الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال نظام الدين النيسابوري: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)}التفسير:حرف الجر إذا دخل على (ما) الاستفهامية تحذف ألفها نحو (بم) و(عم) و(علام) و(لم) لشدّة الاتصال وكثرة الاستعمال. ثم إن كان الكلام مبنيا علي السؤال والجواب فالسائل والمجيب واحد وهو الله، والفائدة في هذا الأسلوب أن يكون إلى التفهيم أقرب. ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما وقع فيه التساؤل وبيان أن مطلب ما وضع للسؤال عن حقائق الأشياء المجهولة والشيء العظيم الذي تعجز العقول عن إدراكه أو يدعي فيه العجز يكون مجهولاً، فوقع بين المسؤول بما وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه، والمشابهة أحد أسباب المجاز.والنبأ العظيم القيامة بدليل الردع عن الاختلاف وللتهديد بعده. وتقديم الضمير وبناء الكلام عليه لتقوى الكلام لا لا للاختصاص فإن غير قريش أيضاً مختلفون في أمر بالبعث فمنهم من يثبت الروحاني في المعاد فقط، ومنهم من يشك فيه كقوله: {وما أظن الساعة قائمة} [الكهف: 36] ومنهم من يقطع بعدم البعث {إن هي إلا حياتنا الدنيا} [المؤمنون: 37] كان يسأل بعضهم بعضاً عن القيامة ويتحدثون عنها متعجبين من وقوعها. ويجوزأن يكون المفعول محذوفاً أي يتساءلون النبي والمؤمنون نحو تراءينا الهلال فيكون التساؤل بطريق الاستهزاء ويحتمل أن يكون الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً فقد كانوا جميعاً يتساءلون عنه، أما المؤمن فليزداد خشية واستعداد، وأما الكافر فلأجل الاستهزاء.وقيل: النبأ العظيم القرآن، واختلافهم فيه أن بعضهم جعلوه سحراً. وبعضهم شعراً وكهانة.وقيل: نبوّة محمد كانوا يقولون ما هذا الذي حدث {بل عجبوا إن جاءهم منذر منهم} [ق: 2] وقالت الشيعة: هو على قال القائل في حقه هو النبأ العظيم وفلك نوح وباب الله وانقطع الخطاب.قال أهل المعاني: تكرير الردع مع الوعيد دليل على غاية التهديد. وفي (ثم) إشارة إلى أن الوعيد الثاني أبلغ، ويجوز أن يكون الأول في الدنيا والثاني في الآخرة، أو الأول للكفار والثاني للمؤمنين.وقيل: الأول ردع عن الاختلاف والثاني عن الكفر. وحذف المفعول به أي سيعلمون أن ما يتساءلون عنه مختلفين فيه حق وصدق وذلك إذا اتصل العيان بالخبر. ومن قرأ الخطاب فقد سلك سبيل الالتفات. ثم عدد دلائل القدرة على البعث ودلائل الحكمة في الجزاء على أن كلاً منهما نعمة يجب أن تشكر بالتوفر على الطاقة ولا تكفر بالإقدام على المعصية. والمهاد الفراش، والأوتاد ما يشدّ بها أطناب الخمية، شبهت الجبال الراسيات بها لأنها تحفظ الأرض أن تميد بما عليها وقد سبق تقريره. والأزواج الأصناف المتقابلات القبيح بإزاء الحسن والطويل بحذاء القصير وغير ذلك من الأضداد. والسبات الراحة. والتركيب يدل على القطع والإزالة ومنه سبت الرجل رأسه إذا حلقه، والنوم يزيل التعب عن الإنسان فيستعقب الراحة قاله ابن الأعرابي والمبرد.وقال الزجاج وغيره: هو الموت وهذا التفسير لا يناسبه مقام تعداد النعم. واللباس ما يتغطى به والليل أخفى للويل. والمعاش مصدر أو اسم زمان لأن الناس يتقبلون فيه لوجوه تعيشهم. والشداد المحكمة التي لا تقبل الشق والخرق إلا ما شاء الله. والوهاج المتلألئ الوقاد. وفي كتاب الخليل: الوهج النار. ولا شك أن الشمس جامعة للنور والحرارة. والمعصرات السحاب بلغة قريش من أعصرت إذا شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك (أحصد الزرع) أي حان أن يحصد، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض وهذا القول مروي عن ابن عباس واختاره أبو العالية والربيع والضحاك.