الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
هذا وقد التفت أهل الدولة إلى يلبغا السالمي والعمل في زواله حتى تم لهم ذلك. فلما كان رابع عشر شهر رجب المذكور قبض على يلبغا السالمي وعلى شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة أستادار الوالد الذي كان ولي الوزر قبل تاريخه وسلما لسعد الدين إبراهيم بن قلت: فصار حاله كالمثل السائر " أفقرني فيما أحب ولا استغنى ". ثم في ثامن عشره استقر سعد الدين إبراهيم بن غراب المذكور أستادارًا عوضًا عن السالمي مضافًا لما بيده من وظيفتي نظر الجيش والخاص. ثم في خامس شعبان برز الأمراء المعينون للسفر لقتال تيمور بمن عين معهم من المماليك السلطانية وأجناد الحلقة إلى ظاهر القاهرة وهم الذين كانوا بالقاهرة في غيبة السلطان بدمشق وتقدم الجميع الأمير تمراز الناصري الظاهري أمير مجلس والأمير آقباي من حسن شاه الظاهري حاجب الحجاب ومن أمراء الطبلخانات: الأمير جرباش الشيخي والأمير تمان تمر والأمير صوماي الحسني وامتنع الأمير جكم من السفر. وفي اليوم قدم الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس فارًا من أسر تيمور إلى الديار المصرية وأخبر برحيل تيمور إلى بلاده فرسم السلطان بإبطال السفر ورجع كل أمير إلى داره من خارج القاهرة. ثم في الغد قدم دقماق المحمدي نائب حماة فارًا أيضًا من تيمور. وفيه طلب الوالد وخلع عليه باستقراره في نيابة دمشق ثانيًا على كره منه وكانت شاغرة في ثم أخلع على الأمير شيخ المحمودي بآستقراره في نيابة طرابلس على عادته وعلى الأمير دقماق المحمدي باستقراره في نيابة حماة على عادته. ثم أخلع السلطان على الأمير تمربغا المنجكي باستقراره في نيابة صفد وعلى الأمير تنكز بغا الحططي بنيابة بعلبك. ثم نودي بالقاهرة ألا يقيم بها أحد من الأعاجم وأمهلوا ثلاثة أيام وهدد من تخلف منهم بالقاهرة فلم يخرج أحد وأكثر الناس من الكتابة في الحيطان: لا من نصرة الإسلام قتل الأعجام كل ذلك وأحوال مصر غير مستقيمة. وأما
فحصل بها جراد عظيم بعد خروج تمرلنك منها فزادت خرابًا على خراب. قلت: ولنذكر هنا نبذة يسيرة من أخبار تيمورلنك ونسبه وكثرة عساكره وعظم دهائه ومكره ليكون ناظر هذا الكتاب على علم من أخباره وأحواله وإن كان في ذلك نوع تطويل وخروج عن المقصود فهو لا يخلو من فائدة. فنقول: هو تمرلنك وقيل تيمور - كلاهما بمعنى واحد والثاني أفصح وهو باللغة التركية الحديد - بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان المغلي الأصل من طائفة جغتاي الطاغية تيمور كوركان أعني باللغة العجمية صهر الملوك. مولده سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بقرية تسمى خواجا أبغار من عمل كش أحد مدائن ما وراء النهر وبعد هذه البلدة عن مدينة سمرقند يوم واحد ويقال: إنه رئي ليلة ولد كأن شيئًا يشبه الخوفة تراءى طائرًا في جو السماء ثم وقع إلى الأرض في فضاء كبير فتطاير منه جمر وشرر حتى ملأ الأرض. وقيل: إنه لما خرج من بطن أمه وجدت كفاه مملوءتين دمًا فوجدوا أنه تسفك على يديه الدماء. قلت: وكذا وقع. وقيل: إن والده كان إسكافًا. وقيل: بل كان أميرًا