فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الموطأ: عن أبي هُريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يسوق بدنة فقال: اركَبْها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركَبْها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبْها ويلك في الثانية أو الثالثة» فقول الرجل: إنها بدنة، متعين لأرادة هديه للحجّ.
وتقديم {البُدن} على عامله للاهتمام بها تنويهًا بشأنها.
والاقتصار على البدن الخاصصِ بالإبل لأنها أفضل في الهَدي لكثرة لحمها، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة، واسم ذلك هَدي.
ومعنى كونها من شعائر الله: أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة.
وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهَدْي في جلده إشعارًا.
قال مالك في الموطأ: «كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هديا من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة، يقلّده قبل أن يُشعره...يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر... بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر».
وقد عدها في جملة الحرمات في قوله: {لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي} في سورة العقود (2).
وتقديم {لكم} على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم، وتقديم {فيها} على متعلّقه وهو {خير} للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد.
والخير: النّفع، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجِلالها ونعالها وقَلائدها.
وما يحصل للمُهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم النّحر، وخير الآخرة من ثواب المُهدين، وثواب الشكر من المعطَيْن لحومَها لربّهم الذي أغناهم بها.
وفرع على ذلك أن أمَرَ الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها.
و{صواف}: جمع صافّة.
يقال: صف إذا كان مع غيره صفّا بأن اتّصل به.
ولعلّهم كانوا يصفُّونها في المنحر يوم النّحر بمِنى، لأنه كان بمِنى موضع أُعدّ للنحر وهو المنحَر.
وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبد الله في حجّة الوداع قال فيه: «ثم انصرف رسول الله إلى المنحرَ فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثًا وستين بَدنة جعل يطعنها بحَربة في يده ثم أعطى الحربة عليًّا فنحر ما غَبَر، أي ما بقي وكانت مائة بدنة» وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة.
وانتصب {صوافّ} على الحال من الضمير المجرور في قوله: {عليها}.
وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مَشاهد البُدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالًا.
وقريب منه قوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4].
ومعنى {وجبت} سقطت، أي إلى الأرض، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال.
والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعًا إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر مِن هديه، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة.
والأمر في قوله: {فكلوا منها} مجمل، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب، وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأنّ المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه.
وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المُهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب.
واختلف الفقهاء في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة.
فقال مالك: يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة، وهو عنده مستحبّ ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاءِ الصيد ونذر المساكين، والحُجّة لمالك صريح الآية.
فإنها عامة إلا ما قام الدّليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة.
وقال أبو حنيفة: يأكل من هدي التمتّع والقران، ولا يأكل من الواجب الذي عيّنه الحاج عند إحرامه.
وقال الشافعي: لا يأكل من لحوم الهدايا بحالٍ مستندًا إلى القياس، وهو أن المُهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه.
كذا قال ابن العربي.
وإذا كان هذا قصارى كلام الشافعي فهو استدلال غير وجيه ولفظ القران ينافيه لاسيما وقد ثبت أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة.
وقال أحمد: يؤكل من الهدايا الواجبة إلاّ جزاء الصيد والنذر.
وأما الأمر في قوله: {وأطعموا القانع والمعتر} فقال الشافعي: للوجوب، وهو الأصح.
قال ابن العربي وهو صريح قول مالك.
وقلت: المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المُهدي على نحر هديه ولم يتصدق منه ما كان آثمًا.
والقانع: المتصف بالقنوع، وهو التذلل.
يقال: قنَع من باب سَأل.
قُنوعًا بضم القاف إذا سأل بتذلّل.
وأما القناعة ففعلها من باب تَعِب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب.
ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي:
العَبْد حرّ إن قَنِع ** والحر عبد إن قنَع

