الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر} أي القرآن {مّن بَيْنِنَا} ونحن رؤساءُ النَّاسِ وأشرافُهم كقولهم: {لولا نزِّل هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتينِ عظيمٍ} ومرادهم إنكارُ كونه ذكرًا منزَّلًا من عند الله عزَّ وجلَّ كقولهم: {لو كان خيرًا ما سبقُونا إليه} وأمثالُ هذه المقالاتِ الباطلة ودليلٌ على أنَّ مناطَ تكذيبهم ليس إلاَّ الحسدُ وقِصرُ النَّظرِ على الحُطام الدنيويِّ {بْل هُمْ في شَكّ مّن ذِكْرِى} أي من القرآنِ أو الوحي لميلهم إلى التَّقليدِ وإعراضِهم عن النَّظرِ في الأدِلَّةِ المؤدِّية إلى العلمِ بحقِّيتِه وليس في عقيدتِهم ما يبتُّون به فهم مذبذبون بين الأوهامِ ينسبونه تارةً إلى السِّحرِ وأخرى إلى الاختلاقِ {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} أي بل لم يذوقُوا بعد عذابي فإذا ذاقُوه تبيَّن لهم حقيقةُ الحال، وفي لمَّا دلالةٌ على أنَّ ذوقَهم على شرف الوقوع والمعنى أنهم لا يصدّقون به حتى يمسَّهم العذاب وقيل لم يذوقوا عذابَى الموعودَ في القرآنِ ولذلك شكُّوًا فيه {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العزيز الوهاب} بل أعندهم خزائنُ رحمتِه تعالى يتصرَّفون فيها حسبما يشاءون حتَّى يُصيبوا بها من شاءوا ويُصرفُوها عمَّن شاءوا ويتحكَّموا فيها بمقتضي آرائِهم فيتخيَّروا للنُّبوةِ بعضَ صناديدهم. والمعنى أنَّ النُّبوةَ عطيةٌ من الله عزَّ وجلَّ يتفضَّلُ بها على مَن يشاءُ من عباده المصطَفينَ لا مانع له فإنَّه العزيزُ أي الغالبُ الذي لا يُغالب الوهَّابُ الذي له أنْ يهبَ كلَّ ما يشاءُ لكلِّ مَن يشاءُ. وفي إضافةِ اسم الربِّ المنبىء عن التَّربيةِ والتَّبليغِ إلى الكمال إلى ضميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من تشريفه واللُّطفِ به ما لا يَخْفى، وقولُه تعالى: {أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} ترشيحٌ لما سبق أي بل ألهُم ملكُ هذه العوالمِ العُلويةِ والسُّفليةِ حتَّى يتكلَّموا في الأمورِ الرَّبانيةِ ويتحكَّموا في التَّدابيرِ الإلهيةِ التي يستأثرُ بها ربُّ العزَّةِ والكبرياءِ. وقولُه تعالى: {فَلْيَرْتَقُواْ في الاسباب} جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي إنْ كان لهم ما ذُكر من الملك فليصعدُوا في المعارجِ والمناهج التي يتوصَّلُ بها إلى العرشِ حتَّى يستووا عليه ويدبِّروا أمر العالم ويُنزلوا الوحَي إلى مَن يختارون ويستصوبوُن وفيه من التَّهكُّمِ بهم ما لا غايةَ وراءه. والسَّببُ في الأصل هو الوصلةُ وقيل: المرادُ بالأسبابِ السَّمواتُ لأنَّها أسبابُ الحوادثِ السُّفليةِ وقيل أبوابُها.{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الاحزاب} أي هم جندٌ ما من الكُفَّارِ المتحزِّبين على الرُّسلِ مهزومٌ مكسورٌ عمَّا قريب فلا تُبالِ بما يقولون ولا تكترثْ بما يهذُون. ومَا مزيدةٌ للتَّقليلِ والتَّحقيرِة نحو قولِك أكلتُ شيئًا ما، وقيل: للتَّعظيمِ على الهُزءِ. وهنالك إشارةٌ إلى حيثُ وضعُوا فيه أنفسَهم من الانتدابِ لمثل ذلك القولِ العظيمِ.وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاوتاد} الخ استئناف مقررٌ لمضمون ما قبله ببيانِ أحوالِ العُتاةِ الطُّغاةِ الذين هؤلاءِ جندٌ ما جنودهم ممَّا فعلوا من التَّكذيبِ وفعل بهم من العقابِ. وذُو الأوتادِ معناه ذُو المُلك الثَّابتَ أصلُه من ثبات البيت المطنَّبِ بأوتادِه فاستُعير لثبات الملكِ ورسوخِ السَّلطنةِ واستقامةِ الأمرِ. قال الأسودُ بن يَعْفُر:
أو ذُو الجموع الكثيرةِ وسُمُّوا بذلك لأنَّ بعضَهم يشدُّ بعضًا كالوتدِ يشدُّ البناءَ وقيل: نصبَ أربعَ سوار وكان يمدُّ يَدَيْ المعذَّبِ ورجليه إليه ويضربُ عليها أوتادًا ويتركُه حتَّى يموتَ. وقيل: كان يمدُّه بين أربعةِ أوتادٍ في الأرض ويرسلُ عليه العقاربَ والحيَّاتِ. وقيل: كانت له أوتادٌ وحبالٌ يلعب بها بين يديِه {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب الئيكة} أصحابُ الغَيضةِ من قومِ شُعيبِ عليه السَّلامُ وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الاحزاب} إمَّا بدلٌ من الطَّوائفِ المذكورة كما أنَّ ذلك الكتابُ بدلٌ من ألم على أحدِ الوجوه وفيه فضلُ تأكيدٍ وتنبيهٌ على أنَّهم الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم وقوله تعالى: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} استئنافٌ جيء به تقريرًا لتكذيبِهم وبيانًا لكيفَّيتِه وتمهيدًا لما يعقُبه أي ما كلُّ أحدٍ من آحادِ أولئكَ الأحزابِ أو ما كلُّ حزبٍ منُهم إلا كذَّبَ الرُّسلَ لأنَّ تكذيبَ واحد منهم تكذيبٌ لهم جميعًا لاتِّفاقِ الكلِّ على الحقِّ. وقيل ما كلُّ حزبٍ إلاَّ كذَّب رسولَه على نهجِ مقابلةِ الجمعِ بالجمعِ، وأيًَّا ما كان فالاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ العام في خبر المبتدأ، أي ما كلُّ أحدٍ منهم محكومًا عليه بحكم إلا محكومٌ عليه بأنه كذَّب الرُّسلَ وقيل ما كلُّ واحدٍ منهم مُخبَرًا عنه بخبرٍ إلا مخَبرٌ عنه بأنَّه كذَّب الرُّسلَ وفي إسناد التَّكذيبِ إلى الطَّوائفِ المذكُورةِ على وجهِ الإبهامِ أوَّلًا والإيذانِ بأنَّ كُلاَّ منهم حزبٌ على حيالِه تحزَّب على رسولِه ثانيًا وتبيينِ كيفيةِ تكذيبِهم بالجملةِ الاستثنائيةِ ثالثًا فنونٌ من المبالغة مسجَّلةٌ عليهم باستحقاقِ أشدِّ العذابِ وأفظعِه ولذلك رُتِّب عليه قولُه تعالى: {فَحَقَّ عِقَابِ} أي ثبتَ ووقعَ على كلَ منُهم عقابي الذي كانتْ تُوجبه جناياتُهم من أصنافِ العقوباتِ المفصَّلةِ في مواقَعِها وإما مبتدأٌ. وقوله:تعالى: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} خبرُه بحذفِ العائدِ أي إنْ كلٌّ منهم الخ والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لما قبله مؤكِّدٌ لمضمونِه مع ما فيه من بيانِ كيفيةِ تكذيبهم والتَّنبيهِ على أنَّهم الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم كما ذُكر وقيل: هو مبتدأٌ وخبرٌ، والمَعنْى أنَّ الأحزابَ الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم هُم هُم وأنَّهم الذينُ وجد منهم التَّكذيبُ فتدبَّر. وأمَّا ما قيل مِن أنَّه خبرٌ والمبتدأُ قوله تعالى: {وَعَادٌ} الخ أو قوله: {وَقَوْمُ لُوطٍ} الخ فممَّا يجب تنزيُه ساحةِ التَّنزيلِ عن أمثالِه.{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاء} شروعٌ في بيان عقابِ كُفَّارِ مكَّة إثر بيانِ عقابِ أضرابِهم من الأحزابِ الذين أُخبر فيما سبقَ بأنَّهم جندٌ حقيرٌ منهم مهزومٌ عن قريبٍ فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ انتظارَ السَّامعِ وترقبه إلي بيانه قطعًا، وفي الإشارةِ إليهم بهؤلاء تحقيرٌ لشأنِهم وتهوينٌ لأمرِهم، وأمَّا جعلُه إشارةً إلى الأحزابِ باعتبارِ حضورِهم بحسبِ الذِّكرِ أو حضورِهم في علمِ الله عزَّ وجلَّ فليس في حيِّزِ الاحتمالِ أصلًا كيف لا والانتظار سواءٌ كان حقيقةً أو استهزاءً إنَّما يُتصوَّو في حقِّ من لم يترتب على أعمالِه نتائَجُها بعْد، وبعدَ ما بيّن عقابُ الأحزابِ واستئصالُهم بالمرَّةِ لم يبقَ ممَّا أُريد بيانُه من عقوباتهم أمرٌ منتظرٌ وإنَّما الذين في مرصدِ الأنتظارِ كفَّارُ مكَّةَ حيث ارتكبُوا من عظائمِ الجرائم وكبائرِ الجرائرِ الموجبة لأشدِّ العقوباتِ مثلَ ما ارتكب الأحزابُ أو أشدَّ منه ولمَّا يلاقوا بعد شيئًا من غوائلِها أي وما ينتظُر هؤلاءِ الكَفَرةُ الذين هم أمثالُ أولئك الطَّوائفِ المهلكة في الكُفرِ والتَّكذيبِ {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} هي النَّفخةُ الثَّانيةُ لا بمعني أنَّ عقابهم نفسُها بما فيها من الشِّدَّةِ والهَوْلِ فإنَّها داهيةٌ يعمُّ هولُها جميعَ الأُممِ برَّهًا وفاجرِها بل بمعنى أنَّه ليس بينهم وبين حلولِ ما أُعدَّ لهم من العقاب الفظيعِ إلاَّ هي حيثُ أُخِّرتْ عقوبتُهم إلى الآخرةِ لما أنَّ تعذيبَهم بالاستئصال حسبما يستحقُّونه. والنَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بين أظهرهم خارجٌ عن السُّنَّةِ الإلهيَّةِ المبنية على الحكم الباهرةِ كما نطقَ به قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} وأمَّا ما قيل: مِن أنَّها النَّفخةُ الأَولى فممَّا لا وجهَ له أصلًا لما أنَّه لا يشاهدُ هولَها ولا يُصعقُ بها إلاَّ من كانَ حيًَّا عند وقوعِها وليس عقابُهم الموعودُ واقعًا عقيبها ولا العذابُ المطَلقُ مؤخَّرًا إليها بل يحلُّ بهم من حينِ موتِهم {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} أي من توقُّفٍ مقدار فَوَاقٍ وهو ما بين الحَلْبتينِ. وقُرئ بضمِّ الفاءِ وهُما لغتانِ. وقولُه تعالى: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} حكاية لما قالُوه عند سماعِهم بتأخير عقابهم إلى الآخرةِ أي قالوا بطريق الاستهزاء والسُّخريةِ عجِّل لنا قطَّنًا من العذابِ الذي تُوعدنا به ولا تؤخره إلى يومِ الحسابِ الذي مبدؤه الصَّيحةُ المذكورةُ. والقطُّ: القطعةُ من الشَّيءِ من قطَّه إذا قطَعه، ويقالُ لصحيفةِ الجائزةِ قطٌّ لأنَّها قطعةٌ من القرطاسِ، وقد فسِّر بها أي عجِّل لنا صحيفةَ أعمالِنا لننظرَ فيها. وقيل ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعدَ الله تعالى المؤمنينَ الجنَّة فَقالُوا على سبيلِ الهُزءِ به عجِّلْ لنا نصيبنَا منها. وتصديرُ دُعائِهم بالنِّداءِ المذكورِ للإمعانِ في الاستهزاءِ كأنَّهم يدعُون ذلك بكمالِ الرَّغبةِ والابتهالِ.{اصبر على مَا يَقُولُونَ} من أمثالِ هذه المقالاتِ الباطلةِ {واذكر} لهم {عَبْدَنَا داود} أي قصَّته تهويلًا لأمرِ المعصيةِ في أعينهم وتنبيهًا لهم على كمالِ قُبح ما اجترؤُا عليه من المَعاصي فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع علوِّ شأنِه واختصاصِه بعظائمِ النِّعمِ والكراماتِ لمَّا ألمَّ بصغيرةٍ نزلَ عن منزلتِه ووبَّخْته الملائكةُ بالتَّمثيلِ والتَّعريضِ حتَّى تفطَّنَ فاستغفرَ ربَّه وأنابَ ووُجد منه ما يُحكى من بكائِه الدَّائبِ وغمِّه الواصبِ وندمِه الدَّائمِ فما الظنُّ بهؤلاءِ الكَفَرةِ والأذلِّينَ من كلِّ ذليلٍ المرتكبينَ لأكبرِ الكبائرِ المصرِّين على أعظمِ المَعَاصي أو تذكَّر قصَّته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وصُنْ نفسَك أنْ تزلَّ فيما كُلِّفت من مصابرتِهم وتحمُّلِ أذيَّتهم كيلا يلقاكَ ما لقيه من المعاتبةِ {ذَا الايد} أي ذَا الُقوَّة يقال فلانٌ أيدٌ وذُو أيدٍ وآدٌ بمعنى، وإيادُ كلِّ شيءٍ ما يُتقوَّى بهِ {إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجَّاعٌ إلى مرضاةِ الله تعالى وهو تعليلٌ لكونِه ذَا الأيدِ ودليلٌ على أنَّ المرادَ به القَّوةُ في الدِّينِ فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يصومُ يومًا ويفطرُ يومًا ويقوم نصفَ اللَّيلِ.{إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ} استئنافٌ سيقَ لتعليلِ قوَّتِه في الدِّينِ وأوابيَّتِه إلى مرضاتِه تعالى ومع متعلقة بالتَّسخيرِ، وإيثارُها على اللامِ لما أُشير إليه في سورةِ الأنبياءِ من أنَّ تسخيرَ الجبال له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يكن بطريقِ تفويضِ التَّصرُّفِ الكلِّي فيها إليهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كتسخيرِ الرِّيحِ وغيرِها لسليمانَ عليه السَّلامُ بل بطريقِ التَّبعيةِ له عليه الصلاَّةُ والسَّلامُ والاقتداء به في عبادةِ الله تعالى. وقيل: بما بعدَها وهو أقربُ بالنسبةِ إلى ما في سورة الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ {يُسَبّحْنَ} أي يُقدسن الله عزَّ وجلَّ بصوتٍ يتمثلُ له أو بخلقِ الله تعالى فيها الكلامَ أو بلسانِ الحالِ وقيل: يسرن معه من السِّباحةِ وهو حالٌ من الجبالِ وضع موضعَ مُسبِّحات للدِّلالةِ على تجدُّدِ التَّسبيحِ حالًا بعد حالٍ أو استئنافٌ مبينٌ لكيفَّيةِ التَّسخيرِ {بالعشى والإشراق} أي وقتَ الإشراقِ وهو حين تشرقُ الشَّمسُ أي تُضيء ويصفُو شعاعُها وهو وقت الضُّحى وأما شروقُها فطلُوعها يقال شرقتِ الشَّمسُ ولمَّا تشرقُ. وعن أمِّ هانىءٍ رضي الله عنها أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صلَّى صلاة الضحى وقالَ: هذهِ الإشراقُ. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهُمَا: ما عرفتُ صلاةَ الضُّحى إلاَّ بهذِه الآيةِ.{والطير} عطفٌ على الجبالَ {مَحْشُورَةً} حالٌ من الطَّيرَ والعاملُ سخَّرنا أي وسخَّرنا الطَّيرَ حالَ كونِها محشورةٌ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما كانَ إذا سبَّح جاوبْتُه الجبالُ بالتَّسبيحِ واجتمعتْ إليه الطَّيرُ فسبَّحتْ وذلك حشرُها. وقُرئ والطَّيرَ محشُورةً بالرَّفعِ على الابتداءِ والخبريةِ {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} استئنافٌ مقررٌ لمضمون ما قبله مصرِّح بما فُهم منه إجمالًا من تسبيحِ الطَّيرِ أي كلُّ واحدٍ من الجبالِ والطَّيرِ لأجلِ تسبيحِه رجَّاعٌ إلى التَّسبيحِ ووضعُ الأوَّابِ موضعَ المسبِّحِ إمَّا لأنَّها كانتْ ترجِّع التَّسبيحَ والمرجِّعُ رجَّاعٌ لأنَّه يَرْجِعُ إلى فعله رجوعًا بعد رجوعٍ، وإمَّا لأنَّ الأوَّابَ هو التَّوابُ الكثيرُ الرجوعِ إلى الله تعالى، ومن دأبه إكثارُ الذِّكرِ وإدامُة التَّسبيحِ والتَّقديسِ وقيل الضَّميرُ لله عزَّ وجلَّ أي كلٌّ من داودَ والجبالِ والطَّيرِ لله أوابٌ أي مسبِّحٌ مرجِّعٌ للتَّسبيحِ {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} قوَّيناهُ بالهَيبةِ والنُّصرةِ وكثرةِ الجنودِ. وقُرئ بالتَّشديدِ للمبالغة قيل: كان يبيتُ حول محرابِه أربعون ألفَ مستلئمٍ وقيل: ادَّعى رجلٌ على آخرَ بقرةً وعجزَ عن إقامةِ البيِّنةِ فأوحى الله تعالى إليه في المنامِ أنِ اقتل المدَّعى عليهِ فتأخَّر فأُعيد الوحيُ في اليقظةِ فأعلَمه الرَّجلُ فقال: إنَّ الله تعالى لَمْ يأخذْنِي بهذا الذَّنبِ ولكنْ بأنِّي قتلتُ أبا هَذا غيلةً فقال النَّاسُ: إنْ أذنبَ أحدٌ ذنبًا أظهرَهُ الله تعالى عليه فقتلَه فهابُوه وعظمتْ هيبتُه في القلوبِ {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} النُّبوةَ وكمالَ العلمِ وإتقانَ العملِ وقيل: الزَّبورَ وعلمَ الشَّرائعِ وقيل: كلُّ كلامٍ وافقَ الحقَّ فهو حكمةٌ {وَفَصْلَ الخطاب} أي فصل الخصام بتمييزِ الحقِّ عن الباطل أو الكلامَ المُلخَّصَ الذي ينبه المخاطَب على المرامِ من غير التباس لما قد رُوعي فيه مظانُّ الفصل والوصل والعطفِ والاستئنافِ والإظهارِ والإضمارِ والحذفِ والتَّكرارِ، وإنَّما سُمِّي به أمَّا بعدُ لأنَّه يفصل المقصودَ عمَّا سبق تمهيدًا له كالحمدِ والصَّلاةِ وقيل: هو الخطابُ الفصلُ الذي ليس فيه إيجازٌ يخلُّ ولا إطنابٌ مُملٌّ كما جاء في نعت كلام النُّبوةِ: «فَصْلٌ لا نَزْر ولا هَذْر». اهـ. .