الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} فَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ:أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ، وَنَقَلْنَا مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي نَهَيْتُمْ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا هِيَ مِمَّا عَفَا اللهُ عَنْهُ بِسُكُوتِهِ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ وَعَدَمِ تَكْلِيفِكُمْ إِيَّاهُ فَاسْكُتُوا عَنْهُ أَيْضًا، وَأَيَّدُوا هَذَا الْقَوْلَ بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ إِذْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا» وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا صِفَةٌ لِأَشْيَاءَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ يَتَضَمَّنُ تَعْلِيلَ النَّهْيِ، وَهُوَ يُنَاسِبُ كَوْنَ النَّهْيِ عَنِ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّشْرِيعِ.ثَانِيهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ عَفَا اللهُ عَمَّا كَانَ مِنْ مَسْأَلَتِكُمْ قَبْلَ النَّهْيِ فَلَا يُعَاقِبُكُمْ عَلَيْهَا لِسَعَةِ مَغْفِرَتِهِ وَحِلْمِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِيمَا يُشَابِهُ هَذَا السِّيَاقَ: {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ} (5: 95) وَقَوْلِهِ: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (4: 22، 23) وَلَا مَانِعَ عِنْدَنَا يَمْنَعُنَا مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، فَإِنَّ كُلَّ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمَجَازِيَّةِ وَالْكِنَائِيَّةِ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهَا مُجْتَمِعَةً تِلْكَ الْمَعَانِي أَوْ مُنْفَرِدَةً مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ، كَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَعَانِي مِمَّا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهَا شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، فَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مُرَادَةً بَلْ يُرَجَّحُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِطُرُقِ التَّرْجِيحِ مِنْ لَفْظِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أَيْ قَدْ سَأَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَيْ هَذَا النَّوْعَ مِنْهَا أَوْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ أَيْ أَمْثَالَهَا قَوْمٌ مَنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بَعْدَ إِبْدَائِهَا لَهُمْ كَافِرِينَ بِهَا، فَإِنَّ الَّذِينَ أَكْثَرُوا السُّؤَالَ عَنِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا بُيِّنَ لَهُمْ مِنْهَا بَلْ فَسَقَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَتَرَكُوا شَرْعَهُ لِاسْتِثْقَالِهِمُ الْعَمَلَ بِهِ، وَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى اسْتِنْكَارِهِ وَاسْتِقْبَاحِهِ أَوْ إِلَى جُحُودِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَالَّذِينَ سَأَلُوا الْآيَاتِ كَقَوْمِ صَالِحٍ لَمْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ إِعْطَائِهِمْ إِيَّاهَا بَلْ كَفَرُوا وَاسْتَحَقُّوا الْهَلَاكَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَالْأَخْبَارُ الْغَيْبِيَّةُ كَالْآيَاتِ أَوْ مِنْهَا، وَقَدِ اقْتَصَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي سَأَلُوهَا وَكَفَرُوا بِهَا بِالْآيَاتِ الَّتِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهَا الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ قَرَّرْنَاهُمَا آنِفًا وَاسْتَشْهَدَ لِلْأَوَّلِ بِمَسْأَلَةِ السُّؤَالِ عَنِ الْحَجِّ لابد مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِتَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ تَتِمَّةً لِمَا قَبْلَهَا وَبَيَانًا لِسَبَبِ ذَلِكَ النَّهْيِ الْجَامِعِ لِلْمَعْنَيَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ السُّؤَالِ عَنِ الْحَجِّ مِنْ كَوْنِ فَرْضِهِ كُلَّ عَامٍ يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا وَبَيَّنَاهُ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا سَبَقَنَا إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِمَّا لَمْ نَرَهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ.وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ وَسَّعُوا بِأَقْيِسَتِهِمْ دَائِرَةَ التَّكَالِيفِ وَانْتَهَوْا بِهَا إِلَى الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ كَثِيرٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكُومَاتِهِمْ لِلشَّرِيعَةِ بِجُمْلَتِهَا، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَ انْتِقَادِهَا وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا، فَاتَّبَعُوا بِذَلِكَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَلابد لَنَا مِنْ عَقْدِ فَصْلٍ خَاصٍّ فِي تَفْصِيلِ هَذَا الْبَحْثِ.