وقال مجاهد والكلبي ومقاتل وقتادة: هي الرياح التي تنشئ السحاب وتدرّ أخلافه فكأنها مبادئ الإنزال. الثجاج المنصب بكثرة يقال (ثجة وثج بنفسه) وفي الحديث: «أفضل الحج العج والثج» فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج صب دماء الهدي. ثم بين غاية الإنزال وهي إخراج الحب للإنسان، والنبات للأنعام غالباً، والجنات الملتفة لأجل التلذذ والتفكه.قال الكسائي والأخفش: والألفاف جمع لف بالكسر ويحتمل أن يكون جمع لفيف كشريف وأشراف.وقال في الكشاف: إنه لا واحد له كالأوزاع للجماعات المتفرقة ومنه قولهم (أخوة أخياف) أي مختلفة. واعلم أن هذه التسعة نظراً إلى حدوثها وإمكانها تدل على الفاعل المختار، ونظراً إلى ما فيها من الإتقان والإحكام تدل على كمال علمه وحكمته الذاتية. وبعد ثبوت كماله في هذه الأوصاف لم يبق للمتأمل شك في إمكان الحشر وقد أخبر الصادق عن وقوع هذا الممكن فوجب الجزم به على أن في إخراج النبات بعد جفافه ويبسه دليلاً ظاهراً على إمكان إخراج الموتى من القبور وبعثهم فلهذا رتب على هذه البيانات قوله: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} أي حدًّا توقت به الدنيا أو حدًّا لفصل الحكومات تنتهي الخلائق إليه. والنفخة هاهنا هي الثانية التي تكون عندها الحياة بدليل قوله: {فتأتون أفواجاً} أي طائفة طائفة إلى أن يتكامل اجتماعهم.وقال عطاء: كل نبي يأتي مع أمته.وروى صاحب الكشاف عن معاذ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال عليه السلام: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه وقال: تحشر عشرة أصناف من أمتيّ بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمي، وبعضهم صم بكم، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم. فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس، وأما الذين على صورة الخنازير فآكل السحت، وأما المنكسون فأكلة الربا، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعملاهلم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين هو أشد نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء»وفتح السماء شقها وانفطارها أو معنى آخر مغاير لهما. والضمير في {فكانت} للسماء كأنها لكثرة أبوابها المفتوحة لنزول الملائكة صارت بكليتها أبواباً كقوله: {وفجرنا الأرض عيوناً} [القمر: 12] ويحتمل أن يعود إلى مقدر دل عليه الكلام أي فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً.وقال الواحدي: المضاف محذوف أي فكانت ذات أبواب. وأما الجبال فإنه تعالى ذكر حالها بعبارات مختلفة، ويمكن الجمع بينها بأن تدرك أوّلاً {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} [الحاقة: 14] ثم تصير كالعهن ثم تصير كالهباء {وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً} وهي في كل هذه الأحوال باقية في مواضعها ثم تنسف بإرسال الرياح عليها {وإذا الجبال نسفت} [الانفطار: 4] ثم تطير هاهنا أحوال إذا برزت من تحتها {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة} [الكهف: 47] والثاني للجبال فتطيره في الهواء كالهباء فمن نظر إليها حسبها لتكاثفها أجساماً جامدة وهي بالحقيقة مارة بتحريك الهواء كما قال: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب} [النمل: 88] والثالث لها باعتبار أماكنها الأصلية فمن نظر إلى المواضع من بعيد ظن أن الجبال هناك حتى إذا دنا منها لم يجد فيها شيئاً {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} [النور: 39] وقد أشار إلى هذه الحالة بقوله: {وسيرت الجبال فكانت سراباً}.