الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولا يتم استدلال المعتزلة بالآية عليه في نفي العفو والشفاعة للعصاة لأنها لا تفيد النفي في جميع الأوقات فيجوز أن يبشر العصاة بما ذكر في وقت آخر.وتعقب بأن الجملة قبل النفي لكونها اسمية تفيد الاستمرار فبعد دخول النفي إرادة نفي استمرار البشرى للمجرمين بمعنى أن البشرى تكون لهم لكن لا تستمر مما لا يظن أن أحدًا يذهب إليه فيتعين إرادة استمرار النفي كما في قوله تعالى في حق أضدادهم.{لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] فحينئذٍ لا يتسنى قوله: إنها لا تفيد النفي في جميع الأوقات، فالأولى أن يراد بالمجرمين من سمعت حديثهم {وَيَقُولُونَ} عطف على لا يبشرون أو يمنعون البشرى أو نحوه المقدر قبل {يَوْمٍ}.وجوز أن يكون عطفًا على ما قبله باعتبار ما يفهم منه كأنه قيل: يشاهدون أهوال القيامة ويقولون، وأن يكون عطفًا على {يَرَوْنَ} وجملة {لاَ بشرى} حال بتقدير القول فلا يضر الفصل به، وضمير الجمع على ما استظهره أبو حيان لأنهم المحدث عنهم وحكاه الطبرسي عن مجاهد، وابن جريج للذين لا يرجون أي ويقول أولئك الكفرة {حِجْرًا مَّحْجُورًا} وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو موتور وهجوم نازلة هائلة يضعونها موضع الاستعاذة حيث يطلبون من الله تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكأن المعنى نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعًا ويحجره حجرًا.وقال الخليل: كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول: حجرًا محجورًا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشر، وقال أبو عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة، وقال أبو علي الفارسي: مما كانت العرب تستعمله ثم ترك قولهم حجرًا محجورًا، وهذا كان عندهم لمعنيين، أحدهما: أن يقال عند الحرمان إذا سئل الإنسان فقال ذلك علم السائل أنه يريد أن يحرمه، ومنه قول المتلمس:
والمعنى الآخر الاستعاذة كان الإنسان إذا سافر فرأى ما يخاف قال: حجرًا محجورًا أي حرام عليك التعرض لي انتهى.وذكر سيبويه {حِجْرًا} من المصادر المنصوبة غير المتصرفة وأنه واجب إضمار ناصبها، وقال: ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا فيقول: حجرًا وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله تعالى أن يمنع المكروه من أن يلحقه والأصل فيه فتح الحاء، وقرئ به كما قال أبو البقاء لكن لما خصوا استعماله بالاستعاذة أو الحرمان صار كالمنقول فلما تغير معناه تغير لفظه عما هو أصله وهو الفتح إلى الكسر وقد جاء فيه الضم أيضًا وهي قراءة أبي رجاء والحسن والضحاك ويقال فيه حجري بألف التأنيث أيضًا؛ ومثله في التغيير عن أصله قعدك الله تعالى بسكون العين وفتح القاف، وحكى كسرها عن المازني وأنكره الأزهري وقعيدك وهو منصوب على المصدرية، والمراد رقيبك وحفيظك الله تعالى ثم نقل إلى القسم فقيل قعدك أو قعيدك الله تعالى لا تفعل، وأصله بإقعاد الله تعالى أي إدامته سبحانه لك وكذا عمرك الله بفتح الراء وفتح العين وضمها وهو منصوب على المصدرية ثم اختص بالقسم، وأصله بتعميرك الله تعالى أي بإقرارك له بالبقاء، وما ذكر من أنه لازم النصب على المصدرية بفعل واجب الإضمار اعترض عليه في الدر المصون بما أنشده الزمخشري: فإنه وقع فيه مرفوعًا، ووصفه بمحجورًا للتأكيد كشعر شاعر وموت مايت وليل أليل، وذكر أن مفعولًا هنا للنسب أي ذو حجر وهو كفاعل يأتي لذلك، وقيل: إنه على الإسناد المجازي وليس بذاك، والمعنى أنهم يطلبون نزول الملائكة عليهم السلام وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة وفزعوا منهم فزعًا شديدًا، وقالوا ما كانوا يقولونه عند نزول خطب شنيع وحلول بأس فظيع، وقيل: ضمير يقولون للملائكة وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري والضحاك وقتادة وعطية ومجاهد على ما في الدر المنثور قالوا: إن الملائكة يقولون للكفار حجرًا محجورًا أي حرامًا محرمًا عليكم البشرى أي جعلها الله تعالى حرامًا عليكم.