الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
وتوفي الأمير الوزير المشير بدر الدين حسن بن محب الدين عبد الله الطرابلسي تحت العقوبة في سابع عشر جماد الآخر بدمشق بأمر الأمير الكبير ططر. وكان أبو بدر الدين هذا من مسالمة نصارى طرابلس وبها ولد بدر الدين هذا ونشأ وتعاني قلم الديونة وتولى شد الدواوين بها ثم غير زيه وولي كابة سر طرابلس ثم تعلق بخدمة الملك المؤيد شيخ المحودي لما ولي نيابة طرابلس وعمل أستاداره وغير زيه ولبس زي الأمراء ودام في خدمته إلى تسلطن وولاه الأستادارية ثم الوزر ثم نيابة الإسكندرية ثم الكشف بالوجه القبلي ثم أعيد إلى الأستادارية ثم أمسكه وصادره وعاقبه. قال المقريزي: وكان يكتب الخط المنسوب ويتظاهر بالمعاصي وينوع الظلم في أخذ الأموال فعاقبه الله بيد ناصره الملك المؤيد شيخ أشد عقوبة ثم قبض عليه ططر وصادره وعاقبه حتى هلك تحت الضرب وعاقبه ميتًا فأراح الله منه عباده. وتوفي قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقني الشافعي قاضي الديار المصرية وعالمها في ليله الخميس حادي عشر شوال عن ثلاث وستين سنة بعد مرض طويل تمادى به في دمشق لما كان مسافرًا صحبة السلطان إلى مصر وصلي عليه بالجامع الحاكمي وأعيد إلى حارة بهاء الدين ودفن على أبيه بمدرسته التي أنشأها تجاه داره وهو صهري زوج كريمتي والذي تولى تربيتي رحمه الله تعالى. ومات ولم يخلف بعده مثله في كثرة علومه وعفته عما يرمى به قضاة السوء. وكان مولده بالقاهرة في جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبعمائة وهكذا سمعته من لفظه غير مرة وأمه بنت قاضي القضاة بهاء الدين بن عقيل الشافعي النحوي. ونشأ بالقاهرة وحفظ القرآن العزيز وعدة متون وتفقه بوالده وبغيره إلى أن برع في الفقه والأصول والعربية والتفسير وعلمي المعاني والبيان وأفتى ودرس في حياة والده وولي قضاء العسكر بالديار المصرية ثم ولي قضاء القضاة بها في إحدى الجمادتين من سنة أربع وثمانمائة في حياة والده عوضًا عن قاضي القضاة ناصر الدين محمد الصالحي وذلك أول ولايته وعزل ثم ولي غير مرة حررنا ذلك في تاريخنا المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي. وكانت جنازته مشهورة إلى الغاية وحمل نعشه على رؤوس الأصابع وكان ذكيًا مستحضرًا عارفًا بالفقه ودقائقه مستقيم الذهن جيد التصور حافظًا فصيحًا بليغًا جهوري الصوت مليح الشكل للطول أقرب أبيض مشربًا بحمرة صغير اللحية مدورها منور الشيبة جميلًا وسيمًا دينًا عفيفًا مهابًا جليلًا معظمًا عند الملوك والسلاطين حلو المحاضرة رقيق القلب سريع الدمعة. على أنه كان فيه بادرة وحدة مزاج غير أنها كانت تزول عنه بسرعة ويأتي بعد ذلك من محاسنه ماينسى معه كل شيء. وكان محببًا للرعية متجملًا في ملبسه ومركبه. ومدحه خلائق من العلماء والشعراء. أنشدني قاضي القضاة جلال الدين أبو السعادات محمد بن ظهيرة قاضي مكة وعالمها من لفظه لنفسه بمكة المشرفة مديحًا في قاضي القضاة جلال الدين المذكور في سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة قال رحمه الله: الطويل هنيئًا لكم يا أهل مصر جلالكم ** عزيز فكم من شبهة قد جلا لكم ولولا اتقاء الله جل جلاله ** لقلت لفرط الحب جل جــــلالكم وتوفي السلطان غياث الدين محمد المعروف بكرشجي بن يزيد بن مراد بن أرخان بن عثمان متملك بلاد الروم في شهر رجب وملك بعده ابنه مراد بك صاحب الفتوحات والغزوات المشهورة الآتي ذكره في محله. وتفسير كرشجي أي صاحب الوترة لأن كرش باللغة التركية هو الوتر الذي يوتر به القوس وكان قبل سلطنته خنق بوتر ثم أطلق فسمي بذلك. وهو بكسر الكاف والراء المهملة وسكون الشين المعجمة وكسر الجيم. وفيها قتل الأمير علاء الدين ألطنبغا من عبد الواحد الظاهري المعروف بالصغير رأس نوبة النوب ثم نائب حلب بعد انهزامه من حلب في واقعة كانت بينه وبين التركمان في تاسع شعبان. وكان أصله من مماليك الطاهر برقوق وصار خاصكيًا في دولة الناصر فرج ثم ترقى في الدولة المؤيدية شيخ إلى أن صار أمير مائة ومقدم ألف ثم رأس نوبة النوب ثم أخرجه الملك المؤيد شيخ إلى البلاد الشامية مجردًا لصحبة الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي فلما قتل يشبك نائب حلب المقدم ذكره ولاه القرمشي نيابة حلب فدام بها إلى أن قبض الأمير ططر على القرمشي فخرج هو عن الطاعة ووقع له ما حكيناه إلى أن قتل. وكان أميرًا جليلًا مليح الشكل لين الجانب كريمًا شجاعًا محببًا للناس. رحمه الله تعالى. وفيها قتل الأمير سيف الدين قجقار بن عبد الله القردمي أمير سلاح بثغر الإسكندرية في سادس عشرين شعبان بأمر الأمير ططر وكان أصله من مماليك الأمير قَردم الحسني رأس نوبة النُّوَب في دولة الملك الظاهر بَرْقُوق ثم انضم على الملك المؤّيد شيخ وهو من جُملة أمراء العشرات ولا زال معه إلى أن تسلطن فعند ذلك رقَاه الملك المؤّيد إلى أن ولاه إمْرَة سلاح ثم نيابة حَلَب مُدة يسيرة ثم عزله وأعاده إلى وظيفته إلى أن مات المؤيّد وجعله من جُمْلة أوصيائه على وَلدِه فقبضَ عليه الأميرُ طَطَر وحبسه بثغر الإِسكندرية إلى أن قتله بها. وكان فيَ الجنس قصيرًا بطينًا له شعرات بحنكه كبير الوَجْه مشهورًا بالشَجَاعة والإقدام مع الكرم والتجمُل في مركبه ومماليكه وسماطه. وكان منهمكًا في اللَذَّات مسرِفًا على نفسه فكان في غالب اللَيَالي يَسْكَرُ إلى الصبَاح ويغلب عليه النَّوْم فينام عن الخدمَة السلطانية فلما يقوم من نومه يتأسَف على عدم طلوعه إلى الخدمة فيجعل نفسه مُتَوَعِّكًا فينزل إليه وجوه الدَّوْلة لعيادته فيجدونه مخمورًا لا يكاد يتكلم. فلما تكرّر منه ذلك علم السلطان والناس حاله فصار أمرُه مثلأ يقول بعضهم للآخر: كيف حال فلان. فيقول: مريض فيقول: لا يكون مثل مرض قَجْقَار القَردمي. وتداول ذلك بين الناس. وفيها قُتِلَ الأميرُ سيف الدين جَقْمَق بن عبد الله الأرْغُون شاوي الدَوَادَار ثم نائب الشام بعد عُقُوبة شديدة لأجل المال في ليلة الأربعاء سادس عشرين شعبان بعد عَوْد الأمير طَطَر مِن حَلَب. وكان أصلُ جَقْمَق هذا جاركسيّأ أخِذَ مِن بلاده والدته وهو ابن ثلاث سنين وجُلِبَا إلى مِصر فاشتراهُما بعضُ أمراء مصر فأقاما عنده مُدة يسيرةً وقُبِضَ على الأمير المذكور فاشتراهما أميرٌ آخر ثم انتقلا من مِلْكِهِ إلى مِلْكِ الأمير أَلْطُنْبُغَا الرجبي ثم ابْتَاعَهُمَا من أَلْطُنبئغَا الرَّحبيّ المذكور الأمير قردم