عند السلطان حسين صاحب مدينة بلخ وكان أحد أركان دولته وإن أمه من ذرية جنكزخان. وقيل: كان للسلطان حسين المذكور أربعة وزراء فكان أبو تيمور أحدهم وولي تيمور بعد موته مكانه عند السلطان حسين. وأصل تيمور من قبيلة برلاص. وقيل: إن أول ما عرف من حال تيمور أنه كان يتحرم فسرق في بعض الليالي غنمة وحملها ليهرب بها فآنتبه الراعي وضربه بسهم فأصاب كتفه ثم ردفه بآخر فلم يصبه ثم بآخر فأصاب فخذه وعمل فيه الجرح الثاني الذي في فخذه حتى عرج منه ولهذا سمي تمرلنك لأن " لنك " ولما تعافى أخذ في التحرم على عادته وقطع الطريق وصحبه في تحرمه جماعة عدتهم أربعون رجلًا. وكان تيمور لنك يقول لهم في تلك الأيام: لا بد أن أملك الأرض وأقتل ملوك الدنيا فيسخر منه بعضهم ويصدقه البعض لما يرونه من شدة حزمه وشجاعته. وقيل إنه تاه في بعض تحرماته مدة أيام إلى أن وقع على خيل السلطان حسين المقدم ذكره فأنزله الجشاري الخيل عنده وعطف عليه وآواه وأتى إليه بما يحتاجه من طعام وشراب. وكان لتيمور معرفة تامة في جياد الخيل فأعجب الجشاري منه ذلك فاستمر به عنده إلى أن أرسل معه بخيول إلى السلطان حسين وعرفه به فأنعم عليه وأعاده إلى الجشاري فلم يزل عنده حتى مات فولاه السلطان حسين عوضه على جشاره. ولا زال يترقى بعد ذلك من وظيفة إلى أخرى حتى عظم وصار من جملة الأمراء. وتزوج بأخت السلطان حسين وأقام معها مدة إلى أن وقع بينهما في بعض الأيام كلام فعايرته بما كان عليه من سوء الحال فقتلها وخرج هاربًا وأظهر العصيان على السلطان حسين واستفحل أمره واستولى على ما وراء النهر وتزوج ببنات ملوكها فعند ذلك لقب " بكور كان " وقد تقدم الكلام على اسم كور كان. ولا زال أمره ينمو وأعماله تتسع إلى أن. خافه السلطان حسين وعزم على قتاله وبلغه ذلك فخرج هاربًا. ثم قوي أمره بعد سنة ستين وسبعمائة. فلما كثر عسكره بعث إلى ولاة بلخشان وكانا أخوين قد ملكا بعد موت أبيهما يدعوهما إلى طاعته فأجاباه وكانت المغل قد نهضت من جهة الشرق على السلطان حسين وكان كبيرهم الخان قمر الدين فتوجه السلطان حسين إليهم وقاتلهم فأرسل تيمور يدعوهم إليه فأجابوه ودخلوا تحت طاعته فقويت بهم شوكته. ثم قصده السلطان حسين ثانيًا في عسكر عظيم حتى وصل إلى ضاغلغا وهو موضع ضيق يسير الراكب فيه ساعة وفي وسطه باب إذا أغلق وأحمي لا يقدر عليه أحد وحوله جبال عالية فملك العسكر فم هذا الدربند من جهة سمرقند ووقف تيمور بمن معه على الطريق الآخر وفي ظن العسكر أنهم حصروه وضيقوا عليه فتركهم ومضى في طريق مجهولة. فسار ليلة في أوعار مشقة حتى أدركهم في السحر وقد شرعوا في تحميل أثقالهم أبناء على أن تيمور قد انهزم وهرب خوفًا منهم. فأخذ تيمور يكيدهم بأن نزل هو ومن معه عن خيولهم أو تركوها ترعى في تلك المروج وناموا كأنهم من جملة العسكر فمرت بهم خيولهم وهم يظنون أنهم منهم وقد قصدوا الراحة. فلما تكامل مرور العسكر ركب تيمور بمن معه أقفيتهم وهم يصيحون وأيديهم تدقهم دقًا بالسيوف فاختبط الناس وانهزم السلطان حسين بمن معه لا يلوي أحد على أحد حتى وصل إلى بلخ فاحتاط تمرلنك على ما كان معه ولم من بقي من العسكر عليه فعظم