الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك مراتب أعداء المؤمنين، فذكر أنه في المرتبة الأولى في العداوة اليهود والمشركون، والنصارى أقرب مودة من غيرهم، وذكر سبحانه حال النصارى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يسارعون إلى الإيمان إذا سمعوا الحق كما قال تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}.بعد هذا البيان المعجز، الذي ابتدأ بذكر آثار الحسد والحقد في ابنى آدم إذ قربا قربانا، ثم ما أدى إليه الحقد من كفر وطغيان، وطمس للحقائق، ومعاندة لأوامر الله تعالى، وفساد للنفوس، بعد هذا أخذ يبين سبحانه إباحة الطيبات، وأنه لا يصح تحريمها على النفس، وأن من يحرمها على نفسه بيمين فليحنث وليكفر، وتكفير اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فمن لم يجد شيئا من هذا فليصم ثلاثة أيام.وإذا كان الله تعالى أباح الطيبات، فقد حرم الخبائث، وأول الخبائث الخمر والميسر، إن الخمر أم الخبائث، وأم الجرائم، وإنه ليس على المؤمنين إثم فيما يتناولون من طيبات إنما الإثم فيما يتناولون من خبائث.وقد بين سبحانه أن من الطيبات ما يحرم في بعض الأوقات، لا لذاته، بل للمكان الذي يكون فيه، والحال التي يكون فيها، فحرم الصيد في البيت الحرام للمحرمين، وأن المنع مقصور على صيد البر، ولا يشمل صيد البحر؟ إن ذلك لمكانة البيت، ولمكانة الإحرام، وقد ذكر سبحانه وتعالى مقام البيت ومكانته.وأن الخبيث من الأشياء ومن الأشخاص لا يستوى مع الطيب، وندد سبحانه بالذين يحرمون بعض الطيبات على أنفسهم لأوهام توهموها، وأفكار جاهلية اعتنقوها.وأن الذي يقوم بالواجب ويبين الخير ويدعو إليه لا يكون مسئولا عمن يضل من بعد.وفى وسط أحكام الحلال والحرام أخذت السورة تبين سببا من أسباب الملكية، وهو الوصية في السفر، وطريق إثباتها.بعد ذلك أخذ يبين الضلال الذي وقع فيه الذين ادعوا المسيحية وهو ألوهية المسيح، مع ذكر معجزاته عليه السلام، ومنها أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه أخرح الموتى بإذن الله تعالى، وأنه نزلت عليه المائدة من السماء.ومع هذه المعجزات الباهرة كفر به من كفر، وشهد الحواريون بأنه رسول من عند الله، وغالى غيرهم فزعموا أنه وأمه إلهان، ومنهم من زاد غيرهما.وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه سيخاطب عيسى يوم القيامة عن هذا الذي افتروه على المسيح، ونذكر هذه المجاوبة بالنص.{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}.هذه نظرات كليلة في سورة المائدة، ولننظر في ذكر معانيها. اهـ.
.قال سيد قطب: التعريف بسورة المائدة:نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لينشئ به أمة؛ وليقيم به دولة؛ ولينظم به مجتمعا؛ وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا؛ وليحدد به روابط ذلك المجتمع؛ فيما بينه؛ وروابط تلك الدولة مع سائر الدول؛ وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم.. وليربط ذلك كله برباط قوي واحد، يجمع متفرقة، ويؤلف أجزاءه، ويشدها كلها إلى مصدر واحد، وإلى سلطان واحد، وإلى جهة واحدة.. وذلك هو الدين، كما هو في حقيقته عند الله؛ وكما عرفه المسلمون. أيام أن كانوا مسلمين!ومن ثم نجد في هذه السورة- كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها- موضوعات شتى؛ الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه: إنشاء أمة، وإقامة دولة، وتنظيم مجتمع؛ على أساس من عقيدة خاصة، وتصور معين، وبناء جديد.. الأصل فيه إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان؛ وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك.وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية، وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم.. إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها، وطبيعة طريقها وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك، وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين.. إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة؛ وتربطها بربها. إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها؛ والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها.. إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح؛ أو ألوانا من الأعمال والمسالك.. كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى الدين كما أراده الله وكما فهمه المسلمون. أيام أن كانوا مسلمين.على أن السياق القرآني- كما يبدو في هذه السورة وكما رأيناه في سورتي آل عمران والنساء من قبل لا يكتفي بهذا المعنى الضمني المستفاد من سوق هذه الموضوعات كلها في إطار سورة واحدة؛ وسوقها كذلك في شتى سور القرآن المتفرقة التي تؤلف هذا الكتاب؛ وتمثل المنهج الرباني الذي يتضمنه.. لا يكتفي السياق القرآني هنا بهذا المعنى الضمني؛ إنما ينص عليه نصا؛ ويؤكده تأكيدا؛ ويتكئ عليه اتكاء شديدا وهو ينص على أن هذا كله هو الدين؛ وأن الإقرار به كله هو الإيمان؛ وأن الحكم به كله هو الإسلام.. وأن الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون. الظالمون. الفاسقون.. وأنهم- إذن- يبتغون حكم الجاهلية ولا يبتغي حكم الجاهلية المؤمنون المسلمون.وهذا الأصل الكبير هو الذي يبرز في هذه السورة بروزا واضحا مقررا منصوصا عليه نصا. إلى جانب تصحيح التصور الاعتقادي الذي يقوم عليه هذا الأصل الكبير.