الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال نظام الدين النيسابوري: {سأل سائِلٌ بِعذابٍ واقِعٍ (1)}التفسير:من قرأ {سأل} بالهمزة ففيه وجهان: الأول عن ابن عباس أن النضر بن الحرث قال: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة} [الأنفال: 32] الآية فأنزل الله تعالى: {سأل سائل} أي دعا داع ولهذا عدي بالباء. يقال: دعاه بكذا إذا استدعاه وطلبه.وقال ابن الأنباري: الباء للتأكيد والتقدير: سأل سائل عذابا لا دافع له البتة. إما في الآخرة وإما في الدنيا كيوم بدر. الثاني قال الحسن وقتادة: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل بعذاب الكافرين، أو سأل عن عذاب. والباء بمعنى (عن).قال ابن الأنباري: أو عنى واهتم بعذاب أنه على من ينزل وبمن يقع، فبين الله تعالى أن هذا واقع بهم فلا دافع له.والذي يدل على صحة هذا الوجه قوله في آخر الآية {فاصبر صبرا جميلا} ومن قرأ بغير همز فله وجهان أيضا: الأول أنه مخفف {سأل} وهي لغة قريش والمعاني كما مرت، والآخر أن يكون من السيلان ويعضده قراءة ابن عباس {سال سيل} وهو مصدر في معنى سائل كالفوز بمعنى الفائز. والمعنى اندفع وأدى عذاب فذهب بهم وأهلكهم أما {سائل} فلا يجوز فيه إلا الهمز وفاقا لأنه إن كان من سأل المهموز فظاهر، وإن كان من غير المهموز انقلبت الياء همزة كما في بائع. وقوله: {للكافرين} صفة أخرى للعذاب أي بعذاب واقع، لا محالة كائن للكافرين، أو متعلق بـ: {واقع} أي نازل لأجلهم، أو كلام مستأنف جواب للسائل الذي سأل: إن العذاب على من ينزل أي هو للكافرين. والظاهر أن قوله: {من الله} يتعلق {بدافع} أي لا دافع له من جهة الله لأنه قضاء مبرم. وجوز أن يتصل بـ: {واقع} أي نازل من عند {ذي المعارج} المصاعد.روى الكلبي عن ابن عباس أنها السموات لأن الملائكة يعرجون فيها.وقال قتادة: ذي الفواضل والنعم بحسب الأرواح ومراتب الاستحقاق والاستعداد. وقيل: هي الجنة لأنها درجات. وقال في التفسير الكبير. وهي مراتب أرواح الملكية المختلفة بالشدة والضعف وبسببها يصل آثار فيض الله إلى العالم السفلي عادة، أو غير عادة فتلك الأرواح كالمصاعد لمراتب الحاجات التي ترفع إليها، كالمنازل لآثار الرحمة من ذلك العالم إلينا.قوله: {تعرج الملائكة والروح} وفي مواضع أخرى يوم يقوم الروح والملائكة. قيل: إن الروح أعظم الملائكة قدرا وهو أول في درجة نزول الأنوار من جلال الله، ومنه تتشعب إلى أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح. وبين الطرفين معارج مراتب أرواح الملائكة ومدارج منازل الأنوار القدسية ولا يعلم تفصيلها إلا الله. وأما المتكلمون فالجمهور منهم قالوا: إن الروح هو جبريل عليه السلام. ولا استدلال لأهل التشبيه في لفظ {المعارج} فإنا بينا أنها المراتب. قوله: {إليه} إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العز والكرامة. والأكثرون على أن قوله: {في يوم} من صلة {تعرج}. أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم وهو يوم القيامة. قال الحسن: يعني من موقفهم للحساب إلى حين يقضي بين العباد خمسون ألف سنة من سني الدنيا، ثم بعد ذلك يستقر أهل الجنة في الجنة إلى آخر الآية. والأصح أن هذا الطول إنما يكون للكافر لما روي عن أبي سعيد الخدري «أنه قيل لرسوله صلى الله عليه وسلم: ما أطول هذا اليوم؟ فقال: والذي نفسي بيه إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة في الدنيا» ومنهم من قال: إن ذلك الموقف وإن طال فقد يكون سببا لمزيد السرور والراحة للمؤمن.ومنهم من قال: إن هذه المدة على سبيل التقدير لا على سبيل التحقيق. والمعنى أنه لو اشتغل بذلك القضاء والحكومة أعقل الناس وأدهاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة. ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحكومة في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا. وأيضا الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة ثم إنهم يصعدون إليها في ساعة. قاله وهب وجماعة من أهل التفسير.وقال أبو مسلم: إن هذا اليوم الدنيا كلها من أول ما خلق العالم إلى القيامة وفيه يقع عروج الملائكة. ثم لا يلزم من هذا أن يصير وقت القيامة معلوما لأنا لا ندري كم مضى وكم بقى. ومر في (ألم السجدة). وقال جمع من المفسرين قوله: {في يوم} من صلة {واقع} أي يقع ذلك العذاب في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم وهو يوم القيامة. وثم يحتمل أن يكون المراد منه استطالة ذلك اليوم لشدته على الكفار، ويحتمل أن العذاب الذي سأله السائل يكون مقدرا بهذه المدة ثم ينقله الله تعالى إلى نوع آخر من العذاب. يروى عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن هذه الآية وعن قوله: {في يوم كان مقداره ألف سنة} فقال: أيام سماها الله هو أعلم بها كيف تكون وأكره أن أقول فيها ما لا علم لي به. وقال وهب في الجواب: من أسفل العالم إلى أعلى شرف العرش مسيرة خمسين ألف سنة، ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة، لأن عرض كل سماء من السموات السبع مسيرة خمسمائة سنة، وبين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى، فالمراد مقدار ألف سنة لو صعدوا إلى سماء الدنيا ومقدار خمسين ألف سنة لو صعدوا إلى العرش. وفي قوله: {فاصبر صبرا جميلا} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له: إن العذاب قرب وقوعه فاصبر فقد شارفت الانتقام قال الكلبي: هذه الآية نزلت قبل أن يؤمر الرسول بالقتال إنهم يرون العذاب أو يوم القيامة بعيد الأمد بعيدا عن الإمكان {ونراه قريب} منه ثم قال: {يوم} أي اذكر يوم {تكون السماء كالمهل} كدرديّ الزيت. عن ابن مسعود: كالفضة المذابة. {وتكون الجبال كالعهن} أي الصوف المصبوغ ألوانا لقوله: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود} [فاطر: 27] وجوز جار الله أن ينتصب {يوم} ب {قريبا} أو بإضمار يقع لدلالة واقع عليه، أو يراد به يوم تكون السماء كالمهل كان كيت وكيت، أو هو بدل من يوم القيامة فيمن علقه {بواقع} قوله: {ولا يسأل حميم} من قرأ بفتح الياء فظاهر أي لا يسأله بكيف حالك لاشتغال كل بنفسه، ومن قرأ بالضم فالمعنى لا يسأل حميم عن حميم ليعرف شأنه من جهته كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه فيكون على حذف الجار.