الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ}.كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لتوطينِ قلوبِ المُؤمنين ببيانِ أنَّ الله تعالى ناصرُهم على أعدائِهم بحيثُ لا يقدرُون على صدِّهم عن الحجِّ ليتفرَّغُوا إلى أداءِ مناسكِه. وتصديرُه بكلمةِ التَّحقيقِ لإبرازِ الاعتناءِ التَّامِّ بمضمونهِ وصيغةُ المفاعلةِ إمَا للمبالغةِ أو للدِّلالةِ على تكرُّرِ الدَّفعِ فإنَّها قد تُجرَّدُ عن وقوعِ الفعلِ المتكرِّرِ من الجانبينِ فيبقى تكرُّره كما في الممارسةِ أي يبالغ في دفع غائلةِ المشركينَ وضررِهم الذي من جُملته الصَّدُّ عن سبيلِ الله مبالغةً من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرَّةً بعد أُخرى حسبما تجدَّدَ منهم القصدُ إلى الإضرارِ بالمسلمينَ كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} وقرئ {يدفعُ} والمفعولُ محذوفٌ. وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} تعليلٌ لما في ضمن الوعدِ الكريمِ من الوعيد للمشركينَ وإيذانٌ بأنَّ دفعهم بطريقِ القهرِ والخِزْيِ. ونفيُ المحبَّةِ كنايةٌ عن البُغضِ أي أنَّ اللَّهَ يُبغضُ كلَّ خَوَّانٍ في أماناته تعالى وهي أوامرُه ونواهيه أو في جميعِ الأماناتِ التي هي معظمُها كفورٌ لنعمته، وصيغةُ المُبالغةِ فيهما لبيان أنَّهم كذلك لا لتقييدِ البُغضِ بغايةِ الخيانةِ والكفرِ أو للمبالغةِ في نفيِ المحبَّةِ على اعتبارِ النَّفيِ أوَّلًا وإيراد معنى المبالغةِ ثانيًّا.{أَذِنَ} أي رُخِّصَ. وقرئ على البناء للفاعلِ أي أَذِن اللَّهُ تعالى: {لِلَّذِينَ يقاتلون} أي يُقاتلهم المشركون. والمأذونُ فيه محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه فإنَّ مقاتلة المُشركينَ إيَّاهُم دالَّةٌ على مقاتلتهم إيَّاهُم دلالةً نيِّرةً. وقرئ على صيغة المبنيِّ للفاعلِ أي يُريدون أنْ يُقاتلوا المشركين فيما سيأتي ويَحرصون عليه. فدلالتُه على المحذوفِ أظهرُ {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} أي بسبب أنَّهم ظُلموا. وهم أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كانَ المشركون يُؤذونهم وكانُوا يأتونَه عليه السَّلامُ بين مضروبٍ ومَشْجُوجٍ ويتظلَّمون إليه فيقول عليه السلام: «اصبرُوا فإنِّي لم أُومر بالقتالِ» حتَّى هاجرُوا فأُنزلتْ وهي أوَّلُ آيةٍ نزلتْ في القتالِ بعد ما نُهيَ عنه في نَيِّفٍ وسبعينَ آية: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وعدٌ لهم بالنَّصرِ وتأكيدٌ لما مرَّ من العدةِ الكريمةِ بالدَّفعِ، وتصريحٌ بأنَّ المرادَ به ليسَ مجرَّدَ تخليصهم من أيدي المشركين بلْ تغليبهم وإظهارَهم عليهم. والإخبارُ بقُدرتهِ تعالى على نصرِهم واردٌ على سَننِ الكبرياءِ وتأكيدُه بكلمة التَّحقيقِ واللاَّمِ لمزيد تحقيقِ مضمونِه وزيادةِ توطينِ نفوسِ المؤمنينَ.وقوله تعالى: {الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم} في حيِّز الجرِّ على أنَّه صفةٌ للموصولِ الأوَّلِ أو بيانٌ له أو بدلٌ منه أو في محلِّ النَّصبِ على المدحِ أو في محلِّ الرَّفعِ بإضمارِ مبتدأ والجملةُ مرفوعةً على المدح والمرادُ بديارِهم مكَّةُ المعظَّمةُ {بِغَيْرِ حَقّ} متعلق بـ {أُخرجوا} أي أُخرجوا بغير ما يُوجب إخراجَهم وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يقولواْ رَبُّنَا الله} بدلٌ من حقَ أي بغير موجبٍ سوى التَّوحيدِ الذي ينبغي أنْ يكون مُوجبًا للإقرار والتَّمكينِ دون الإخراج والتَّسيير لَكِن لا على الظَّاهر بل على طريقة قولِ النَّابغةِ:وقيل الاستثناءُ منقطعٌ. {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} بتسليطِ المؤمنين على الكافرين في كلِّ عصرٍ وزمانٍ. وقرئ {دِفاعُ} {لَّهُدّمَتْ} لخُرِّبتْ باستيلاء المشركينَ على أهلِ الملل. وقرئ {هُدِمت} بالتَّخفيفِ {صوامع} للرَّهابنةِ {وَبِيَعٌ} للنَّصارى {وصلوات} أي وكنائسُ لليهودِ سُمِّيتْ بها لأنَّها يُصلَّى فيها وقيل أصلها صلوتا بالعبريَّةِ فعُرِّبتْ {ومساجد} للمسلمين {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيرًا} أي ذكرًا كثيرًا أو وقتًا، صفةٌ مادحة للمساجدِ خُصَّت بها دلالةً على فضلها وفضلِ أهلها وقيل صفةٌ للأربعِ وليس كذلك فإنَّ بيان ذكرِ الله عز وجل في الصَّوامعِ والبيعِ والَكِنائسِ بعد انتساخِ شرعيَّتها ممَا لا يقتضيه المقامُ ولا يرتضيه الأفهامُ {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} أي وباللَّهِ لينصرنَّ اللَّهُ من ينصر أولياءَهُ أو من ينصر دينَه ولقد أنجز اللَّهُ عزَّ سلطانُه وعدَهُ حيث سلَّطَ المهاجرين والأنصارَ على صناديدِ العربِ وأكاسرةِ العجمِ وقياصرةِ الرُّوم وأورثهم أرضَهم وديارَهم {إِنَّ الله لَقَوِىٌّ} على كلِّ ما يُريده من مراداتهِ التي من جُملتها نصرُهم {عَزِيزٌ} لا يُمانعه شيءٌ ولا يُدافعه.{الذين إِنْ مكناهم في الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَاتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} وصفٌ من الله عز وجل للذين أُخرجوا من ديارِهم بما سيكون منهم من حسن السِّيرةِ عند تمكينه تعالى إيَّاهُم في الأرض وإعطائه إيَّاهم زمامَ الأحكامِ منبىءٌ عن عِدَّةٍ كريمة على أبلغ وجهٍ وألطفِه. وعن عثمانَ رضي الله عنه هذا واللَّهِ ثناءٌ قبل بلاءٍ. يُريد أنَّه تعالى أثنى عليهم قبلَ أنْ يُحدثوا من الخيرِ ما أحدثوا. قالوا وفيه دليلٌ على صحَّة أمر الخلفاءِ الرَّاشدينَ لأنَّه تعالى لم يعطِ التَّمكينَ ونفاذَ الأمرِ مع السِّيرةِ العادلةِ غيرهم من المهاجرين ولا حظَّ في ذلك للأنصارِ والطُّلقاءِ. وعن الحسنِ رحمه الله هم أمةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وقيل الذينَ بدلٌ من قوله: {مَنْ ينصرُه} {وَللَّهِ} خاصَّةً {عاقبة الأمور} فإنَّ مرجعَها إلى حُكمهِ وتقديره فقط. وفيه تأكيدٌ للوعد بإظهار أوليائِه وإعلاءِ كلمتهِ. اهـ. .قال الألوسي: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ}.كلام مستأنف مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج وذكر أن ذلك متصل بقوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ} [الحج: 25] وإن ما وقع في البين من ذكر الشعائر مستطرد لمزيد تهجين فعلهم وتقبيحهم لازدياد قبح الصد بازدياد تعظيم ما صد عنه، وتصديره بكلمة التحقيق لإبراز الاعتناء التام بمضمونه، وصيغة المفاعلة إما للمبالغة أو للدلالة على تكرر الدفع فإنها قد تتجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين فيبقى تكرره كالممارسة أي إن الله تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وضررهم الذي من حملته الصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام مبالغة من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى حسبما يتجدد منهم القصد إلى الإضرار بهم كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [المائدة: 64].وقرأ أبو عمرو، وابن كثير {يدفع} والمفعول محذوف كما أشير إليه، وفي البحر أنه لم يذكر ما يدفعه سبحانه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم، وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي العموم بل هو غير صحيح.وقوله تعالى: {ءامَنُواْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين وإيذان بأن دفعهم بطريق القهر والخزي.وقيل: تعليل للدفاع عن المؤمنين ببغض المدفوعين على وجه يتضمن إن العلة في ذلك الخيانة والكفر، وأوثر {لاَ يُحِبُّ} على يبغض تنبيهًا على مكان التعريض وأن المؤمنين هم أحباء الله تعالى، ولعل الأول أولى لإيهام هذا إن الآية من قبيل قولك: إني أدفع زيدًا عن عمرو لبغضي زيدًا وليس في ذلك كثير عناية بعمر وأي أن الله تعالى يبغض كل خوان في أماناته تعالى وهي أوامره تعالى شأنه ونواهيه أو في جميع الأمانات التي هي معظمها كفور لنعمه عز وجل، وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك لا للتقييد المشعر بمحبة الخائن والكافر أو لأن خيانة أمانة الله تعالى وكفران نعمته لا يكونان حقيرين بل هما أمران عظيمان أو لكثرة ما خانوا فيه من الأمانات وما كفروا به من النعم أو للمبالغة في نف يالمحبة على اعتبار النفي أولًا وإيراد معنى المبالغة ثانيًّا كما قيل في قوله تعالى: {وأن الله بظلام لّلْعَبِيدِ} [الحج: 10] وقد علمت ما فيه. وأيًّا ما كان فالمراد نفي الحب عن كل فرد فرد من الخونة الكفرة، {أَذِنَ} أي رخص، وقرأ ابن عباس وابن كثير، وابن عامر، وحمزة والكسائي {أَذِنَ} بالبناء للفاعل أي أذن الله تعالى: {لِلَّذِينَ يقاتلون} أي يقاتلهم المشركون والمأذون فيه القتال وهو في قوة المذكور لدلالة المذكور عليه دلالة نيرة.وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر، ويعقوب {يقاتلون} على صيغة المبنى للفاعل أي يريدون أن يقاتلوا المشركين في المستقبل ويحرصون عليه فدلالته على المحذوف أنور {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} أي بسبب أنهم ظلموا.والمراد بالموصول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين في مكة فقد نقل الواحدي وغيره أن المشركين كانوا يؤذونهم وكانوا يؤتون النبي عليه الصلاة والسلام بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فانزلت هذه الآية وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية على ما روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه عبد الرزاق، وابن المنذر عن الزهري.وأخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت فيه {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] وفي الأكليل للحاكم أن أول آية نزلت في ذلك {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} [التوبة: 111]، وروى البيهقي في الدلائل وجماعة أنها نزلت في أناس مؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاتبعهم كفار قريش فأذن الله تعالى لهم في قتالهم وعدم التصريح بالظالم لمزيد السخط تحاشيئًّا عن ذكره.{وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وعد لهم بالنصر وتأكيد لما مر من العدة وتصريح بأن المراد به ليس مجرد تخليصهم من أيدي المشركين بل تغليبهم وإظهارهم عليهم، وقد أخرج الكلام على سنن الكبرياء فإن الرمزة والابتسامة من الملك الكبير كافية في تيقن الفوز بالمطلوب وقد أوكد تأكيدًا بليغًا زيادة في توطين نفوس المؤمنين.{الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم} في حيز الجر على أنه صفة للموصول قبل أو بيان له أو بدل منه أو في محل النصب على المدح أو في محل الرفع بإضمار مبتدأ، والجملة مرفوعة على المدح، والمراد الذين أخرجهم المشركون من مكة {بِغَيْرِ حَقّ} متعلق بالإخراج أي أخرجوا بغير ما يوجب إخراجهم.وجوز أن يكون صفة مصدر محذوف أي أخرجوا إخراجًا كائنًا بهذه الصفة، واختار الطبري كونه في موضع الحال أي كائنين بغير حق مترتب عليهم يوجب إخراجهم، وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يقولواْ رَبُّنَا الله} استثناء متصل من {حَقّ} وأن وما بعدها في تأويل مصدر بدل منه لما في غير من معنى النفي، وحاصل المعنى لا موجب لإخراجهم إلا التوحيد وهو إذا أريد بالموجب الموجب النفس الأمري على حد قول النابغة:وجوز أن يكون الإبدال من غير وفي أخرجوا معنى النفي أي لم يقروا في ديارهم إلا بأن يقولوا الخ وهو وهو كما ترى، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعًا وأوجبه أبو حيان أي ولَكِن أخرجوا بقولهم ربنا الله، وأوجب نصب ما بعد إلا كما أوجبوه في قولهم: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، ورد كونه متصلًا وكون ما بعد لا بدلًا من {حَقّ} بما هو أشبه شيء بالمغالطة، ويفهم من كلامه جواز أن تكون إلا بمعنى سوى صفة لحق أي أخرجوا بغير حق سوى التوحيد، وحاصله أخرجوا بكونهم موحدين.{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ} تحريض على القتال المأذون فيه بإفادة أنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية لينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم فكأنه لما قيل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون} [الحج: 39] الخ قيل فليقاتل المؤمنون فلولا القتال وتسليط الله تعالى المؤمنين على المشركين في كل عصر وزمان لهدفت متعبداتهم ولذهبوا شذر مذر، وقيل: المعنى لولا دفع الله بعض الناس ببعض بتسليط مؤمني هذه الأمة على كفارها لهدمت المتعبدات المذكورة إلا أنه تعالى سلط المؤمنين على الكافرين فبقيت هذه المتعبدات بعضها للمؤمنين وبعضها لمن في حمايتهم من أهل الذمة وليس بذاك، وقال مجاهد: أي لولا دفع ظلم قوم بشهادة العدول ونحو ذلك لهدمت إلخ.وقال قوم: أي لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقالت فرقة: أي لولا دفع العذاب عن الأشرار بدعاء الأخيار، وقال قطرب: أي لولا الدفع بالقصاص عن النفوس.وقيل بالنبيين عليهم السلام عن المؤمنين والكل مما لا يقتضيه المقام ولا ترتضيه ذوو الأفهام.
|