ثم أخبر عن أحوال السعداء والأشقياء يومئذ. وقدم ذكر هذا المقام غير محرر فلينظر الأشقياء لأن الكلام في السورة بني على التهديد فقال: {إن جهنم كانت} أي في علم الله أو هي مسلوبة الدلالة على المضي. والمرصاد إما اسم للمكان الذي يرصد فيه كالضمار للذي تضمر فيه الخيل، والمنهاج إسم للمكان الذي ينهج فيه. والمعنى أن خزنة جهنم يرصدون الكفار هناك، أو أن خزنتها يستقبلون المؤمنين عندها لأن جوازهم عليه بدليل قوله: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] ولهذا قال الحسن وقتادة: يعني طريقاً إلى الجنة. وإما صفة نحو (مقدام) بمعنى أنها ترصد أعداء الله. وقوله: {للطاغين} متعلق بما بعده أو بما قبله، وعلى التقديرين لابد من إضمار وهو لفظة لهم أو لأهل الجنة. ثم ذكر كيفية استقرارهم هناك فقال: {لابثين} ومن قرأ بغير ألف فهو أدل على الثبات.قال جار الله: اللابث من وجد منه اللبث فقط، واللبث من لا يكاد يبرح المكان أما الأحقاب فزعم الفراء أن أصله الترادف والتتابع أي دهوراً مترادفة لا تكاد تتناهى كلما مضى حقب تبعه آخر.وقال الحسن: الأحقاب لا يدري أحد ما هي ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدّون. وسأل هلال الهجري علياً فقال: الحقب مائة سنة السنة اثنا عشر شهراً والشهر ثلاثون يوماً واليوم ألف سنة.وقال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس: الحقب الواحد بضع وثمانون سنة والسنة ثلثمائة وستون يوماً واليوم ألف سنة من أيام الدنيا.ونحو هذا يروى عن ابن عباس وقطرب مرفوعاً..فإن قيل: عذاب أهل النار ولاسيما الطاغين غير متناه والأحقاب بالتفاسير المذكورة وإن كثر مبلغها متناهية، فلما وجه الجمع بينهما؟ قلنا: الحق متناه ولكن الأحقاب لا نسلم أنها متناهية فإن الجمع لا يلزم تناهي آحاده فيجوز أن يكون المعنى كلما مضى حقب تبعه آخر.قال الفراء: سلمنا أن الأحقاب تفيد التناهي لكن بالمفهوم والنصوص الدالة على التأبيد كقوله: {يريدون أن يخرجو من النار وماهم بخارجين منها} [المائدة: 37] تدل بالمنطوق ولا شك أن المنطوق راجح.وقال الزجاج: المعنى أنهم يلبثون فيه أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً، ثم ينقلون إلى جنس آخر غير الحميم والغساق. وذكر في الكشاف وجهاً آخر وهو أن يكون أحقاباً من حق بعامنا هذا إذا قل خيره. وحقب فلان ذا أخطأ الرزق فهو حقب كحذر وجمعه أحقاب فينتصب حالاً منهم أي لابثين في أسوأ حال. والبرد معروف أي لا يجدون هواء بارداً ولا ماء بارداً.وقال الأخفش والفراء: هو النوم ولذلك أن البرد لازم للنوم ولهذا يسكن العطش. وسببه توجه الحرارة الغريزية إلى الباطن عند فتور الحواس الظاهرة والحركات الاختيارية وفي أمثالهم (منع البرد البرد) أي أصابني من البرد ما منعني من النوم. وقد يضعف هذا القول أنهم لا يقولون ذقت البرد ويقولون (ذقت الكرى) وبأنهم يجدون الزمهرير فكيف يصح نفي البرد عنهم. وقد يجاب عن الأول بأن الذوق في الصورتين مجاز فأي ترجيح لأحدهما على الآخر.وعن الثاني بأن المراد برد له روح لا الذي فيه عذاب. والحميم الماء البالغ في الحرارة، والغساق صديد أهل النار. قوله: {جزاء} نصب على المصدر أي جزاهم جزءا. وانتصب {وفاقاً} على الوصف أي ذا وفاق أو موافقاً لعملهم في القبح والفظاعة والدوام. ثم ذكر علة التأبيد فقال: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً} لا يخافون أو لا يتوقوعن حساباً وهذه إشارة إلى نقصانهم بحسب القوة العلمية فإن الذي اعتقد أنه لا حشر ولا حساب ولا يبالي بأي شيء ترك من القبائح والمظالم أو أي شيء ترك من الخيرات والفضائل. قوله: {وكذبوا بآياتنا كذاباً} إشارة إلى فساد عقائدهم حتى جحدوا الحق وكذبوا الرسل. ومصدر (فعل) مشدد العين يجيء على (فعال) بالتشديد وهو الأكثر، وبالتخفيف عند بعضهم ولهذا لم يقرأ به إلا في الشواذ.