الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الخامسة واختلفوا في التَّثْويب لصلاة الصبح وهو قول المؤذّن: الصلاة خير من النوم فقال مالك والثوريّ والليث: يقول المؤذن في صلاة الصبح بعد قوله: حيّ على الفلاح مرتين الصلاة خير من النوم مرتين؛ وهو قول الشافعيّ بالعراق، وقال بمصر: لا يقول ذلك.وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقوله بعد الفراغ من الأذان إن شاء، وقد روى عنهم أن ذلك في نفس الأذان؛ وعليه الناس في صلاة الفجر.قال أبو عمر: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي مَحْذُورة: أنه أمره أن يقول في أذان الصبح «الصلاة خير من النوم» وروى عنه أيضًا ذلك من حديث عبد الله بن زيد.وروي عن أنس أنه قال: من السنة أن يقال في الفجر «الصلاة خير من النوم» وروى عن ابن عمر أنه كان يقوله؛ وأما قول مالك في «الموطأ» أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يُؤْذِنه بصلاة الصبح فوجده نائمًا فقال: الصلاة خير من النوم؛ فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح فلا أعلم أن هذا روي عن عمر من جهة يُحتج بها وتُعلم صحتها؛ وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له «إسماعيل» فاعرفه؛ ذكر ابن أبي شيبة حدّثنا عَبْدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن رجل يقال له «إسماعيل» قال: جاء المؤذّن يُؤْذِن عمر بصلاة الصبح فقال «الصلاة خير من النوم» فأُعجِب به عمر وقال للمؤذّن: «أقرّها في أذانك».قال أبو عمر: والمعنى فيه عندي أنه قال له: نداء الصبح موضع القول بها لا هاهنا، كأنه كرِه أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثه الأُمراء بعد.قال أبو عمر: وإنما حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه؛ لأن التثويب في صلاة الصبح أشهر عند العلماء، والعامة من أن يظنّ بعمر رضي الله عنه أنه جَهِل شيئًا سَنّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذّنيه، بالمدينة بِلالا؛ وبمكة أبا مَحْذُورة؛ فهو محفوظ معروف في تأذين بلال، وأذان أبي مَحْذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم؛ مشهور عند العلماء.روى وَكِيع عن سفيان عن عِمران بن مسلم عن سُوَيد بن غَفَلَة أنه أرسل إلى مؤذّنه إذا بلغت «حيّ على الفلاح» فقل: الصلاة خير من النوم؛ فإنه أذان بلال؛ ومعلوم أن بِلالًا لم يؤذّن قط لعمر، ولا سمِعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة بالشام إذ دخلها.السادسة وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذّن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذّن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور؛ وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بلالًا يؤذّن بليل فكُلُوا واشربوا حتى ينادي ابن أُمِّ مَكتوم» وقال أبو حنيفة والثوريّ ومحمد بن الحسن: لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحُويرث وصاحبه: «إذا حضرت الصلاة فأذّنا ثم أَقيما وليؤمكما أكبركما» وقياسًا على سائر الصلوات.وقالت طائفة من أهل الحديث؛ إذا كان للمسجد مؤذّنان أذّن أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر.السابعة واختلفوا في المؤذّن يؤذّن ويقيم غيره؛ فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أنه لا بأس بذلك؛ لحديث محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إذ رأى النداء في النوم أن يلقِيه على بلال؛ فأذّن بلال، ثم أمر عبد الله بن زيد فأقام.وقال الثوريّ والليث والشافعي: من أذّن فهو يقيم؛ لحديث عبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم عن زياد بن نُعَيم عن زياد بن الحرث الصُّدَائيّ قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أول الصبح أمرني فأذّنت، ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخا صُدَاءَ أذّن ومن أذّن فهو يُقِيم» قال أبو عمر: عبد الرحمن بن زياد هو الإفريقيّ، وأكثرهم يضعِّفونه، وليس يروى هذا الحديث غيره؛ والأول أحسن إسنادًا إن شاء الله تعالى.وإن صح حديث الإفريقي فإن من أهل العلم من يوثقه ويثني عليه؛ فالقول به أولى لأنه نصّ في موضع الخلاف، وهو متأخر عن قصة عبد الله بن زيد مع بلال، والآخر؛ فالآخر من أمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع، ومع هذا فإني أستحب إذا كان المؤذِّن واحدًا راتبًا أن يتولى الإقامة؛ فإن أقامها غيره فالصلاة ماضية بإجماع، والحمد لله.الثامنة وحكم المؤذّن أن يَتَرسّل في أذانه، ولا يُطَرِّب به كما يفعله اليوم كثير من الجهال، بل وقد أخرجه كثير من الطَّغَام والعوامّ عن حدّ الإطراب؛ فيرجّعون فيه التّرجيعات، ويكثرون فيه التقطيعات حتى لا يفهم ما يقول، ولا بما به يصول.روى الدَّارَقُطْنيّ من حديث ابن جُرَيج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذّن يُطَرِّب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلًا سمحا وإلا فلا تؤذّن» ويستقبل في أذانه القبلة عند جماعة من العلماء، ويلوي رأسه يمينًا وشمالًا في «حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح» عند كثير من أهل العلم.قال أحمد: لا يدور إلا أن يكون في منارة يريد أن يُسمِع الناس؛ وبه قال إسحاق، والأفضل أن يكون متطهرًا.التاسعة ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين وإن أتمه جاز؛ لحديث أبي سعيد؛ وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدًا رسول الله قال أشهد أن محمدًا رسول الله ثم قال حيّ على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حيّ على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة» وفيه عن سعد بن أبي وقّاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبدهُ ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولًا وبالإسلام دينًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه».العاشرة وأما فضل الأذان والمؤذّن فقد جاءت فيه أيضًا آثار صحاح؛ منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضُرَاط حتى لا يَسمع التَّأذين» الحديث.وحسبك أنه شِعار الإسلام، وعَلمٌ على الإيمان كما تقدّم.وأما المؤذّن فروى مسلم عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المؤذّنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة» وهذه إشارة إلى الأمن من هول ذلك اليوم. والله أعلم.والعرب تُكْنى بطول العنق عن أشراف القوم وساداتهم؛ كما قال قائلهم:
وفي الموطأ عن أبي سعيد الخدري سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يَسمع مَدَى صوت المؤذّن جِنٌّ ولا إنس ولا شيء إلا شهِد له يوم القيامة» وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أذن مُحتسبًا سبع سنين كُتبت له براءة من النار» وفيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أذّن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه في كل يوم سِتون حسنة ولكل إقامة ثلاثون حسنة» قال أبو حاتم: هذا الإسناد منكر والحديث صحيح.وعن عثمان بن أبي العاص قال: كان آخر ما عَهِد إليّ النبي صلى الله عليه وسلم «ألاَّ أَتَّخِذ مؤذّنًا يأخذ على أذانه أجرًا» حديث ثابت.الحادية عشرة واختلفوا في أخذ الأُجرة على الأذان؛ فكره ذلك القاسم بن عبد الرحمن وأصحاب الرأي، ورخص فيه مالك، وقال: لا بأس به.وقال الأوزاعيّ: ذلك مكروه، ولا بأس بأخذ الرزق على ذلك من بيت المال.وقال الشافعي: لا يرزق المؤذّن إلا من خُمْس الخُمْس سهم النبي صلى الله عليه وسلم.قال ابن المنذِر: لا يجوز أخذ الأُجرة على الأذان.وقد استدل علماؤنا بأخذ الأجرة بحديث أبي محذورة، وفيه نظر؛ أخرجه النسائيّ وابن ماجه وغيرهما قال: خرجت في نفر فكنا ببعض الطريق فأذّن مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذّن ونحن عنه مُتَنكّبون فصرخنا نحكيه نهزأ به؛ فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا قومًا فأقعدونا بين يديه فقال: «أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع» فأشار إليّ القوم كلهم وصدقوا؛ فأرسل كلهم وحبسني وقال لي: «قم فأذن» فقمت ولا شيء أكره إليّ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال: «قل الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله» ثم قال لي: «ارفع فمد صوتك أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح حيّ على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله» ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صُرَّة فيها شيء من فضّة، ثم وضع يده على ناصية أبي مَحْذُورة ثم أَمَرَّها على وجهه، ثم على ثدييه، ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرّة أبي مَحْذُورة؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك وبارك عليك» فقلت: يا رسول الله مُرني بالتّأذين بمكة، قال: «قد أمرتك».فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقدمت على عَتّاب بن أَسِيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذّنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لفظ ابن ماجه.الثانية عشرة قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أي أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح.رُوي أن رجلًا من النّصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: «أشهد أن محمدًا رسول الله» قال: حُرِق الكاذب؛ فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت بالبيت فأحرقته وأحرقت ذلك الكافر معه؛ فكانت عِبرة للخلق «والبلاءُ مُوَكَّلٌ بالمنطِق» وقد كانوا يُمهَلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يَستفتحوا، فلا يُؤخّروا بعد ذلك؛ ذكره ابن العربيّ. اهـ. .من فوائد ابن العربي في الآية: قال رحمه الله:قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}.فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ إلَى الصَّلَاةِ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ وَسَخِرُوا مِنْهُ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَذَانِ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا إنَّهُ ذُكِرَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ النَّصَارَى، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ، إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: حُرِقَ الْكَاذِبُ، فَسَقَطَتْ فِي بَيْتِهِ شَرَارَةٌ مِنْ نَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ، فَتَعَلَّقَتْ النَّارُ بِالْبَيْتِ فَأَحْرَقَتْهُ، وَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ الْكَافِرَ مَعَهُ؛ فَكَانَتْ عِبْرَةً لِلْخَلْقِ.وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ.وَقَدْ كَانُوا يُمْهِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَسْتَفْتِحُوا فَلَا يُؤَخَّرُوا بَعْدَ ذَلِكَ.الْمَسْأَلَة الثَّالِثَةُ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ، يَغْزُ حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِلَّا أَغَارَ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَتَجَنَّبُونَ الصَّلَاةَ فَيَجْتَمِعُونَ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ النَّصَارَى.
|