جمعه وكثر ماله واستولى على الممالك ولا زال حتى قبض على السلطان حسين بعد أن أمنه وقتله فهذا أول عظمته. والثانية واقعته مع تقتمش خان ملك التتار فإنه لما واقعه بأطراف تركستان قريبًا من نهر خجند واشتد الحرب بينهما وكثرت القتلى في عسكر تيمور حتى كادت تفنى وعزم تيمور على الهزيمة فإذا هو بالمعتقد السيد الشريف بركة قد أقبل على تيمور فقال له تيمور وقد جهده البلاء: " يا سيدي جيشي انكسر " فقال له السيد الشريف بركة المذكور: " لا تخف " ثم نزل عن فرسه وتناول كفًا من الحصى ثم ركب فرسه ورمى بها في وجوه جيش تقتمش وصرخ قائلًا بأعلى صوته " ياغي قجتي " - يعني باللغة التركية: العدو هرب - فصرخ بها أيضًا تيمور كمقالة الشريف بركة فامتلأت آذان التمرية بصرختهما وأتوه بأجمعهم بعدما كانوا ولوا هاربين. فكربهم تيمور ثانيًا في عسكر تقتمش وما منهم أحد إلا وهو يصرخ " ياغي قجتي " فانهزم عند ذلك عسكر تقتمش خان وركبت التمرية أقفيتهم وغنموا منهم من الأموال ما لا يدخل تحت حصر فاستولى على غالب بلاد تقتمش خان. والثالثة واقعته مع شيرة علي صاحب مازندران وكيلان وبلاد الري والعراق وكسره وقبض عليه وقتله وملك جميع بلاده. ثم قصته مع شاه شجاع صاحب شيراز وتزوج بنت شاه شجاع لابن تيمور ومهادنة شاه شجاع له إلى أن مات شاه شجاع واختلفت أولاده وقوي شاه منصور على اخوته فمشى عليه تيمور هذا فلقيه شاه منصور في ألفي فارس لا غير. وشاه منصور هذا هو أفرس من قاتل تيمور من الملوك بلا مدافعة فإنه برز إليه في ألفي فارس وعساكر تيمور نحو المائة ألف. وعندما برز له شاه منصور فر من عسكره أمير يقال له محمد بن أمين الدين إلى تيمور بأكثر العساكر فبقي شاه منصور في أقل من ألف فارس فقاتل بهم تيمور يومه إلى الليل. ثم مضى كل من الفريقين إلى معسكره فركب شاه منصور في الليل وبيت التمرية فقتل منهم نحو العشرة آلاف فارس. ثم انتخب شاه منصور من فرسانه خمسمائة فارس فأصبح وقاتل بهم من الغد وقصد بهم تيمور حتى أزاله عن موقفه وهرب تيمور واختفى بين حرمه فأحاط بهم التمرية مع كثرة عددهم وهو يقاتلهم حتى كلت يداه وقتلت أبطاله فانفرد عن أصحابه وألقى نفسه بين القتلى فضربه بعض التمرية فقتله وأتى برأسه إلى تيمور فقتل تيمور قاتله أسفًا عليه. واستولى تيمور أيضًا على جميع ممالك العجم بأسرها بعد شاه منصور. هذا وقد استوعبنا واقعة شاه منصور بأوسع من ذلك في تاريخنا المنهل الصافي إذ هو كتاب تراجم. ثم أخذ تيمور في الاستيلاء على مملكة بعد مملكة حتى ملك العراقين وهرب منه السلطان أحمد بن أويس وأخرب غالب العراق: مثل بغداد والبصرة والكوفة وأعمالهم ثم ملك غالب أقاليم ديار بكر وأخرب بها أيضًا عدة بلاد. ثم قصد البلاد الشامية في سنة ثمان وتسعين وسبعمائة ثم رجع خائفًا من الملك الظاهر برقوق إلى بلاده فبلغه موت فيروز شاه ملك الهند عن غير ولد و أن أمر الناس بمدينة دلي في اختلاف وأنه جلس على تخت الملك بدلي وزير يقال له ملو فخالف عليه أخو فيروز شاه واسمه سارنك خان متولي مدينة مولتان فلما سمع تيمور هذا الخبر اغتنم الفرصة وسار من سمرقند في ذي الحجة سنة ثمانمائة إلى مولتان وحاصر