الحسني رأس نوبة النُّوَب وأنعم بوالدته على زَوْجَتِه وأنعم بولدها جقمَق هذا على ابنه صاحبنا العلائي علي بن قَردم فاستمرا عندهما إِلى أن توُفيَ الأميرُ قَرْدم وبعده بمدَة انتقل جَقْمَق هذا إلى مِلْكِ الأمير أرْغُون شاه الظاهري أمير مجلس فأعتقه أرغون شاه وجعَلَه بخدمته إلى أن قُتِلَ في سنة اثنتين وثمانمائة فاتصل بعده بخدمة الملك المؤيد شيخ وهو من جملة الآمراء وصار عنده رأس نوبة الجَمَدارية ثم جعله دوَادَارًا ثانيًا إلى أن تسلطن الملك المؤّيد شيخ فأنعم عليه بإمرة عشرة وأرسله إلى الأمير نَوْرُوز الحافظيّ في الرسْلِية فقبض عليه نَوْرُوز وحبسه إلى أن ظَفِر المؤيد بنَوْرُوز وأطلق جَقْمَق هذا من قلعة دِمَشْق وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه وجعله دَوَادَارًا ثانيًا ثم نقله إلى الدَوَادَارية الكُبرى بعد سنين بحكم انتقال آقْبَاي المؤيديّ إلى نيابة حَلَب فباشر الدَوَادَارية بحُرْمَة وافرة ونالته السعادة إلى أن وَليَ نيابة دمَشْق بعد عَزْل الأمير تَنِبَك مِيق في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة فدام بدِمَشْق إلى أن مات الملك المؤيد شيخ فخرج عن طاعة الأمير طَطَر واتفق مع الأمير الكبير أَلْطُنْبُغَا القَرْمَشِيِّ ثم وقع بينهما خلافٌ وتحارَبَا فهُزِم جَقْمَق وتوجه إلى صَرْخَد ولا زال به حتى استقدمه طَطَر مِنْها بالأمان وقبض عليه وقتله ودُفِنَ بمدرسته التي بَنَها بدِمَشْق. وكان أميرًا عارفًا بأمور دُنْيَاه عاريًا عن العلوم والفضيلة وفنون الفروسية. وكان فصيحًا باللغة العربية وعنده مَكْرٌ وشيطنة وخديعة وانهماك في اللَذات وإسراف على نفسه مع بادرة وحدة وَسَفه ووقاحة. ورأيته غير مَرة: كان لِلقِصَر أقرب وعنده سمن مدور اللحية أسودها وعنده فصاحة في حديثه على طريق عوام مصر لا على طريق الفقهاء. انتهى.
: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة تسع عشر ذراعًا وإصبع واحد والله سلطنة الملك الأشرف برسباي السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري سلطان الديار المصرية. جلس على تخت الملك يوم خلع الملك الصالح محمد ابن الملك الظاهر ططر في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة بعد أن حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء والأمير تنبك ميق نائب الشام. وبويع بالسلطنة ولبس الخلعة الخليفتية السوداء وركب من طبقة الأشرفية بقلعة الجبل والأمراء مشاة بين يديه إلى أن نزل على باب القصر ودخل وجلس على تخت الملك وقبلت الأمراء الأرض بين يديه وخلع على الخليفة المعتضد بالله داود وعلى من له عادة بالخلع في مثل هذا اليوم. وتم أمره ونودي باسمه وسلطنته بالقاهرة ومصر من غير أن يأمر للمماليك السلطانية بنفقة كما هي عادة الملوك وهذا كان من أوائل سعد ناله فإننا لم نعلم أحدًا من الملوك التركية تسلطن ولم ينفق إلا برسباي هذا. انتهى. قلت: والأشرف هذا هو السلطان الثاني والثلاثون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية والثامن من الجراكسة وأولادهم. وأصل الملك الأشرف هذا جاركسي الجنس وجلب من البلاد فاشتراه الأمير دقماق المحمدي الظاهري نائب ملطية