قال جار الله: هو مصدر كذب بدليل قوله:وهو مثل قوله: {أنبتكم من الأرض نباتاً} [نوح: 17] يعني وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً أو تنصبه بـ: {كذبوا} لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب. وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة أو كذبوا بها مكاذبين، لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يبالغ في أمر فبلغ فيه أقصى جهده.أقول: أراد بهذا الوجه الأخير أن باب المغالبة يبنى على المفاعلة فيمكن أن يستدل بالمفاعلة على المبالغة بطريق العكس الجزئي {وكل شيء أحصيناه} من باب الإضمار على شريطة التفسير. قوله: {كتاباً} مصدر لأنه والإحصاء يتلاقيان في معنى الضبط والتحصيل، ويجوز أن يكون حالاً أي مكتوباً في اللوح أو في صحف الأعمال.قال جار الله: هذه جملة معترضة. أقول: إنها من تمام التعليل المذكور أي فعلوا كذا وكذا ونحن عالمون بجميع الكليات والجزيئات فلهذا كتبنا جزاء العاصين على وفق أعمالهم.ثم أظهر غاية السخط بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والتعقيب بفاء الجزاء الدال على أن المذكور سبب عن كفرهم بالحسنات وتكذيبهم بالآيات. وزيادة العذاب يحتمل أن تكون لأجل أن المؤثر إذا استمرَّ ودام ازداد الإحساس بأثره، ويحتمل أن يكون لازدياد كفرهم وعتوّهم حيناً بعد حين كقوله: {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} [التوبة: 125] ويحتمل أن تكون زيادة العذاب عبارة عن نفس استمراره لأنه يتزايد بمرور الزمان، والمراد انا لن نخلصكم من العذاب إلى خلافه. ثم شرع في شرح أحوال السعداء قائلاً {إن للمتقين مفازاً} فوزاً وظفراً بالمطالب والأماني أو موضع فوز ثم فسره بقوله: {حدائق} الخ. والحدائق البساتين فيها أنواع الشجر وقد مرّ في قوله: {حدائق ذات بهجة} [النمل: 60] وخص منها الأعناب لشأن مزيته على سائر الفواكه. والكواعب النواهد واحدها كاعب كطالق وطامث وهي التي ظهر ثديها كالكعب لها نتوّ قليل. والأتراب اللدات. والدهاق المترعة المملوءة وهذا قول أكثر أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج والكسائي والمبرد. يروى أن ابن عباس دعا غلاماً له فقال: اسقنا دهاقاً فجاء الغلام بها ملآنة فقال ابن عباس: هذا هو الدهاق.وعن أبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد: هي المتتابعة.قال الواحدي: وأصل هذا من قول العرب أدهقت الحجارة إدهاقاً وهو شدّة تلازمها ودخولها بعضها في بعض.وعن عكرمة: دهاقاً أي صافية. والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع دهق وهي خشبتان يعصر بهما. والكأس الخمر أي خمراً ذات دهاق وهي التي عصرت وصفيت بالدهاق.{ولا يسمعون فيها} أي في الجنة وهو الأظهر أو في الكأس وشربها {لغواً} كلاماً باطلاً {ولا كذاباً} أي لا يكذب بعضهم بعضاً لأنهم إخوان الصفاء وأخذان الوفاء. ومن قرأ بالتخفيف فمعناه أنه لا يجري بينهم كذاب أو مكاذبة.قال جار الله: {جزاء} مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله: {إن للمتقين مفازاً} كأنه قال: جازى المتقين بمفازو {عطاء} نصب بـ: {جزاء} نصب المفعول به أي جزاهم عطاء.وقال الزجاج: المعنى جازاهم بذلك جزاء وأعطاهم عطاء.ومعنى {حساباً} كافياً من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال: حسبي.وقيل: أي على حسب أعمالهم فمعنى الحساب العدّو والتقدير لبعضهم عشرة ولبعضهم سبعمائة وأكثر.