زرايي لجميع ملاك الدور بالقرب من فم الخور وألا يؤخذ منهم عليها حكر فبنى صاحب كل دار زريبة تجاه داره فلم يفد ذلك شيئًا. فكتب السلطان بإحضار مهندسي البلاد القبلية والبحرية فلما تكاملوا ركب السلطان إلى النيل وهم معه وكشف البحر فاتفق الرأي على أن يحفر الرمل الذي بالجزيرة المعروفة بجزيرة أروى أعني الجزيرة الوسطى حتى يصير خليجًا يجري فيه الماء ويعمل جسر وسط النيل يكون سدًا يتصل بالجزيرة يعني من الروضة إلى الجزيرة الوسطانية فإذا كانت زيادة النيل جرى الماء في الخليج الذي حفر وكان قدامه سد عال يرد الماء إليه حتى يتراجع النيل عن بر بولاق والقاهرة إلى بر ناحية منبابة. وعاد السلطان إلى القلعة وخرجت البرد من الغد إلى الأعمال بإحضار الرجال للعمل صحبة المشدين وطلبت الحجارون بأجمعهم لقطع الحجارة من الجبل وكانت تلك الحجارة تحمل إلى الساحل وتملأ بها المراكب وتغرق وهي ملآنة بالحجارة حيث يعمل الجسر. فلم يمض عشرة أيام حتى قدمت الرجال من النواحي وتسلمهم آقبغا عبد الأحد والأمير برسبغا الحاجب. ورسم السلطان لوالي القاهرة ولوالي مصر بتسخير العامة للعمل فركبا وقبضا على عدة كثيرة منهم وزادوا في ذلك حتى صارت الناس تؤخذ من المساجد والجوامع والأسواق فتستر الناس ببيوتهم خوفًا من السخرة. ووقع الاجتهاد في العمل واشتد الاستحثاث فيه حتى إن الرجل كان يخر إلى الأرض وهو يعمل لعجزه عن الحركة فتردم رفقته عليه الرمل فيموت من ساعته. واتفق هذا لخلائق كثيرة وآقبغا عبد الواحد راكب في حراقة يستعجل المراكب المشحونة بالحجارة والسلطان ينزل إليهم في كل قليل ويباشرهم ويغلظ على آقبغا ويحرضه على السرعة واستنهاض العمال حتى كمل في مدة شهر بعد أن غرق فيه اثنتا عشرة مركبًا بالحجارة وسق كل مركب ألف إردب. وكانت عدة المراكب التي أشحنت بالحجارة المقطوعة من الجبل ورميت في البحر حتى صار جسرًا يمشي عليه ثلاثًا وعشرين ألف مركب حجر سوى ما عمل فيه من آلات الخشب والسرياقات والحلفاء ونحو ذلك. وحفر الخليج بالجزيرة فلما زاد النيل جرى في الخليج المذكور وتراجع الماء حتى قوي على بر منبابة وبر بولاق التكروري فسر السلطان والناس قاطبة بذلك فإن الناس كانوا على تخوف كبير من النيل على القاهرة. وأنفق السلطان على هذا العمل من خزانته أموالًا كثيرة. كل ذلك في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة المذكورة. فلما استهلت سنة تسع وثلاثين وسبعمائة حضر فيها الأمير تنكز نائب الشام ورسم بسكناه في داره بالكافوري على عادته وخلع عليه خلعة الاستمرار على نيابة دمشق. وبعد أيام تكلم تنكز في يلبغا نائب حلب فعزله السلطان عن نيابة حلب وأنعم عليه بنيابة غزة. وقدم تنكز في هذه المرة للسلطان تقدمة عظيمة تجل عن الوصف فيها من صنف الجوهر فقط ماقيمته ثلاثون ألف دينار ومن الزركش عشرون ألف دينار ومن أواني البلور وتعابي القماش والخيل والسروج والجمال البخاتي ما قيمته مائتان وعشرون ألف دينار مصرية فلما انقضت التقدمة أخذ السلطان تنكز وأدخله إلى الدور السلطانية حتى رأى ابنته زوجة السلطان فقامت إليه وقبلت يده ثم أخرج السلطان إليه جميع بناته وأمرهن بتقبيل يد تنكز المذكور وهو يقول لهن واحدة بعد واحدة: بوسي يد عمك ثم عين منهن بنتين لولدي الأمير تنكز فقبل تنكز الأرض وخرج من الدور والسلطان يحادثه. وأمر السلطان بالاهتمام إلى سفر الصعيد للصيد على عادته وتنكز صحبته وكان من إكرامه له في هذه السفرة ما لا عهد من ملك مثله. فلما عاد السلطان من الصعيد أمر النشو بتجهيز كلفة عقد ابني تنكز على ابنتيه وكلفة سفر تنكز إلى الشام فجهز النشو ذلك كله وعقد لابني تنكز على ابنتي السلطان في بيت الأمير قوصون لكون قوصون أيضًا متزوجًا بإحدى بنات السلطان بحضرة القضاة والأمراء. ثم ولدت بنت الأمير تنكز من السلطان بنتًا فسجد شكرًا لله بحضرة السلطان وقال: يا خوند كنت أتمنى أن يكون المولود بنتًا. فإنها لو وضعت ذكرًا كنت أخشى من تمام السعادة فإن السلطان قد تصدق علي بما غمرني به من السعادة فخشيت من كمالها.
|