ملكها سارنك خان ستة أشهر وكان في عسكر سارنك خان ثمانمائة فيل حتى ملكها. ثم سار تيمور إلى مدينة دلي وهي تخت الملك فخرج لقتاله صاحبها ملو المذكور وبين يديه عساكره ومعهم الفيلة وقد جعل على كل فيل برجًا فيه عدة من المقاتلة وقد ألبست تلك الفيلة العدد والبركستوانات وعلق عليها من الأجراس والقلاقل ما يهول صوته ليجفل بذلك خيول الجغتاي وشدوا في خراطيمها عدة من السيوف المرهفة وسارت عساكر الهند من وراء الفيلة لتنفر هذه الفيلة خيول التمرية بما عليها فكادهم تيمور وحسب حسابهم بأن عمل آلافًا من الشوكات الحديد مثلثة الأطراف ونثرها في مجالات الفيلة وجعل على خمسمائة جمل أحمال قصب محشوة بالفتائل المغموسة بالدهن وقدمها أمام عسكره فلما تراءى الجمعان وزحف الفريقان للحرب أضرم تيمور في تلك الأحمال النار وساقها على الفيلة. فركضت تلك الأباعر من شدة حرارة النار ثم نخسها سواقوها من خلف. هذا وقد أكمن تيمور كمينًا من عسكره. ثم زحف بعسكره قليلًا وقت السحر. فعندما تناوش القوم القتال لوى تيمور رأس فرسه راجعًا يوهم القوم أنه قد انهزم منهم ويكف عن طريق الفيلة كأن خيوله قد جفلت منها وقصد المواضع التي نثر فيها تلك الشوكات الحديد التي صنعها فمشت حيلته على الهنود ومشوا بالفيلة وهم يسوقونها خلفه أشد السوق حتى داست على تلك الشوكات الحديد فلما وطئتها نكصت على أعقابها. ثم التف تيمور بعساكره عليها بتلك الجمال وقد عظم لهيبها على ظهورها وتطاير شررها في تلك الآفاق وشنع زعاقها من شدة النخس في أدبارها. فلما رأت الفيلة ذلك جفلت وكرت راجعة على العسكر الهندي فأحست بخشونة الشوكات التي طرحها تيمور في طريقها فبركت وصارت في الطريق كالجبال مطروحة على الأرض لا تستطيع الحركة وسالت أنهار من دمائها فخرج عند ذلك الكمين من عسكر تيمور من جنبي عسكر الهنود ثم حطم تيمور بمن معه فتراجعت الهنود وتراموا بالسهام. ثم إنهم تضايقوا وتقاتلوا بالرماح ثم بالسيوف والأطبار. وصبر كل من الفريقين زمانًا طويلًا إلى أن كانت الكسرة على الهنود بعد ما قتل أعيانهم وأبطالهم وانهزم باقيهم بعد أن ملوا من القتال. فركب تيمور أقفيتهم حتى نزل مدينة دلي وحصرها وأخذها بعد مدة عنوة. وآستولى على تخت ملكها واستصفى ذخائرها وفعلت عساكره فيها على عادتهم القبيحة من الأسر والسبي والقتل والنهب والتخريب. وبينما هم في ذلك بلغ تيمور موت الملك الظاهر برقوق صاحب مصر وموت القاضي برهان الدين أحمد صاحب سيواس من بلاد الروم فرأى تيمور أنه بعد موتهما ظفر بمملكتيهما وكاد أن يطير بموتهما فرحًا فنجز أمره وولى مسرعًا بعد أن استناب بالهند من يثق به من أمرائه وسار حتى وصل سمرقند ثم خرج منها عجلًا في أوائل سنة اثنتين وثمانمائة فنزل خراسان. ثم مضى منها إلى تبريز فاستخلف بها آبنه ميران شاه. ثم سار حتى نزل قراباغ في شهر ربيع الأول فقتل وسبى. ثم رحل منها ونزل تفليس في جمادى الآخرة وعبر بلاد الكرج وأسرف فيها أيضًا في القتل والسبي. ثم قصد بغداد ففر منه السلطان أحمد بن أويس إلى قرا يوسف فعاد تيمور من بغداد وصيف ببلاد التركمان. ثم سار إلى سيواس وقد أخذها الأمير سليمان بن أبي يزيد