وأقام عنده مدة ثم قدمه إلى الملك الظاهر برقوق في عدة مماليك أخر ولتقدمته سبب وهو أن الأمير تنبك اليحياوي الأمير آخور الكبير بلغه أن الأمير دقماق آشترى أخاه من بعض التجار وكان أخوه يسمى طيبرس فوقف الأمير تيبك إلى الملك الظاهر برقوق وطلب منه أن يرسل يطلب أخاه من دقماق فرسم السلطان بذلك وكتب لدقماق مرسومًا شريفًا بإحضار طيبرس المذكور. وقبل أن يخرج القاصد إلى دقماق وقف الأمير علي باي الظاهري الخازندار صاحب الوقعة أيضًا إلى السلطان وذكر له أن أخته أيضًا عند الأمير دقماق فكتب السلطان بإحضارها أيضًا. وسار البريدي من مصر إلى دقماق بذلك فامتثل دقماق المرسوم الشريف وأراد إرسال طيبرس المذكور فقال لى دواداره: ما تريد تفعل فقال: أرسل المملوك الذي طلبه أستاذي إليه فقال دوداره: لا يمكن إرساله وحده جهز معه عدة مماليك وتقدمة هائلة وابعث بالمطلوب في ضمنها فأعجب دقماق ذلك وجهز نحو ثمانية عشر مملوكًا صحبة طيبرس المذكور من جملتهم برسباي هذا وتمراز القرمشي أمير سلاح وأشياء أخر من أنواع الفرو والقماش والخيل والجمال ثم اعتذر دقماق عن إرسال الجارية أنها حامل منه والجارية هي الست أردباي أم ولد دقماق وزوجة الأمير تمراز القرمشي أمير سلاح في دولة الملك الظاهر جقمق المتوفى سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة وتوفيت هي أيضًا بعده بأيام وكلاهما بالطاعون. فسار البريدي بالمماليك والتقدمة من ملطية إلى الديار المصرية فوصلها بعد موت الأمير تنبك اليحياوي المذكور وقد استقر عوضه في الأمير آخورية الأمير نوروز الحافظي فقبل الملك الظاهر برقوق التقدمة وفرق المماليك على الأطباق فوقع برسباي هذا بطبقة الزمامية إنيًا للأمير جاركس القاسمي المصارع وتمراز القرمشي إنيًا ليلبغا الناصري فدام برسباي بالطبقة مدة يسيرة وأعتقه السلطان وأخرج له خيلًا في عدة كبيرة من المماليك السلطانية. وسبب سياقنا لهذه الحكاية أن قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر رحمه الله نسبه أنه عتيق دقماق وليس الأمر على ما نقله وهو معذور فيما نقله لبعده عن معرفة اللغة التركية ومداخلة الأتراك وقد اشتهر أيضًا بالدقماقي فظن أنه عتيق دقماق ولم يعلم أن نسبته بالدقماقي كما أن نسبة الوالد رحمه الله بالبشبغاوي والملك المؤيد شيخ بالمحمودي ونوروز بالحافظي وجكم نائب حلب بالعوضي ودمرداش بالمحمدي وغيرهم إنما هي من باب نسبتهم إلى مالكيهم وليس إلى معتقيهم. وقد وقفت على هذه المقالة في حياته على خطه ولم أعلم أن الخط خطه فإنه كان رحمه الله يكتب ألوانًا وكتبت على حاشية الكتاب وبينت خطأه وأنا أظن أن الخط خط ابن قاضي شهبة. وعاد الكتاب إلى أن وقع في يد قاضي القضاة ابن حجر فنظر إلى خطي وعرفه واعترف بأنه وهم في ذلك. وكان صاحبنا الحافظ قطب الدين محمد الخيضري حاضرًا فذكر لي ما وقع فركبت في الحال وهو معي وتوجهنا إلى السيفي طوغان الدقماقي وهو من أكابر مماليك دقماق وسألته عن الملك الأشرف سؤال استفهام فقال: هو عتيق الملك الظاهر برقوق وقدمه أستاذنا إليه ثم حكى له ما حكيته من سبب إرساله. ثم عدنا وأرسلت أيضًا خلف جماعة من مماليك دقماق لأن أغلبهم كان خدم عند الوالد بعد موت