ويحسن أن نصور من سياق النصوص القرآنية في السورة كيف برز هذان الأصلان الكبيران في سياقها كله، وكيف يقوم هذا على ذاك قياما طبيعيا ومنطقيا.إن السياق القرآني يستند في تقرير أن الحكم بما أنزل الله هو الإسلام؛ وأن ما شرعه الله للناس من حلال أو حرام هو الدين إلى أن الله هو الإله الواحد لا شريك له في ألوهيته؛ وإلى أن الله هو الخالق الواحد لا شريك له في خلقه. وإلى أن الله هو المالك الواحد لا شريك له في ملكه.. ومن ثم يبدو حتميا ومنطقيا ألا يقضي شيء إلا بشرعه وإذنه. فالخالق لكل شيء، المالك لكل شيء، هو صاحب الحق، وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه.. هو الذي يشرع فيما يملك؛ وهو الذي يطاع شرعه وينفذ حكمه؛ وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر.. إنه هو الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب؛ كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء. والمؤمنون به هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي يقررها؛ ويتبعون النظام الذي يرتضيه. هذه كتلك سواء بسواء. وهم يعبدونه بإقامة الشعائر، ويعبدونه باتباع الشرائع، بلا تفرقة بين الشعيرة والشريعة؛ فكلتاهما من عند الله، الذي لا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه. بما أنه هو الإله الواحد. المالك الواحد. العليم بما في السموات والأرض جميعا.. ومن ثم فإن الحكم بشريعة الله هو دين كل نبي؛ لأنه هو دين الله، ولا دين سواه.ومن ثم تتوارد النصوص هكذا في ثنايا السورة؛ في تقرير الألوهية الواحدة؛ ونفي كل شرك أو تثليث أو خلط بين ذات الله سبحانه وبين غيره. أو بين خصائص الألوهية، وخصائص العبودية على الإطلاق: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام. ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه. ويهديهم إلى صراط مستقيم. لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم. قل. فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء. والله على كل شيء قدير. وقالت اليهود والنصارى:نحن أبناء الله وأحباؤه! قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق. يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، وإليه المصير. يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل، أن تقولوا:ما جاءنا من بشير ولا نذير. فقد جاءكم بشير ونذير. والله على كل شيء قدير.{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم. وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة. وما من إله إلا إله واحد. وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم}.ولأن الله هو وحده الإله، وهو وحده الخالق، وهو وحده المالك.. فهو وحده الذي يشرع، هو وحده الذي يحلل ويحرم، وهو وحده الذي يطاع فيما يشرع وفيما يحرم أو يحلل. كما أنه هو وحده الذي يعبد، وهو وحده الذي يتوجه إليه العباد بالشعائر. وقد أخذ الميثاق على عباده بهذا كله؛ فهو يطالب الذين آمنوا أن يفوا بميثاقهم وتعاقدهم معه؛ ويحذرهم عواقب نقض الميثاق وخلف العقود؛ كما وقع من بني إسرائيل قبلهم:{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود...} {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا...}.واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به، إذ قلتم:سمعنا وأطعنا، واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور. يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله. إن الله خبير بما تعملون.لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا؛ وقال الله:إني معكم، لئن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وآمنتم برسلي، وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا، لأكفرن عنكم سيئاتكم، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار. فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل. فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذكروا به. ولا تزال تطلع على خائنة منهم- إلا قليلا منهم- فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين. ومن الذين قالوا:إنا نصارى أخذنا ميثاقهم، فنسوا حظا مما ذكروا به؛ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.ويتضمن سياق السورة أحكاما شرعية منوعة:منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد. ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام. ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح. ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة. ومنها ما يتعلق بالقضاء وإقامة العدل فيه. ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي الخروج على الجماعة المسلمة. ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام. ومنها ما يتعلق بالكفارات في قتل الصيد مع الإحرام وفي اليمين. ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت. ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من الأنعام، ومنها ما يتعلق بشريعة القصاص في التوراة مما جعله الله كذلك شريعة للمسلمين.. وهكذا تلتقي الشرائع بالشعائر في سياق السورة بلا حاجز ولا فاصل!وإلى جوار هذه الأحكام الشرعية المنوعة يجيء الأمر بالطاعة والتقيد بما شرعه الله وما أمر به؛ والنهي عن التحريم والتحليل إلا بإذنه؛ ويجيء النص على أن هذا هو الدين الذي ارتضاه الله للأمة المؤمنة بعد أن أكمله وأتم به نعمته: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا..}.
|