بن عثمان فحصرها تيمور ثمانية عشر يومًا حتى أخذها في خامس المحرم من سنة ثلاث وثمانمائة وقبض على مقاتلتها وهم ثلاثة آلاف نفر فحفر لهم سردابًا وألقاهم فيه وطمهم بالتراب بعد ما كان حلف لهم ألا يريق لهم دمًا وقال: أنا على يميني ما أرقت لهم دمًا. ثم وضع السيف في أهل البلد وأخربها حتى محا رسومها. ثم سار إلى بهسنا فنهب ضواحيها وحصر قلعتها ثلاثة وعشرين يومًا حتى أخذها. ومضى إلى ملطية فدكها دكًا. وسار حتى نزل قلعة الروم فلم يقدر عليها فتركها وقصد عين تاب ففر منه نائبها الأمير أركماس الظاهري وهو غير أركماس الدوادار في الدولة الأشرفية. ثم قصد حلب ووقع له بها وبدمشق ما تقدم ذكره إلى أن خرج من البلاد الشامية. وكان رحيله عن دمشق في يوم السبت ثالث شعبان من سنة ثلاث وثمانمائة المذكورة واجتاز على حلب وفعل بها ما قدر عليه ثانيًا ثم سار منها حتى نزل على ماردين يوم الاثنين عاشر شهر رمضان من السنة ووقع له بها أمور ثم رحل عنها. وأوهم أنه يريد سمرقند يوري بذلك عن بغداد وكان السلطان أحمد بن أويس قد استناب ببغداد أميرًا يقال له فرج وتوجه هو وقرا يوسف نحو بلاد الروم فندب تيمور على حين غفلة أمير زاده رستم ومعه عشرون ألفًا لأخذ بغداد. ثم تبعه بمن بقي معه ونزل على بغداد وحصرها حتى أخذها عنوة في يوم عيد النحر من السنة ووضع السيف في أهل بغداد. حدثني الأمير أسنباي الزردكاش الظاهري برقوق - وكان أسر عند تيمور وحظي عنده وجعله زردكاشه عند أخذ بغداد وحصارها - بأشياء مهولة منها أنه لما آستولى على بغداد ألزم جميع من معه أن يأتيه كل واحد منهم برأسين من رؤوس أهل بغداد فوقع القتل في أهل بغداد وأعمالها حتى سالت الدماء أنهارًا حتى أتوه بما أراد فبنى من هذه الرؤوس مائة وعشرين مئذنة. فكانت عدة من قتل في هذا اليوم من أهل بغداد تقريبًا مائة ألف إنسان - وقال المقريزي: تسعين ألف إنسان - وهذا سوى من قتل في أيام الحصار وسوى من قتل في يوم دخول تيمور إلى بغداد وسوى من ألقى نفسه في الدجلة فغرق وهو أكثر من ذلك. قال: وكان الرجل المرسوم له بإحضار رأسين إذا عجز عن رأس رجل قطع رأس امرأة من النساء وأزال شعرها وأحضرها قال: وكان بعضهم يقف بالطرقات ويصطاد من مر به ويقطع رأسه. ثم رحل تيمور عن بغداد وسار حتى نزل قراباغ بعد أن جعلها دكًا خرابًا ثم كتب إلى أبي يزيد بن عثمان صاحب الروم أن يخرج السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلا قصده وأنزل به ما نزل بغيره. فرد أبو يزيد جوابه بلفظ خشن إلى الغاية فسار تيمور إلى نحوه. فجمع أبو يزيد بن عثمان عساكره من المسلمين والنصارى وطوائف التتر. فلما تكامل جيشه سار لحربه فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع أبي يزيد بن عثمان يقول لهم: نحن جنس واحد وهؤلاء تركمان ندفعهم من بيننا ويكون لكم الروم عوضهم. فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه. وسار أبو يزيد بن عثمان بعساكره على أنه يلقى تيمور خارج سيواس ويرده عن عبور أرض الروم. فسلك تيمور غير الطريق ومشى في أرض غير مسلوكة ودخل بلاد ابن عثمان ونزل بأرض مخصبة وسيعة. فلم يشعر ابن عثمان