دقماق فالجميع قالوا مثل قول طوغان الدقماقي. فتوجه قطب الدين المذكور وعرفه هذا كله فأنصف غاية الإنصاف وأصلح ما عنده. ثم ذاكرت أنا قاضي القضاة المذكور فيما بعد وعرفته أن دقماق قدمه في أوائل أمره وأن برسباي صار ساقيًا في دولة الملك المنصور عبد العزيز معدودًا من أعيان الدولة يتقاضى حوائج دقماق بالديار المصرية ثم خرج برسباي عن طاعة الملك الناصر فرج مع الأمير إينال باي بن قجماس إلى البلاد الشامية وبقي من أعيان القوم كل ذلك ودقماق في قيد الحياة بعد سنة ثمان وثمانمائة. وكان لما قدم دقماق إلى مصر نزل عند برسباي هذا وبرسباي المذكور يخاطبه تارة يا خوند وتارة يا أغاة. ثم عرفته بأن ولد دقماق الناصري محمدًا من جملة أصحابي وأن والدته الست أردباي زوجة الأمير تمراز القرمشي أمير سلاح. قلت: وعلى كل حال إن هذا الوهم هو أقرب للعقل من مقالة المقريزي في الملك الظاهر ططر إن الملك الناصر فرجًا أعتقه بعد سنة ثمان في سلطنته الثانية وأيضا أحسن مما قاله المقريزي في حق الملك الأشرف برسباي هذا بعد وفاته في تاريخه السلوك في وفيات سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وقد رأيت أن السكات عن ذكر ما قاله في حقه أليق والإضراب عنه أجمل لما وصفه به من الألفاظ الشنيعة القبيحة التي يستحى من ذكرها في حق كائن من كان. انتهى. وقد خرجنا عن المقصود ولنعد إلى ما نحن بصدده من ذكر الملك الأشرف برسباي فنقول: واستمر الملك الأشرف من جملة المماليك السلطانية إلى أن صار خاصكيًا ثم صار ساقيًا في سلطنة الملك المنصور عبد العزيز ابن الملك الظاهر برقوق ثم خرج مع الأمير إينال باي بن قجماس من الديار المصرية مباينًا للملك الناصر فرج إلى البلاد الشامية ثم انضم مع الأميرين شيخ ونوروز وتقلب معهما في أيام تلك الفتن ولا زال معهما إلى أن قتل الملك الناصر فرج وقدم إلى القاهرة صحبة الأمير الكبير شيخ المحمودي فأنعم عليه الأمير شيخ المذكور بإمرة عشرة ثم نقله إلى إمرة طبلخاناه بعد سلطنته فدام على ذلك سنين إلى أن نقله إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية ثم ولاه كشف التراب بالغربية من أعمال القاهرة إلى أن طلبه الملك المؤيد شيخ وولاه نيابة طرابلس بعد عزل الأمير بردبك قصقا الخليلي عنها وذلك في يوم الاثنين ثالث عشرين شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثمانمائة. ولما ولي نيابة طرابلس كان في خدمته جماعة من مماليك الوالد رحمه الله من جملتهم شخص يسمى سودون فطلبه أن يتوجه معه إلى طرابلس فقال سودون: أنا ما أخلي جامع طولون وأتوجه إلى طرابلس فتوجه معه خشداشاه أزدمر وجرباش. فلما تسلطن الأشرف بعد أمور نذكرها جعل أزدمر المذكور ساقيًا وندم سودون على مفارقته. انتهى. وتوجه برسباي المذكور إلى نيابة طرابلس ومعه سودون الأسندمري وقد استقر أتابك طرابلس. وأقام بطرابلس مدة إلى أن واقع التركمان الإينالية والبياضية والأوشرية على صافيتا من عمل طرابلس وكانوا حضروا إلى الناحية المذكورة جافلين من قرا يوسف وأفسدوا بالبلاد فنهاهم الأمير برسباي المذكور فلم ينتهوا فركب عليهم وقاتلهم في يوم الثلاثاء سادس عشرين شعبان من سنة إحدى وعشرين المذكورة فقتل بينهم