وقال ابن قتيبة: هو من أحسبت فلاناً أي أكثرت له يعني عطاء كثيراً. وإنما قال في الأول {جزاء وفاقاً} لأن جزاء السيئة سيئة مثلها أي موافقة لها. وأما هاهنا فالمراد ثواب المؤمنين وليس ذلك بتقدير العمل فقط ولكن بمقدار ما يكفيه. ثم مدح نفسه بقوله: {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن} وقد تقدّم إعرابه في الوقوف. والضمير في {لا يملكون} قيل للكافرين نقله عطاء عن ابن عباس، يريد لا يخاطب المشركون الله، وأما المؤمنون فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم. وقيل للمؤمنين لأن ذكرهم أقرب من ذكر الكفار، والمراد أنه ما تحيف حقهم فبأي سبب يخاطبونه. والأكثرون على أن الضمير لأهل السموات والأرض فإن أحدًّا من المخلوقين لا يملك خطاباً من جهة الله إذ كل من هو سواه فهو مملوكه، والمملوك لا يملك من جهة مالكه شيئاً وإلا لم يكن للمالك كمال الملك. وقالت المعتزلة: إنه عالم بقبح القبيح غني عن فعله وعالم بغناه فلا يفعل إلا الحسن وحينئذ لا وجه للمطالبة والمخاطبة. ثم أكد المعنى المذكور بقوله: {يوم يقوم الروح} وهو أعظم المخلوقات قدراً كما مرّ في سورة سبحان في تفسير قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85] والصف مصدر في الأصل لا يثنى ولا يجمع غالباً فلهذا جاز أن يكون المراد أنهم يقومون صف من الروح وحده ومن الملائكة بأسرهم صف، وجاز أن يكون يراد يقوم الكل صفاً واحدًّا أو يقومون صفوفاً لقوله: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 22] ثم بين أنهم مع جلالة قدرهم لا يتكلمون إلا بشرطين: أحدهما الإذن من الله، والضمير في {له} إما للشافع أو للمشفوع. والثاني أن يقول: {صواباً} والضمير في {قال} أيضاً إما للشافع فالمراد أنهم لا ينطقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام، ثم بعد الإذن يجتهدون حتى لا يتكلمون إلا بما هو حق وصواب. وإما للمشفوع. والقول الصواب على هذا التفسير شهادة أن لا إله إلا الله {وذلك اليوم الحق} أي لا باطل فيه ولا ظلم أو هو الكائن لا محالة {فمن شاء اتخذ} بالطاعة {إلى ربه مآباً} ومرجعاً. والظاهر أن الضمير عائد في {شاء} إلى {من}.وفيه دليل للمعتزلة. ويروى عن الخدري وابن عباس أن الضمير لله {عذاباً قريباً} هو عذاب الآخرة لأن ما هو آت قريب. وفي المرء أقوال: فعن عطاء أنه الكافر لتقدّم ذكر الإنذار وقوله: {الكافر} ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم.وعن الحسن وقتادة: إنه المؤمن لمجيء ذكر الكافر بعده، ولأن المؤمن لما قدّم الخير والشر فهو منتظر لأمر الله كيف يحدث، وأما الكافر فإنه قاطع بالعذاب ومع القطع لا يحصل الانتظار.والأظهر أنه عام في كل مكلف. و(ما) استفهامية منصوبة بـ: {قدّمت} أو موصولة منصوبة بـ: {ينظر} فيلزم إضمار (إن) حذف العائد من قدّمته، وحذف الجار لأن الأصل أن يقال ينظر إليه. قوله: {كنت تراباً} فيه وجوه أحدها: ليتني لم أبعث غير محشور. الثاني ما ورد في الأخبار أن البهائم تحشر فيقتص للجماء من القرناء ثم تردّ تراباً فيودّ الكافر حالها ليتخلص من العذاب. وأنكر بعض المعتزلة ذلك لأنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوّض وبين متفضل عليه، وعلى التقديرين لا يجوز أن يقطعها عن المنافع لأن ذلك كالإضرار بها.قال القاضي: إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل لم يبعد أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ضرراً.وقال بعضهم: إن الحيوانات إذا انتهت مدّة أعواضها جعل الله تعالى كل ما كان منها حسن الصورة ثواباً لأهل الجنة، وما كان قبيح الصورة عقاباً لأهل النار. الثالث قال بعض الصوفية: أراد يا ليتني كنت متواضعاً في طاعة الله كالتراب لا مرتفعاً كالنار. الرابع قيل: الكافر إبليس يرى آدم وثواب أولاده فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال: {خلقتني من نار وخلقته من طين} [ص: 76]. اهـ.
|