التفسير المأثور: قال السيوطي:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} أخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: سئل جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله عنهما عن {ص} فقالا: ما ندري ما هو.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {ص} قال: حادث القرآن.وأخرج ابن جرير عن الحسن ْرضي الله عنه في قوله أنه كان يقرأ {ص والقرآن} بخفض الدال، وكان يجعلها من المصاداة يقول عارض القرآن قال عبد الوهاب: أعرضه على عملك فأنظر أين عملك من القرآن.وأخرج ابن مردويه عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {ص} يقول: إني أنا الله الصادق.وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {ص} قال: صدق الله.وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {ص} محمد صلى الله عليه وسلم.وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس {ص والقرآن ذي الذكر} قال: نزلت في مجالسهم.وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {ص والقرآن ذي الذكر} قال: ذي الشرف.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة {بل الذين كفروا في عزة} قال: هاهنا وقع القسم {في عزة وشقاق} قال: في حمية وفراق.وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {بل الذين كفروا في عزة وشقاق} قال: معازين {شقاق} قال: عاصين وفي قوله: {فنادوا ولات حين مناص} قال: ما هذا بحين فرار.وأخرج الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن التميمي قال: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن قول الله {فنادوا ولات حين مناص} قال: ليس بحين تزور ولا فرار.وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله عنه أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: {ولات حين} قال: ليس بحين فرار قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت الأعشى وهو يقول:وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما {فنادوا ولات حين مناص} قال: نادوا والنداء حين لا ينفعهم وأنشد تذكرت.وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي ظبيان عن ابن عباس {ولات حين مناص} قال: لا حين فرار.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {ولات حين مناص} قال: ليس بحين مغاث.وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير {ولات حين مناص} ليس بحين جزع.وأخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه {ولات حين مناص} قال: وليس حين نداء.وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي في قوله: {ولات حين مناص} قال: نادوا بالتوحيد والعقاب حين مضت الدنيا عنهم، فاستناصوا التوبة حين زالت الدنيا عنهم.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {فنادوا ولات حين مناص} قال: نادى القوم على غير حين نداء، وأرادوا التوبة حين عاينوا عذاب الله، فلم ينفعهم، ولم يقبل منهم.وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه {ولات حين مناص} قال: ليس حين انقلاب.وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب بن منبه {ولات حين مناص} قال: إذا أراد السرياني أن يقول وليس يقول ولات.
|