إلا وقد نهبت بلاده فقامت قيامته وكر راجعًا وقد بلغ منه ومن عسكره التعب مبلغًا أوهن قواهم وكلت خيولهم ونزل على غير ماء فكادت عساكره أن تهلك فلما تدانوا للحرب كان أول بلاء نزل بابن عثمان مخامرة التتار بأسرها عليه فضعف بذلك عسكره لأنهم كانوا معظم عسكره ثم تلاهم ولده سليمان ورجع عن أبيه عائدًا إلى مدينة برصا بباقي عسكره فلم يبق مع أبي يزيد إلا نحو خمسة آلاف فارس فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمور وصدمهم صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم. وآستمر القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر فكفت عساكر آبن عثمان وتكاثروا التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلتهم وكثرة التمرية فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية إلى أن صرع منهم أكثر أبطالهم وأخذ أبو يزيد بن عثمان أسيرًا قبضًا باليد على نحو ميل من مدينة أنقرة في يوم الأربعاء سابع عشرين ذي الحجة سنة أربع وثمانمائة بعد أن قتل غالب عسكره بالعطش فإن الوقت كان ثامن عشرين أبيب بالقبطي وهو تموز بالرومي. وصار تيمور يوقف بين يديه في كل يوم ابن عثمان طلبًا ويسخر منه وينكيه بالكلام. وجلس تيمور مرة لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب ابن عثمان طلبًا مزعجًا فحضر وهو يرسف في قيوده وهو يرجف فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه ثم وقف تيمور وسقاه من يد جواريه اللاتي أسرهن تيمور ثم أعاده إلى محبسه. ثم قدم على تيمور إسبندار أحد ملوك الروم بتقادم جليلة فقبلها وأكرمه ورده إلى مملكته. هذا وعساكر تيمور تفعل في بلاد الروم وأهلها تلك الأفعال المقدم ذكرها. وأما أمر سليمان بن أبي يزيد بن عثمان فإنه جمع المال الذي كان بمدينة برصا وجميع ما كان فيها ورحل إلى أدرنة وتلاحق به الناس وصالح أهل إستانبول. فبعث تيمور فرقة كبيرة من عساكره صحبة الأمير شيخ نور الدين إلى برصا فأخذوا ما وجدوا بها ثم تبعهم هو أيضًا بعساكره. ثم أفرج تيمور عن محمد وعلي أولاد ابن قرمان من حبس أبي يزيد بن عثمان وخلع عليهما وولاهما بلادهما وألزم كل واحد منهما بإقامة الخطبة وضرب السكة باسمه واسم السلطان ثم شتا في معاملة منتشا وعمل الحيلة في قتل التتار الذين أتوه من عسكر ابن عثمان حتى أفناهم عن آخرهم. وأما أبو يزيد بن عثمان فإنه استمر في أسر تيمور من ذي الحجة سنة أربع إلى أن مات بكربته وقيوده في أيام من ذي القعدة سنة خمس وثمانمائة بعد أن حكم ممالك الروم نحو تسع سنين. وكان من أجل الملوك حزمًا وعزمًا وشجاعة رحمه الله تعالى. وهو المعروف بيلدرم بايزيد. ثم رجع تيمور من بلاد الروم وقد تعلقت آماله بأخذ بلاد الصين فأخذه الله قبل أن يصل ولولا خشية الإطالة لذكرنا أمره وما وقع له بطريق الصين إلى أن توفي لعنه الله ولكن أضربنا عن ذلك خشية الإطالة وأيضًا قد ذكرناه في تاريخنا " المنهل الصافي " مستوفاة فلينظر هناك. وكانت وفاة تيمور في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانماثة وهو نازل بالقرب من أترار وأترار بالقرب من آهنكران ومعنى آهنكران