خلق كبير منهم: الأمير سودون الأسندمري أتابك طرابلس وانهزم باقيهم عراة فغضب الملك المؤيد ورسم بعزله عن نيابة طرإبلس واعتقاله بقلعة المرقب وولى سودون القاضي نيابة طرابلس عوضه. فدام برسباي في سجن المرقب مدة إلى أن كتب الملك المؤيد بالإفراج عنه في العشرين من المحرم سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق كل ذلك بسعي الأمير ططر في أمره فاستمر بدمشق إلى أن مات الملك المؤيد. وخرج جقمق عن طاعة ططر وقبض على برسباي المذكور وسجنه بقلعة دمشق إلى أن أطلقه الأتابك ألطنبغا القرمشي. وخرج إلى ملاقاة الأمير ططر لما قدم دمشق وانضم عليه إلى أن خلع عليه ططر باستقراره دوادارًا كبيرًا بعد الأمير على باي المؤيدي فلم تطل أيامه في الدوادارية. ومات ططر بعد أن جعله لالا لولده الملك الصالح محمد وجعل جاني بك الصوفي الآتابك مدبر مملكة ولده الصالح المذكور ووقع ما حكيناه في ترجمة الملك الصالح من واقعته مع جاني بك الصوفي ثم مع طرباي ثم من خلعه الملك الصالح وسلطنته. ولما تم أمر الملك الأشرف برسباي هذا في السلطنة وأصبح يوم الخميس تاسع شهر ربيع الآخر خلع على الأمير بيبغا المظفري أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن الأمير طرباي وكانت شاغرة من يوم أمسك طرباي وخلع على الأمير قجق العيساوي أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضًا عن بيبغا المظفري وخلع على الأمير آقبغا التمرازي باستقراره أمير مجلس عوضًا عن الأمير قجق. وأول ما بدأ به الأشرف في سلطنته أنه منع الناس كافة من تقبيل الأرض بين يديه فامتنعوا من ذلك. وكانت هذه العادة أعني عن تقبيل الأرض جرت بالديار المصرية من أيام المعز معد أول خلفاء بني عبيد بمصر المقدم ذكره في هذا الكتاب وبقيت إلى يوم تاريخه وكان لا يعفي أحدًا عن تقبيل الأرض والكل يقبل الأرض: الوزير والأمير والمملوك وصاحب القلم ورسل ملوك الأقطار إلا قضاة الشرع وأهل العلم وأشراف الحجاز حتى لو ورد مرسوم السلطان على ملك من نواب السلطان قام على قدميه وخر إلى الأرض وقبلها قبل أن يقرأ المرسوم فأبطل الملك الأشرف ذلك وجعل بدله تقبيل اليد. فمشى ذلك أيامًا بطل وعاد تقبيل الأرض لكن بطريق أحسن من الأولى فإن الأولى كان الشخص يخر إلى الأرض حتى يقبلها كالساجد والآن صار الرجل ينحني كالراكع ويضع أطراف أصابع يده على الأرض كالمقبل ثم يقوم ولا يقبل الأرض بفمه أبدًا بل ولا يصل بوجهه إلى قريب الأرض فهذا على كل حال أحسن مما كان أولًا بلا مدافعة فعد ذلك من حسنات الملك الأشرف برسباي. ثم في يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور خلع السلطان الملك الأشرف على الأمير تنبك العلائي ميق نائب الشام خلعة السفر وتوجه إلى محل كفالته. ومن خرق العادات أيضًا في سلطنة الملك الأشرف أنه لما تسلطن لم ينفق على المماليك السلطانية وأعجب من ذلك أنه ما طولب بها وهذا أغرب وأعجب. ثم رسم السلطان الملك الأشرف في يوم الخميس ثامن جمادى الأولى ونودي بذلك في القاهرة بأن لا يستخدم أحد من اليهود ولا من النصارى في ديوان من دواوين السلطان والأمراء وصمم الأشرف على ذلك فلم يسلم من بعض عظماء الأقباط من مباشري الدولة ولم