وفي بعض الروايات أنهم يطلبون البشرى من الملائكة عليهم السلام فيقولون ذلك لهم، وقال بعضهم: يعنون حرامًا محرمًا عليكم الجنة وحكاه في مجمع البيان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: الغفران، وفي جعل {حِجْرًا} نصبًا على المفعولية لجعل مقدرًا كما أشير إليه بحث، والظاهر على ما ذكر أن إيراد هذه الكلمة للحرمان وهو المعنى الأول من المعنيين اللذين ذكرهما الفارسي {وَيَقُولُونَ} على هذا القول قيل معطوف على ما عطف عليه على القول بأن ضميره للكفرة، وقيل: معطوف على جملة يقولون المقدرة قيل {لاَ بشرى} الواقعة حالًا.وقال الطيبي: هو حال من {الملائكة} بتقدير وهم يقولون نظير قولهم: قمت وأصك وجهه وعلى الأول هو عطف على {يَرَوْنَ}.{وَقَدِمْنَا} أي عمدنا وقصدنا كما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {إلى مَا عَمِلُواْ} في الدنيا {مِنْ عَمَلٍ} فخيم كصلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضعيف ومن على أسير وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها، والجار والمجرور بيان لما وصحة البيان ابعتبار التنكير كصحة الاستثناء في {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا} [الجاثية: 32] لكن التنكير هاهنا للتفخيم كما أشرنا إليه.وجوز أن يكون للتعميم ودفع ما يتوهم من العهد في الموصول أي عمدنا إلى كل عمل عملوه خال عن الإيمان، ولعل الأول أنسب بقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء} مثل هباء في الحقارة وعدم الجدوى، وهو على ما أخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه وهج الغبار يسطع ثم يذهب.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الشرر الذي يطير من النار إذا اضطرمت، وفي رواية أخرى عنه أنه الماء المهراق.وعن يعلى بن عبيد أنه الرماد وأخرج جماعة عن مجاهد والحسن وعكرمة وأبي مالك وعامر أنه شعاع الشمس في الكوة وكأنهم أرادوا ما يرى فيه من الغبار كما هو المشهور عند اللغويين، قال الراغب: الهباء دقاق التراب وما أنبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة ويقال: هبا الغبار يهبو إذا ثار وسطع، ووصف بقوله تعالى: {مَّنثُورًا} مبالغة في إلغاء أعمالهم فإن الهباء تراه منتظمًا مع الضوء فإذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب فلم يكف أن شبه أعمالهم بالهباء حتى جعل متناثرًا لا يمكن جمعه والانتفاع به أصلًا، ومثل هذا الإرداف يسمى في البديع بالتتميم والإيغال، ومنه قول الخنساء: حيث لم يكفها أن جعلته علمًا في الهداية حتى جعلته في رأسه نار، وقيل: وصف بالمنثور أي المتفرق لما أن أغراضهم في أعمالهم متفرقة فيكون جعل أعمالهم هباء متفرقًا جزاءً من جنس العمل، وجوز أن يكون مفعولًا بعد مفعول لجعل وهو مراد من قال: مفعولًا ثالثًا لها على معنى جعلناه جامعًا لحقارة الهباء والتناثر، ونظير ذلك قوله تعالى: {كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} [البقرة: 65] أي جامعين للمسخ والخسء، وفيه خلاف ابن درستويه حيث لم يجوز أن يكون لكان خبران وقياس قوله: أن يمنع أن يكون لجعل مفعول ثالث، ومع هذا الظاهر الوصفية، وفي الكلام استعارة تمثيلية حيث مثلت حال هؤلاء الكفرة وحال أعمالهم التي عملوها في كفرهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها وجعلها شذر مذر ولم يترك لها من عين ولا أثر، واللفظ المستعار وقع فيه استعمال قدم بمعنى عمد وقصد لاشتهاره فيه وإن كان مجازًا كما يشير إليه كلام الأساس، ويسمى القصد الموصل إلى المقصد قدومًا لأنه مقدمته، وتضمن التمثيل تشبيه أعمالهم المحبطة بالهباء المنثور بدون استعارة، فلا إشكال على ما قيل، والكلام في ذلك طويل فليطلب من محله.وجعل بعضهم القدوم في حقه عز وجل عبارة عن حكمه، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي قدم ملائكتنا، وأسند ذلك إليه عز وجل لأنه عن أمره سبحانه، ونقل عن بعض السلف أنه لا يؤول في قوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ} [الفجر: 22] وقوله سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام} [البقرة: 210] على ما هو عادتهم في الصفات المتشابهة، وقياس ذلك عدم التأويل في الآية، ولعله من هنا قيل: إن تأويل الزمخشري لها بناءً على معتقده من إنكار الصفات، والقلب إلى التأويل فيها أميل.وأنت إن لم تؤول القدوم فلابد لك أن تؤول جعلها هباءً منثورًا بإظهار بطلانها بالكلية وإلغائها عن درجة الاعتبار بوجه من الوجوه، ولا يأبى ذلك السلف.