وقال الفراء: لا يقال الحميم أين حميمك. ثم كان لسائل أن يقول: لعله لا يبصره فلهذا لا يسأل فقال: {يبصرونهم} ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تسائلهم ويجوز أن يكون صفة أي حميما مبصرين معرفين إياهم وإنما جمع ضمير الحميم لأنه في معنى الجمع حيث رفع في سياق النفي. وقيل: إن الملة تتعلق بما بعده والمعنى إن المجرمين يبصرون المؤمنين حال ما يود أحدهم أن يفدي نفسه بكل ما يمكنه فإن الإنسان إذا كان في البلاء ثم رأى عدوه في الرخاء كان ذلك أشد عليه {وفصيلته} عشيرته الأدنون الذين فصل عنهم {تؤويه} تضمه إليها للانتماء في النسب أو في إعداد النوائب. ومعنى {ثم} استبعاد الإنجاء عن الافتداء ثم أكد الإستبعاد بقوله: {كلا} وهو ردع للمجرم عن كونه بحيث يود افتداءه وتنبيه على أنه لا ينفعه ذلك. والضمير في {أنها} للقصة كما ذكرنا أو للنار وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العذاب عليها، ويجوز أن يعود إلى العذاب والتأنيث باعتبار الخبر لأن {لظى} علم لنار جهنم. واللظى اللهب الخالص. والشوى الأطراف وهي اليدان والرجلان، والشوى أيضا جلد الرأس، الواحدة شواة، قال سعيد بن جبير: العصب والعقب ولحم الساقين اليدين تنزعها نزعا فتهلكها ثم يعيدها الله سبحانه. وفي قوله: {تدعو} وجوه منها: أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك فإن لم تجبك جؤارا أجابتك اعتبارا. فههنا لما كان مرجع كل من الكفرة إلى دركة من دركات جنهم كأنها تدعوهم إلى نفسها. ومنها أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحا فصيحا: لي يا كافة الكفرة ثم تلتقطهم التقاط الحب. ومنها أن يكون على حذف المضاف أي تدعو زبانيتها. ومنها أن الدعاء بمعنى الإهلاك كقول العرب (دعاه الله) أي أهلكه {من أدبر} أي عن الطاعة {وتولى} عن الإيمان {وجمع} المال حرصا عليه {فأوعى} جعله في وعاء وكنزه فلم يؤد حقوق الله فيه أصلا وهذه مجامع آفات النفس. ثم بين أن الإنسان بالطبع مائل إلى الأخلاق الذميمة فقال: {إن الإنسان} وهو الكافر عند بعضهم والأظهر العموم بدليل الاستثناء عقيبه {خلق هلوعا} والهلع قلة الصبر وشدة الحرص كما فسره الله تعالى بقوله: {إذا مسه الشر} أي الفقر والمرض ونحوه من المضار {كان جزوعا وإذا مسه الخير} أضداد ذلك {كان منوعا} عن النبي صلى الله عليه وسلم: «شر ما أعطي ابن آدم شح هالع وجبن خالع» قال أهل السنة: الحالة النفسانية التي هي مصدر الأفعال الاختيارية كالجزع والمنع لا شك أنها بخلق الله تعالى.بل الجزع والمنع أيضا من خلقه ولا اعتراض لأحد عليه خلق بعض الناس هلوعا وخلق المستثنين منهم غير هلوع بل مشغولي القلب بأحوال الآخرة، وكل ذلك تصرف منه في ملكه، وقالت المعتزلة: ليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف لأنه تعالى ذكره في معرض الذم والله تعالى لا يذم فعله. ولأنه تعالى استثنى منهم جماعة جاهدوا أنفسهم وظلفوها عن الشهوات. ولو كانت ضرورية لم يقدروا على تركها. والجواب أن الذين خلقهم كلذلك لم يقدروا على الترك والذين تركوها هم الذين خلقوا على هذا الوصف وهم أصناف ثمانية:الأول الذين يداومون على الصلوات والمراد منها أداؤها في أوقاتها، وأما المحافظة عليها فترجع إلى الاهتمام بشأنها وذلك يحصل برعاية أمور سابقة على الصلاة كالوضوء وستر العورة وطلب القبلة وغيرها، حتى إذا جاء وقت الصلاة لم يكن يتعلق القلب بشرائطها وأمور مقارنة للصلاة كالخشوع والاحتراز عن الرياء والإتيان بالنوافل والمكملات، وأمور لاحقة بالصلاة كالاحتراز عن اللغو وما يضاد الطاعة لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فارتكابه المعصية بعد الصلاة دليل على أن تلك الصلاة لم تقع في حيز القبول.