باللغة العربية الحدادون. ولما مات لبسوا عليه المسوح ولم يكن معه أحد من أولاده سوى حفيده سلطان خليل بن ميران شاه بن تيمور فتسلطن موضع جده تيمور في حياة والده ميران شاه المذكور. فاستولى خليل المذكور على خزائن جده وبذل الأموال وتم أمره. انتهى ما أوردناه من قصة تيمورلنك على سبيل الاختصار. ولما كان يوم الأحد أول شوال أفرج السلطان عن الأمير يلبغا السالمي وهو متضغف بعد ما عصر وأهين إهانة بالغة. وفي هذه الأيام كثر آحتراز الأمراء بعضهم من بعض وتحدث الناس بإثارة فتنة. ثم في سابع شوال المذكور استقر الأمير طولو من على باشاه الظاهري في نيابة إسكندرية عوضًا عن الأمير أرسطاي واستقر الأمير بشباي من باكي الظاهري حاجبًا ثانيًا على خبز سودون الطيار إمرة طبلخاناه واستقر كل من سودون الطيار وألطنبغا من سيدي حجابًا بحلب لأمر اقتضى ذلك. ثم استدعى السلطان الأمراء بقلعة الجبل وقال لهم: " قد كتبنا مناشير جماعة من الخاصكية بأمريات ببلاد الشام من أول شهر رمضان فلم لا يسافرون " وكل ذلك بتعليم يشبك الدوادار. فقال الأمير نوروز الحافظي: " ما في هذا مصلحة! إذا أرسل السلطان هؤلاء من يبقى عنده من مماليك أبيه الأعيان " ووافق نوروزًا سودون المارداني. فقال السلطان: " من رد مرسومي فهو عدوي " فسكت الأمراء. وأمر السلطان بالمناشير أن تبعث إلى أربابها. فلما نزلت إليهم امتنعوا من السفر ومنهم من رد منشوره فغضب السلطان. وأصبح الجماعة يوم الأحد وقد اتفقوا مع لأمراء وساروا للأمير نوروز الحافظي وتحدثوا معه في عدم سفرهم فاعتذر إليهم وبعثهم لسودون المارداني رأس نوبة النوب فحدثوه في ذلك وما زالوا به حتى ركب للأمير يشبك الشعباني الدوادار وحدثه في ألا يسافروا فأغلظ يشبك في رد الجواب عليه وهددهم بالتوسيط إن امتنعوا من السفر. ثم أمره أن يطلع إلى السلطان ويسأله في ذلك فطلع سودون المارداني إلى السلطان وسأله في إعفائهم من السفر وأعلمه أنه قد آتفق منهم نحو الألف تحت القلعة وهم مجتمعون فبعث السلطان إليهم بعض الخاصكية يقول لهم: " نحن ما خليناكم بلا رزق بل عملناكم أمراء ". فما هو إلا أن نزل إليهم وكلمهم في ذلك ثاروا عليه وسبوه ثم ضربوه حتى كاد يهلك. وبينما هم في ضربه وإذا بالأمير قطلوبغا الحسني الكركي والأمير آقباي الكركي الخازندار نزلا من القلعة فمال عليهم المماليك يضربونهم بالدبابيس إلى أن سقط قطفوبغا الكركي وتكاثر عليه مماليكه وحملوه إلى بيته ونجا آقباي الكركي الخازندار والتجأ إلى بيت الأمير يشبك الدوادار. وماجت البلد وغلقت الأسواق فنودي بعد العصر من اليوم المذكور بطلوع الأمراء والمماليك السلطانية في الغد إلى القلعة ومن لم يطلع حل ماله ودمه للسلطان. ثم طلع الآمير يشبك ونوروز الحافظي وآقباي الكركي الخازندار وقطلوبغا الكركي إلى القلعة بعد عشاء الآخرة وباتوا بالقلعة إلا نوروزًا فإنه أقام معهم ساعة عند السلطان ثم نزل إلى وأصبحوا يوم الاثنين تاسع شوال فطلع جميع الأمراء والمماليك إلا الأمير جكم من عوض وسودون الطيار وقاني باي العلائي وقرقماس الأينالي وجمق وتمربغا المشطوب في عدة من المماليك السلطانية الأعيان منهم يشبك