يتم ذلك. ثم قدم الخبر على السلطان بكثرة الوباء ببلاد حلب وحماة وحمص في عشر جمادى الآخرة. ورسم السلطان فنودي بسفر الناس إلى مكة في شهر رجب فكثرت المسرات بذلك لبعد العهد بسفر الرجبية. ثم جلس السلطان للحكم بين الناس كما كان الملك المؤيد ومن قبله وصار يحكم في يومي السبت والثلاثاء بالمقعد من الإسطبل السلطاني. ثم كتب السلطان إلى الأمير تنبك البجاسي نائب حلب أن يتوجه إلى بهسنا لحصار تغري بردي المؤيدي المعزول عن نيابة حلب. ثم في شهر رجب ورد الخبر على السلطان بخروج الأمير إينال نائب صفد عن الطاعة. وكان سبب خروجه عن الطاعة أنه كان من جملة مماليك الملك الظاهر ططر رباه صغير ثم ولاه نيابة قلعة صفد بعد سلطنته فلما قام الملك الأشرف بعد الملك الظاهر ططر بالأمر ولى إينال المذكور نيابة صفد وبلغه خلع ابن أستاذه الملك الصالح محمد من السلطنة فشق عليه ذلك وأخذ في تدبير أمره واتفق مع جماعة على العصيان وخرج عن الطاعة وأفرج عمن كان محبوسًا بقلعة صفد وهم: الأمير يشبك أنالي المؤيدي الأستادار ثم رأس نوبة النوب والأمير إينال الجكمي أمير سلاح ثم نائب حلب والأمير جلبان أمير آخور أحد مقدمي الألوف وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها. ففي الحال كتب السلطان الملك الأشرف للأمير مقبل الحسامي الدوادار حاجب حجاب دمشق باستقراره في نيابة صفد وأن يستمر إقطاع الحجوبية بيده حتى يتسلم صفد ثم كتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشام أن يخرج بعسكر دمشق لقتال إينال المذكور. وبينما السلطان في ذلك ورد عليه الخبر بوقعة كانت بين الأمير يونس الركني نائب غزة وبين عرب جرم وأن يونس المذكور انهزم وقتل عدة من عسكره. ثم وردت الأخبار بكثرة الفتن في بلاد الصعيد. ثم ورد على السلطان كتاب الأمير تنبك ميق نائب الشام بمجيء الأمير إينال الجكمي ويشبك أنالي وجلبان أمير آخور إليه من صفد طائعين للسلطان فدقت البشائر لذلك. وفي سابع عشرين شهر رجب قدم الأمير فارس نائب الإسكندرية إلى القاهرة بطلب وخلع عليه باستمراره على إمرته وإقطاعه بمصر وهي تقدمه ألف بالديار المصرية. وخلع على الأمير أسندمر النوري الظاهري برقوق أحد أمراء الألوف باستقراره في نيابة الإسكندرية عوضًا عن فارس المذكور. ولما كان يوم الخميس رابع شعبان الموافق لتاسع عشرين أبيب أوفى النيل ستة عشر ذراعًا ثم في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان المذكور أخرج الملك المظفر أحمد الملك المؤيد شيخ وأخوه من قلعة الجبل نهارًا وحملا في النيل إلى الإسكندرية. وفي هذا الشهر كثر عبث الإفرنج بسواحل المسلمين وأخذوا مركبًا للتجار ميناء الإسكندرية فيها بضائع بنحو مائة ألف دينار فشق ذلك على الملك الأشرف إلى الغاية مع شغله بنائب صفد. ثم في حادي عشرين شهر رمضان خلع السلطان على الأمير أيتمش الحضري الظاهري باستقراره أستادارًا عوضًا عن أرغون شاه النورزي الأعور. وقدم عليه الخبير بتوجه عسكر الشام مع الأمير مقبل إلى جهة صفد وأنه مستمر على حصار صفد فسر السلطان بذلك. وكتب إلى نائب الشام بالقبض على الأمير إينال الجكمي ويشبك أنالي وجلبان وحبسهم بقلعة دمشق. ثم في سابع عشرين شوال قدم