الثاني {والذين في أموالهم حق} قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: هو الزكاة المفروضة. قلت: الدليل عليه وصفه بأنه معلوم واقترانه بإدامة الصلاة، وقال مجاهد وعطاء والنخعي: هو ما سوى الزكاة وإنه على طريق الندب والاستحباب. قلت: هذا التفسير بما في (الذاريات) أشبه لأنه لم يصف الحق هناك بأنه معلوم ولأنه مدح هناك قوما بالتزام ما لا يلزمهم كقلة الهجوع والإستغفار بالأسحار.الثالث {والذين يصدقون بيوم الدين} أي يؤمنون بالغيب والجزاء.الرابع {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} خائفون والمؤمن خائف من التقصير في الطاعة وبعض الفسقة لا يخافون من إرتكاب أنواع الظلم وأصناف المعصية. ثم أكد ذلك الخوف بقوله: {إن عذاب ربهم غير مأمون} لأن الأمور بخواتيمها والخاتمة غير مقطوع بها.الخامس {والذين هم لفروجهم حافظون} إلى قوله: {العادون} وقد مر في (المؤمنين).والسادس {والذين هم لأماناتم وعهدهم راعون} وقد مر أيضا.السابع {والذين هم بشهاداتهم قائمون} من أفرد فلانها مصدر، ومن جمع فللنظر إلى اختلاف الشهادات وكثرة أنواعها. وأكثر المفسرين قالوا: هي الشهادات عند الحكام يقومون بها بالحق ولا يكتمونها، وهذه من جملة الأمانات خصها بالذكر تنبيها على فضلها لأن في إقامتها إحياء للحقوق وفي تركها تضييع لها.وروى عطاء عن ابن عباس أنها الشهادة بالله أنه واحد لا شريك له.الثامن {والذين هم على صلاتهم يحافظون} وقد ذكرناه.ثم عين مكان هؤلاء بقوله تعالى: {أولئك في جنات مكرمون} قال المفسرون: كان المشركون يحتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقا يستهزؤن به وبالمؤمنين ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت.{فما للذين كفروا قبلك} أي نحوك وفي مقابلتك {مهطعين} مسرعين مادين أعناقهم إليك {عزين} فرقا شتى جمع عزة محذوفة العجز وأصلها عزوة لأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فهم مفترقون. وجمع بالواو والنون عوضا عن المحذوف كما مر في {عضين} قوله: {كلا} ردع لهم عن الطمع الفاسد وذلك من وجهين:أحدهما أنهم ينكرون البعث فمن أين لهم هذا الطمع.والثاني أنهم لم يعدوا لها زادا من الإيمان والعمل الصالح. وفي قوله: {إنا خلقناهم مما يعلمون} رد عليهم من الوجهين فإن من علم أن أوله نطفة لم ينكر البعث، أو من علم أن أوله نطفة مذرة كسائر بني آدم لم يدع التقدم والشرف بلا توسل من الإيمان والعمل الصالح. ثم بين كمال قدرته على الإيجاد والإعدام مؤكدا بالأقسام وأنه لا يفوته شيء من الممكنات.ومعنى {المشارق والمغارب} قد تقدم في أول (الصافات) و(الرحمن) وإن للشمس في كل يوم من نصف السنة مغربا ومشرقا. وقيل: مشرق كل كوكب ومغربه. وقيل: المراد أنواع الهدايات والخذلانات. واختلف فيما وصف الله نفسه بالقدرة لعيه هل خرج إلى الفعل أم لا؟ قال بعضهم: بدل الله بهم الانصار والمهاجرين. وقال آخرون: بدل الله كفرهم بالإيمان. وقيل: التبديل بمعنى الإهلاك الكلي لهم وإيجاد آخرين مكانهم ولكنه هددهم بذلك لكي يؤمنوا، ثم زاد في التهديد بأن يخلوا وشأنهم إلى أوان لقاء الجزاء والأجداث القبور كما في (يس). ثم شبه إسراعهم إلى الداعي مستبقين بإسراعهم إلى أنصابهم وهي كل ما ينصب فيبعد من دون الله وقد مر في قوله: {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] ومعنى {يوفضون} يسرعون. {وترهقهم ذلة} تغشاهم والباقي ظاهر والله أعلم. اهـ.
|