{أصحاب الجنة} هم المؤمنون المشار إليهم في قوله تعالى: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وَعِدَ المتقون} [الفرقان: 15] {يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ يكون ما ذكر من القدوم إلى أعمالهم وجعلها هباءً منثورًا، أو من هذا وعدم التبشير، وقولهم: حجرًا محجورًا {خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا} المستقر المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات للتجالس والتحادث {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} المقيل المكان الذي يؤوى إليه للاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن، سمي بذلك لأن التمتع به يكون وقت القيلولة غالبًا، وقيل: هو في الأصل مكان القيلولة وهي النوم نصف النهار ونقل من ذلك إلى مكان التمتع بالأزواج لأنه يشبهه في كون كل منهما محل خلوة واستراحة فهو استعارة، وقيل: أريد به مكان الاسترواح مطلقًا استعمالًا للمقيد في المطلق فهو مجاز مرسل، وإنما لم يبق على الأصل لما أنه لا نوم في الجنة أصلًا.وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} وقرى {إن مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم} وأخذ منه بعضهم أن المراد بالمستقر موضع الحساب، وبالمقيل محل الاستراحة بعد الفراغ منه، ومعنى يقيل هؤلاء يعني أصحاب الجنة ينقلون إليها وقت القيلولة، وقيل: المستقر والمقيل في المحشر قبل دخول الجنة، أو المستقر فيها والمقيل فيه.فقد أخرج ابن جرير عن سعيد الصواف قال: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وإنهم ليقيلون في رياض حتى يفرغ الناس من الحساب، وذلك قوله تعالى: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} وفي وصفه بزيادة الحسن مع حصول الخيرية بعطفه على المستقر رمز إلى أن لهم ما يتزين به من حسن الصور وغيره من التحاسين.فإن حسن المنزل إن لم يكن باعتبار ما يرجع لصاحبه لم تتم المسرة به، والتفضيل المعتبر فيهما المسرة إما لإرادة الزيادة على الإطلاق، أي هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل.وإما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا أو إلى ما لهم في الآخرة بطريق التهكم بهم، هذا وتفسير المستقر والمقيل بالمكانين حسبما سمعت هو المشهور وهو أحد احتمالات تسعة.وذلك أنهم جوزوا أن يكون كلاهما اسم مكان أو اسم زمان أو مصدرًا وأن يكون الأول اسم مكان والثاني اسم زمان أو مصدرًا وأن يكون الأول اسم زمان والثاني اسم مكان أو مصدرًا وأن يكون الأول مصدرًا والثاني اسم مكان أو اسم زمان.وما شئت تخيل في خيرية زمان أصحاب الجنة وأحسنيته وكذا في خيرية استقرارهم وأحسنية استراحتهم يومئذٍ. اهـ. .قال القاسمي: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}.أي: الرجوع إليه بالبعث والحشر: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} أي: للرسالة، أو لتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم: {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} أي: فيخبرنا بذلك: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: في شأنها حتى تفوّهوا بمثل هذه العظيمة: {وَعَتَوْا} أي: تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان: {عُتُوًّا كَبِيرًا} أي: بالغًا أقصى غايته حيث أملوا رتبة التكليم الربانيّ من غير توسط الرسول والملك. ولم يكتفوا بهذا الذكر الحكيم والخارق العظيم.{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} أي: عند الموت أو في القيامة: {لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} أي: كما كانوا يقولون عند لقاء العدوّ وشدة النازلة: {حِجْرًا} أي: أسأل الله أن يمنع ذلك منعًا ويحجره حجرًا و: {مَحْجُورًا} تأكيد ل {حِجْرًا} وقيل هو من قول الملائكة ومعناه حرامًا محرمًا عليكم الغفران والجنة والبشرى، أي: جعل الله ذلك حرامًا عليكم.{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} أي: مما كانوا يراءون به ابتغاء السمعة والشهرة، ويرونه من مكارمهم: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} أي: مثل الغبار المنثور في الجوّ، في حقارته وعدم نفعه. اهـ.
|