الخبر على السلطان بأخذ صفد. وقدم من صفد ثلاثون رجلًا في الحديد ممن أسر من أصحاب إينال نائب صفد فرسم السلطان بقطع أيديهم فقطعوا الجميع إلا واحدًا منهم فإنه وسط. وأخرج الذين قطعت أيديهم من القاهرة من يومهم إلى البلاد الشامية فمات عدة منهم بالرمل ولم يشكر الملك الأشرف على ما فعله من قطع أيدي هؤلاء. وكان من خبر هؤلاء وإينال نائب صفد أنه لما قدم عليه الأمير مقبل الدوادار بعساكر دمشق انهزم إلى قلعة صفد إلى يوم الاثنين رابع شوال فنزل إليه إينال بمن معه بعد أن ترددت الرسل بينهم أيامًا كثيرة فتسلم أعوان السلطان قلعة صفد في الحال. وعندما نزل إينال أمر الأمير مقبل أن تفاض عليه خلعة السلطان ليتوجه أميرًا بطرابلس وكان قد وعد ذلك لما ترددت الرسل بينهم وبينه مرارًا حتى استقر الأمر على أن يكون إينال المذكور من جملة أمراء طرابلس وكتب له السلطان أمانًا ونسخة يمين فانخدع الخمول ونزل من القلعة فما هو إلا أن قام بلبس الخلعة وإذا هم أحاطوا به وقيدوه وعاقبوه أشد عقوبة على إظهار المال ثم قتلوه وقتلوا معه مائة رجل ممن كان معه بالقلعة وعلقوهم بأعلاها ثم أرسلوا بهذه الثلاثين الذين قطعت أيديهم. ثم بعد ذلك بأيام ورد الخبر بأن الأمير تغري بردي المؤيدي سلم قلعة بهسنا ونزل بالأمان فأخذه تنبك البجاسي وقيده وحمله إلى قلعة حلب فسجنه بها. وزال ماكان بالملك الأشرف من جهة صفد وبهسنا وهدأ سره واطمأن خاطره. ثم في يوم الاثنين ثاني ذي القعدة ركب السلطان من قلعة الجبل إلى مطعم الطيور بالريدانية خارج القاهرة ولبس به قماش الصوف برسم الشتاء على عادة الملوك. ثم عاد إلى القاهرة من باب النصر ورأى عمارته بالركن المخلق وخرج من باب زويلة إلى القلعة ونثر عليه الدنانير والدراهم وهذه أول ركبة ركبها من يوم تسلطن. ثم في يوم الخميس خامس ذي القعدة عزل السلطان أيتمش الخضري عن الأستادارية وأعيد إليها أرغون شاه النوروزي ولم تشكر سيرة أيتمش لشدة ظلمه مع عجزه عن القيام بالكلف السلطانية. ثم في يوم الخميس رابع ذي الحجة اختفى الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ فخلع السلطان على أرغون شاه الأستادار وأضيف إليه الوزر في يوم الاثنين ثامن ذي الحجة. ثم خلع السلطان على القاضي علم الدين صالح ابن الشيخ سراج الدين عمر البلقيني باستقراره قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية عوضًا عن ولي الدين أبو زرعة العراقي بحكم عزله. ثم في المحرم أنعم السطان على مملوكه جانبك الخازندار بإمرة طبلخاناه من جملة إقطاع الأمير فارس المعزول عن نيابة الإسكندرية بعد موته. ثم رسم السلطان بطلب الأمير إينال النوروزي نائب طرابس فحضر إلى القاهرة في يوم الاثنين سادس عشرين صفر من سنة ست وعشرين وثمانمائة وطلع إلى القلعة فأكرمه السلطان. وخلع على الأمير قصروه من تمراز الأمير آخور الكبير باستقراره في نيابة طرابلس عوضًا عن إينال النوروزي المقدم ذكره وأنعم على الأمير إينال المذكور بإقطاع الأمير قصروه وإينال المذكور هو صهري زوج كريمتي. وأخذ الأمير قصروه في إصلاح شأنه إلى أن خلع السلطان عليه خلعة السفر في يوم ثاني عشر صفر وخرج من يومه ولم يستقر أحد في الأمير آخورية الكبرى.
|