فاقنَع ولا تقنَع فما ** شيء يشين سوى الطمَع

وللزمخشري في مقاماته: يا أبا القاسم اقنَع من القَناعة لا من القنوع، تستغْن عن كل مِعْطَاءٍ ومنوع.
وفي الموطأ في كتاب الصيد قال مالك: والقانع هو الفقير.
و{المعتَرّ} اسم فاعل من اعترّ، إذا تعرّض للعطاء، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء، يقال: اعترّ، إذا تعرّض.
وفي الموطأ في كتاب الصيد قال مالك: وسمعت أنّ المعترّ هو الزائر، أي فتكون من عرا إذا زار. والمراد زيارة التعرض للعطاء.
وهذا التفسير أحسن ويرجحه أنه عطف {المعترّ} على {القانع} فدل العطف على المغايرة، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله: {وأطعموا البائس الفقير} [الحج: 28].
وجملة {وكذلك سخرناها لكم} استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس.
والأمارة الدالة على أرادته ذلك أنه سخّرها للناس مع ضعف الإنسان وقوّة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن.
ولولا أنّ الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجزَ من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له.
وقوله: {كذلك} هو مثل نظائره، أي مثلَ ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم.
ومعنى {لعلكم تشكرون} خلقناها مسخرة لكم استجلابًا لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة.
وهذا تعريض بالمشركين إذا وضعوا الشكر موضع الشكر.
{لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولَكِن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ}.
جملة في موضع التعليل لجملة {كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون} [الحج: 36]، أي دلّ على أنّا سخرناها لكم لتشكروني أنه لا انتفاع لله بشيء من لحومها ولا دمائها حين تتمكنون من الانتفاع بها فلا يريد الله منكم على ذلك إلا أن تتّقُوه.
والنَيْل: الإصابة.
يقال ناله، أي أصابه ووصل إليه.
ويقال أيضًا بمعنى أحرز، فإن فيه معنى الإصابة كقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وقوله: {وهموا بما لم ينالوا} [التوبة: 74].
والمقصود من نفي أن يصل إلى الله لحومها ودماؤها إبطال ما يفعله المشركون من نضح الدماء في المذابح وحول الكعبة وكانوا يذبحون بالمَرْوَةِ.
قال الحسن: كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرّحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قربانًا لله تعالى، يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج.
وفي قوله: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولَكِن يناله التقوى منكم} إيماء إلى أن إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولَكِنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا يُنتفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنّحر أو الذبح وإن المقصد من شرعها انتفاع الناس المُهدين وغيرهم.
فأما المهدون فانتفاعهم بالأكل منها في يوم عيدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم صيام يوم النّحر: «يوم تأكلون فيه من نُسككم» فذلك نفع لأنفسهم ولأهاليهم ولو بالادخار منه إلى رجوعهم إلى آفاقهم.
وأما غيرهم فانتفاع من ليس له هدْيٌ من الحجيج بالأكل مما يهديه إليهم أقاربهم وأصحابهم، وانتفاع المحاويج من أهل الحرم بالشبع والتزود منها والانتفاع بجلودها وجِلالها وقلائدها.
كما أوما إليه قوله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد} [المائدة: 97].
وقد عرض غير مرة سؤال عما إذا كانت الهدايا أوفر من حاجة أهل الموسم قطعًا أو ظنًا قريبًا من القطع كما شوهد ذلك في مواسم الحجّ، فما يبقى منها حيًّا يباع وينفق ثمنه في سدّ خلة المحاويج أجدَى من نحره أو ذَبحه حين لا يَرغب فيه أحد، ولو كانت اللحوم التي فاتَ أن قُطعّت وكانت فاضلة عن حاجة المحاويج يعمل تصبيرها بما يمنع عنها التعفُّن فيُنتفع بها في خلال العام أجدى للمحاويج.
وقد ترددتْ في الجواب عن ذلك أنظار المتصدّين للإفتاء من فقهاء هذا العصر، وكادوا أن تتفق كلمات من صدرت منهم فتاوى على أن تصبيرها مناف للتعبد بهَديها.
أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج، لينتفع بها المحتاجون في عامهم، أوفقُ بمقصد الشارع تجنبًا لإضاعَة ما فَضِل منها رعيًّا لمقصد الشريعة من نفع المحتاج وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} [الحج: 36] وقوله: {وكذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم}، جمعًا بين المقاصد الشرعية.
وتعرض صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يُتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول طلبًا لفضيلة المبادرة، فإن التقوى التي تصِل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها.
وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفَرس الحُبُس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع، وهي المعاوضة لِرَبْع الحبس إذا خرب.
وحكم الهدايا مركب من تعبّد وتعليل، ومعنى التعليل فيه أقوى، وعلّته انتفاع المسلمين، ومسلك العلّة الإيماء الذي في قوله تعال: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} [الحج: 36].
واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدَعون أحدًا يأكله.
وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رمادًا ويتوهمون أنّ رائحة الشواء تسرّ الآلهة المتقرب إليها بالقرابين، وكان المصريُّون يُلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدّسة.
وقرأ الجمهور {يَنال ويَناله} بتحتية في أولهما.
وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل.
وربما كانوا يقذفون بمِزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السّباع أو تفسد.
ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدّق ببعضها على المحتاجين.
و{يناله} مشاكلة لـ: {ينال} الأول، استعير النيل لتعلّق العلم.
شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيهًا وجهّه الحصول في كلّ وحسنته المشاكلة.
و مِن في قوله: {مِنكم} ابتدائية.
وهي ترشيح للاستعارة، ولذلك عبّر بلفظ {التقوى منكم} دون: تقواكم أو التقوى.
مجردًا مع كون المعدول عنه أوجز لأنّ في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة.
{كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هدَاكُمْ وَبَشِّرِ المحسنين}.
تكرير لجملة: {كذلك سخرناها لكم} [الحج: 36]، وليبنى عليه التنبيه إلى أن الثناء على الله مسخّرها هو رأس الشكر المنبه عليه في الآية السابقة، فصار مدلول الجملتين مترادفًا.
فوقع التأكيد.
فالقول في جملة {كذلك سخرها لكم لتكبروا الله} كالقول في أشباهها.
وقوله: {على ما هداكم} {على} فيه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن، أي لتكبّروا الله عند تمكنكم من نحرها. وما موصولة، والعائد محذوف مع جارّه. والتقديرُ: على ما هداكم إليه من الأنعام. والهداية إليها: هي تشريع الهدايا في تلك المواقيت لينتفع بها الناس ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاةَ التوحيد لا يفارقون ذلك المكان، والخطاب للمسلمين.
وتغيير الأسلوب تخريج على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار للإشارة إلى أنهم قد اهتدوا وعملوا بالاهتداء فأحسنوا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر}.
قد قدمنا أنه تعالى أمر بالأكل من بهيمة الأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم بأنواعها الثمانية، وأمر بإطعام البائس الفقير منها. وأمر بالأكل من البدن وإطعام القانع والمعتر منها، وما كان من الإبلن فهو من البدن بلا خلاف.
واختلفوا في البقرة، هل هي بدنة، وقد قدمنا الحديث الصحيح أن البقرة من البدن، وقد قدمنا أيضًا ما يدل على أنها غير بدنة، وأظهرهما أنها من البدن، وللعلماء في تفسير القانع والمعتر أقوال متعددة متقاربة أظهرها عندي: أن القانع هو الطامع الذي يسأل أن يعطى من اللحم ومنه قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني ** مفاقره أعف من القنوع

يعني أعف من سؤال الناس، والطمع فيهم، وأن المعتر هو الذي يعترى متعرضًا للإعطاء من غير سؤال وطلب، والله أعلم وقد قدمنا حكم الأكل من أنواع الهدايا والضحايا، وأقوال أهل العلم في ذلك بما أغنى عن إعادته هنا.