.عِلَاوَةٌ فِي بَيَانٍ: كَوْنُ كَثْرَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ وَالتَّنَطُّعِ فِي الدِّينِ بِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُخِلًّا بِيُسْرِ الْإِسْلَامِ وَمُنَافِيًا لِمَقْصِدِهِ.نَفْتَتِحُ هَذَا الْفَصْلَ بِمُقْدِمَاتٍ مِنَ الْمَسَائِلِ أَكْثَرُهُنَّ مَقَاصِدُ لَا وَسَائِلُ، يَتَجَلَّى بِهِنَّ الْمُرَادُ وَيَتَمَيَّزُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ.(1) إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ دِينَهُ وَأَتَمَّ بِهِ نِعْمَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ وَبِمَا قَامَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلَ الْقِيَامِ مِنْ بَيَانِ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ تَنْزِيلِهِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَطْعِيَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفَصِّي الْقَوْلِ فِيهَا فِي تَفْسِيرِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (5: 3) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.(2) إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ قَدْ رَفَعَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ الْحَرَجَ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سِيَاقِ آيَاتِ الصِّيَامِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النَّصَّيْنِ، وَسَيَأْتِي نَصٌّ آخَرُ فِي مَعْنَى نَصِّ آيَةِ الْوُضُوءِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْلَى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (87: 8) أَيِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَفْضُلَ غَيْرَهَا بِالْيُسْرِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَوَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: «لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا» وَجَعَلَ الدِّينَ عَيْنَ الْيُسْرِ مُبَالِغَةً فِي يُسْرِهِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» إِلَخْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الدِّينِ وَفِي لَفْظٍ: الْأَدْيَانِ إِلَى اللهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ أَحَدِ أَبْوَابِ الصَّحِيحِ تَعْلِيقًا، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَقَالَ: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ.(3) إِنَّ الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (6: 38) وَقَالَ: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (16: 89) وَأَمَّا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الْمُبَلِّغُ لَهُ وَالْمُبَيِّنُ لِمُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِمَّا جَاءَ فِيهِ مُجْمَلًا، قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَهُ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (42: 48) وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (16: 44) وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} (4: 105).وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ، هَلْ هِيَ مِنْ رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجْتِهَادِهِ فِيهِ؟ أَمْ بِوَحْيٍ آخَرَ غَيْرِ الْقُرْآنِ؟ أَمْ أَذِنَ اللهُ لَهُ بِاسْتِئْنَافِ التَّشْرِيعِ؟ وَالْخِلَافُ مَشْهُورٌ، وَرَجَّحَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ بِمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَيَقُولُ: «لَا أَدْرِي» أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمَا أَرَاكَ اللهُ} (4: 105)» وَيَلِيهِ فِي «بِابِ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلَا تَمْثِيلٍ».وَنَقُولُ: لَا يَتَّجِهُ الْخِلَافُ إِلَّا فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْمَدَنِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ وَالْحَرْبِيَّةُ فَقَدْ أُمِرَ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيهَا، وَكَانَ يَرَى الرَّأْيَ فَيَرْجِعُ عَنْهُ لِرَأْيِ أَصْحَابِهِ، وَعَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلَهَا بِرَأْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي غَزَوَاتِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَتَبُوكَ، وَلَا يَتَأَتَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ بِوَحْيٍ.(4) الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِيمَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ تَلْقِيحِ النَّخْلِ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فَتَرَكَهُ بَعْضُهُمْ لِظَنِّهِ فَخَسِرَ مَوْسِمَهُ: «إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثَتْكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ» وَقَالَ أَيْضًا: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» وَقَالَ أَيْضًا: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.(5) إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ فَوَّضَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أُمُورَ دُنْيَاهُمُ الْفَرْدِيَّةَ وَالْمُشْتَرِكَةَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، بِشَرْطِ أَلَّا تَجْنِيَ دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَهَدْيِ شَرِيعَتِهِمْ فَجَعَلَ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2: 29) وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (45: 13) وَجَعَلَ أُمُورَ سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَحُكُومَتِهَا شُورَى، إِذْ قَالَ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (42: 38) وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَرِجَالُ الشُّورَى بِالتَّبَعِ لِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأَرْشَدَ إِلَى رَدِّ أُمُورِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسِّيَاسَةِ وَالْحَرْبِ وَالْإِدَارَةِ إِلَى رَسُولِ اللهِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ رَاجِعْ تَفْسِيرَ: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (4: 59) وَتَفْسِيرَ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (4: 83).وَآتَى هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمِيزَانَ مَعَ الْقُرْآنِ كَمَا آتَاهُ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ قَبْلُ، وَالْمِيزَانُ: مَا يَقُومُ بِهِ الْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْأَحْكَامِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ الَّتِي يَسْتَخْرِجُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ بِاجْتِهَادِهِمْ فِي تَطْبِيقِ الْأَقْضِيَةِ عَلَى النَّصِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ.وَأَمَّا أَدِلَّةُ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ فَأَعْظَمُهَا وَأَظْهَرُهَا سِيرَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الْأُمَّةِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَالسِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ بِمُشَاوَرَةِ أُولِي الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ وَالْمَكَانَةِ الْمُحْتَرَمَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ كُبَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَمِنْهَا إِذْنُهُ لِمُعَاذٍ عِنْدَ إِرْسَالِهِ إِلَى الْيَمَنِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقَضَاءِ، وَحَدِيثُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَلَمَةَ تَابَعَاهُ عَلَيْهِ.(6) إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِسْلَامَ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ لِتَكْمِيلِ الْبَشَرِ، فِي أُمُورِهِمُ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، لِيَكُونَ وَسِيلَةً لِلسَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُورُ الرُّوحِيَّةُ الَّتِي تُنَالُ بِهَا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أَتَمَّهَا اللهُ تَعَالَى وَأَكْمَلَهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهَا النُّصُوصُ، فَلَيْسَ لِبَشَرٍ بَعْدَ الرَّسُولِ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا وَلَا أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا شَيْئًا.وَأَمَّا الْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ قَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، فَلَمَّا كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بَيَّنَ الْإِسْلَامُ أَهَمَّ أُصُولِهَا، وَمَا مَسَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مِنْ فُرُوعِهَا، وَكَانَ مِنْ إِعْجَازِ هَذَا الدِّينِ وَكَمَالِهِ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ ذَلِكَ يَتَّفِقُ مَعَ مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَيَهْدِي أُولِي الْأَمْرِ إِلَى أَقْوَمِ الطُّرُقِ لِإِقَامَةِ الْمِيزَانِ، بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الشُّورَى وَالِاجْتِهَادِ.(7) مَنْ تَدَبَّرَ مَا تَقَدَّمَ تَظْهَرْ لَهُ حِكْمَةُ مَا كَانَ مِنْ كَرَاهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَثْرَةِ سُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ عَنِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقْتَضِي أَجْوِبَتُهَا كَثْرَةَ الْأَحْكَامِ، وَالتَّشْدِيدَ فِي الدِّينِ، أَوْ بَيَانَ أَحْكَامٍ دُنْيَوِيَّةٍ رُبَّمَا تُوَافِقُ ذَلِكَ الْعَصْرَ وَلَا تُوَافِقُ مَصَالِحَ الْبَشَرِ بَعْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ، وَسَنُورِدُ قَرِيبًا أَحَادِيثَ أُخْرَى وَآثَارًا فِي مَعْنَى مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِهِمَا.(8) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَذُمُّونَ الْإِحْدَاثَ وَالِابْتِدَاعَ، وَيُوصُونَ بِالِاعْتِصَامِ وَالِاتِّبَاعِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الرَّأْيِ وَالْقِيَامِ فِي الدِّينِ، وَيَتَدَافَعُونَ الْفَتْوَى وَيَتَحَامَوْنَهَا وَلاسيما إِذَا سُئِلُوا عَمَّا لَمْ يَقَعْ، وَلَكِنْ بَعْضُ الَّذِينَ انْقَطَعُوا لِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ فَتَحُوا بَابَ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِيهَا، وَأَكْثَرُوا مِنَ اسْتِنْبَاطِ الْفُرُوعِ الْكَثِيرَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ جَمِيعًا، فَجَاءَ بَعْضُ الْفُرُوعِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ مُخَالَفَةً بَيِّنَةً، وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُوَافِقٍ وَلَا مُخَالِفٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيمَا عَفَا اللهُ عَنْهُ فَسَكَتَ عَنْ بَيَانِهِ رَحْمَةً لَا نِسْيَانًا كَمَا وَرَدَ، وَقَدْ وَضَعُوا لِلِاسْتِنْبَاطِ أُصُولًا وَقَوَاعِدَ مِنْهَا الصَّحِيحُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَمِنْهَا مَا لَا تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ تِلْكَ الْأُصُولَ وَالْقَوَاعِدَ فِي اسْتِنْبَاطِهِ لِلْأَحْكَامِ، وَقَوْلِهِ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَذَهَبُوا فِي ذَلِكَ مَذَاهِبَ بَدَدًا، وَسَلَكُوا إِلَيْهِ طَرَائِقَ قِدَدًا، فَكَثُرَتِ التَّكَالِيفُ حَتَّى تَعَسَّرَ تَعَلُّمُهَا، فَمَا الْقَوْلُ فِي عُسْرِ الْعَمَلِ بِهَا؟ فَتَسَلَّلَ مِنْهَا الْأَفْرَادُ وَالْجَمَاعَاتُ، وَنَقَصَتْ مِنْ عَقْلِهَا الْحُكُومَاتُ، وَكَثُرَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِهَا الشُّبَهَاتُ، وَكَانَتْ فِي طَرِيقِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَصْعَبُ الْعَقَبَاتِ، وَلَوْ سَلَكَ الْمُتَأَخِّرُونَ طَرِيقَ السَّلَفِ حَتَّى أَئِمَّةِ أَهْلِ الرَّأْيِ مِنْهُمْ فِي مَنْعِ التَّقْلِيدِ وَالرُّجُوعِ إِلَى صَحِيحِ الْمَأْثُورِ، وَرَدِّ الْمُتَنَازِعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ لَمَا وَصَلْنَا إِلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَاه.(9) إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ تَوْحِيدٍ وَاجْتِمَاعٍ، وَقَدْ نَهَى أَشَدَّ النَّهْيِ عَنِ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3: 103) وَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (3: 105) وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (6: 159) وَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (30: 31، 32) وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَأَمْثَالِهَا مِنْهُ وَمِنَ السُّنَّةِ بِرَادِعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّفَرُّقِ، وَمَا كَانَ التَّفَرُّقُ إِلَّا مِنَ الرَّأْيِ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى دَخَلُوا جُحْرَ الضَّبِّ الَّذِي دَخَلُوهُ قَبْلَهُمْ، مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمُ الْمُوَلِّدُونَ وَأَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسْبِيهَا فَقَالُوا بِالرَّأْي فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَقَدْ عَلِمَ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ بِالْحُسْنِ، وَنَقَلَ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ مَرْفُوعٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، كَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.
|