العثماني وقمج وبرسبغا وطرباي وبقية خمسمائة مملوك والجميع لبسوا السلاح وآلة الحرب ووقفوا تحت القلعة حتى تضحى النهار. ثم مضوا إلى بركة الحبش ونزلوا عليها. وأما أهل القلعة فإن يشبك بعث في الحال نقيب الجيش إلى الشيخ لاجين الجركسي أحد الأجناد فقبض عليه وحمله إلى بيت آقباي حاجب الحجاب فوكل به آقباي من أخرجه من القاهرة إلى بلبيس ليسافر إلى الشام. ثم قبض على سودون الفقيه أحد دعاة الشيخ لاجين وأخرج إلى الإسكندرية فسجن بها. واستمر الأمير جكم ورفقته ببركة الحبش إلى ليلة الأربعاء فاستدعى الأمير يشبك سائر الأمراء فلما صاروا بالقلعة وكل بهم من يحفظهم فآستمروا على ذلك حتى مضى جانب من الليل. ثم نزل الطلب إلى الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير من السلطان ليطلع إلى عند الأمراء وفي عزمهم أنه إذا طلع قبضوا عليه فنم لسودون طاز بعض الخاصكية يسمى قاني باي وقال له: " فز بنفسك " فلم يكذب سودون طاز الخبر وأخذ الخيول السلطانية التي بالإسطبل السلطاني وركب بمماليكه وسار حتى لحق بالأمير جكم ببركة الحبش. وبلغ السلطان ذلك فارتج القصر السلطاني وقام كل أمير ونزل إلى داره ولبس آلة الحرب بمماليكه ودقت الكوسات وطلعوا إلى القلعة. فلما أصبح نهار الأربعاء نزل السلطان من القصر إلى الإسطبل وبعث إلى الأمير جكم من عوض بأن يتوجه إلى صفد نائبًا بها فرد جكم الجواب: " نحن مماليك السلطان وهو أستاذنا وابن أستاذنا ولو أراد قتلنا ما خالفناه غير أننا لنا غرماء يدعنا نحن وإياهم ثم بعد ذلك مهما أراد السلطان يفعل فينا فنحن بين يديه ". فلما عاد الرسول بذلك بكى الأمير يشبك الدوادار وتكلم هو والأمير آقباي الكركي الخازندار وقطلوبغا الكركي مع السلطان ودار بينهم الكلام الكثير حتى بعث السلطان بالأمير نوروز الحافظي والقاضي الشافعي وناصر الدين المعلم الرماح أمير آخور إلى الأمير جكم في طلب الصلح. فنزلوا إليه وكلموه في ذلك فامتنع جكم من الصلح هو ومن معه وقالوا: " لا بد لنا من غرمائنا " وأخذوا عندهم الأمير نوروز الحافظي وعاد القاضي الشافعي وناصر الدين الرماح بالجواب فعند ذلك قال السلطان ليشبك: " دونك وغرماءك " فطلب يشبك المساعدة من السلطان عليهم فلم يفعل فنزل يشبك إلى داره وقد ثم عاد إلى القلعة ليطلع إلى السلطان فلم يمكن منها وتخلى عنه المماليك السلطانية فلم تكن إلا ساعة حتى أقبل جكم وسودون طاز ونوروز في عددهم وأصحابهم وصاحب الموكب نوروز وجكم عن يساره وسودون طاز عن يمينه وساروا نحو يشبك فنادى يشبك: من قاتل معي من المماليك السلطانية فله عشرة آلاف درهم فأتاه طائفة. وخرج من بيته وصف عساكره. فحمل عليه نوروز بمن معه وصدمه صدمة واحدة كسره فيها فانهزم إلى داره وقاتل بها ساعة ثم هرب منها فنهبت داره ودار قطلوبغا الكركي. وكان بيت يشبك دار منجك اليوسفي الملاصقة لمدرسة السلطان حسن وهي الآن على ملك تمربغا الظاهري الدوادار ودار قطلوبغا الكركي البيت الذي تجاهه وقبض على آقباي الكركي الخازندار فشفع فيه السلطان فترك في داره إلى يوم الخميس ثاني عشره فركب الأمير جكم إليه وأخذه وطلع به إلى الإسطبل السلطاني وقيده.
|