الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإضافتُهُ إلى النفسِ لأنَّه غريزةٌ فيها مقتضيةٌ للحرصِ على المنعِ الذي هو البخلُ أي ومن يُوقَ بتوفيقِ الله تعالى شُحَّها حتى يخالفَهَا فيما يغلبُ عليها من حُبِّ المالِ وبغضِ الإنفاقِ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ باعتبارِ معناها العامِّ المنتظمِ للمذكورينَ انتظامًا أوليًا {هُمُ المفلحون} الفائزونَ بكلِّ مطلوبٍ الناجونَ عن كلِّ مكروهٍ. والجملة اعتراضٌ واردٌ لمدحِ الأنصارِ والثناءِ عليهم وقرئ {يُوَقَّ} بالتشديدِ.{والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ}هم الذينَ هاجرُوا بعد ما قَوِيَ الإسلامُ أو التابعونَ بإحسانٍ وهم المؤمنونَ بعد الفريقينِ إلى يومِ القيامةِ ولذلك قيلَ إن الآيةَ قد استوعبتْ جميعَ المؤمنينَ، وأيًا ما كان فالموصولُ مبتدأٌ خبرُهُ {يَقولونَ} إلخ والجملة مسوقةٌ لمدحِهِم بمحبَّتِهِم لمنْ تقدَمَهُم من المؤمنينَ ومراعاتِهِم لحقوقِ الأخوةِ في الدينِ والسبقِ بالإيمانِ كما أنَّ ما عُطفتْ عليه من الجملة السابقةِ لمدحِ الأنصارِ، أيْ يدعونَ لهم {رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا} أيْ في الدينِ الذي هو أعزُّ وأشرفُ عندهُم من النسبِ {الذين سَبَقُونَا بالإيمان} وصفُوهُم بذلكَ اعترافًا بفضلِهِم {وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًا} وقرئ غِمْرًا وهُمَا الحقدُ {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} على الإطلاقِ {رَبَّنَا إِنَّكَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} أي مُبالغٌ في الرأفةِ والرحمةِ، فحقيقٌ بأنْ تجيبَ دُعاءَنَا. اهـ.
.قال الألوسي: {للفقراء المهاجرين}قال الزمخشري: بدل من قوله تعالى: {ذَا القربى} [الحشر: 7] والمعطوف عليه، والذي منع الإبدال من {لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وما بعد وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عز وجل أخرج رسوله عليه الصلاة والسلام من الفقراء في قوله سبحانه: {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} وأنه يترفع برسول الله عليه الصلاة والسلام عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل، وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لفظًا لأن فيه سوء أدب انتهى.وعنى أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ما ذكر، قال الإمام: فكأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين، وما ذكر من الإبدال من {ذَا القربى} وما بعده مبني على قول الحنفية إنه لا يعطي الغني من ذوي القربى وإنما يعطي الفقير، ومن يرى كالشافعي أنه يعطي غنيهم كما يعطي فقيرهم خص الإبدال باليتامى وما بعده، وقيل: يجوز ذلك أيضًا إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقير بفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعط غنيًا شيئًا منه، والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر.وفي (الكشف) أن {للفقراء} ليس للقيد بل بيانًا للواقع من حال المهاجرين وإثباتًا لمزيد اختصاصهم كأنه قيل: لله وللرسول وللمهاجرين، وقال ابن عطية: {للفقراء} إلخ بيان لقوله تعالى: {اليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجرورًا بها لتبيين أن البدل هو منها، وقيل: اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى: {كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنياء مِنكُمْ} [الحشر: 7] كأنه قيل: ولكن يكون للفقراء المهاجرين.وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الاحتمال بناءًا على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من الأصحاب {الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم} حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى الخروج فخرجوا منها، وهذا وصف باعتبار الغالب، وقيل: كان هؤلاء مائة رجل {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّنَ الله وَرِضْوَانًا} أي طالبين منه تعالى رزقًا في الدنيا ومرضاة في الآخرة، وصفوا أولًا بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال، وقيد ذلك ثانيًا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلام {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} عطف على {يَبْتَغُونَ} فهي حال مقدرة أي ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة {أولئك} الموصون بما ذكر من الصفات الجليلة {هُمُ الصادقون} أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله، ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك، وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك فيه الاستدلال على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى قد شهد بصدقهم فلابد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنه صحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عن مثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة، ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه، ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الإكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضًا.{والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان} الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين، والمراد بهم الأنصار؛ والتبوّؤ النزول في المكان، ومنه المباءة للمنزل؛ ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر، وأما نسبته إلى الايمان فباعتبار جعله مستقرا ومتوطنًا على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية، والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا وهي التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوّؤهم إياها مدحًا لهم.وقال غير واحد: الكلام من باب:أي تبوأوا الدار وأخلصوا الايمان، وقيل: التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل: لزموا الدار والايمان، وقيل: في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة وفي {والإيمان} حذف مضاف أي ودار الايمان فكأنه قيل: تبوأوا دار الهجرة ودار الايمان على أن المراد بالدارين المدنية، والعطف كما في قولك: رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيدًا، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقيل: إن الايمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى، وقيل: الواو للمعية والمراد تبوأوا الدار مع إيمانهم أي تبوأوها مؤمنين، وهو أيضًا ليس بشيء، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولًا، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة.وطابة.ويثرب.وجابرة إلى غير ذلك.وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعًا يدل على ذلك {مِن قَبْلِهِمُ} أي من قبل المهاجرين، والجار متعلق بتبوأوا، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فهي لما أظهروه.وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير تبوأوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبوئ الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة ههنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوئ الأنصاري وإيمانهم على تبوئ المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو هاهنا تبوؤ الدار، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوئ المهاجرين وإيمانهم على تبوئ الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} في موضع الحال من الموصول، وقيل: استئناف، والكلام قيل: كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، وقيل: على ظاهره أي يحبون المهاجرين إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الايمان {وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ} أي ولا يعلمون في أنفسهم.{حَاجَةً} أي طلب محتاج إليه {مّمَّا أُوتُواْ} أي مما أعطى المهاجرون من الفيء وغيره، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز، والحاجة بمعنى المحتاج إليه، وهو استعمال شائع يقال: خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته، و{مِنْ} تبعيضية، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس.ويجوز أن كيون المعنى لا يجدون في أنفسهم مايحمل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطى المهاجرون على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها، وقيل: على أنها كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم، وما تقدم أولى، وقول بعضهم: أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب، و{مِنْ} في قوله تعالى: {مّمَّا أُوتُواْ} تعليلية {وَيُؤْثِرُونَ} أي يقدمون المهاجرين {عَلَى أَنفُسِهِمْ} في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدًا منهم، ويجوز أن لا يعتبر مفعول يؤثرون خصوص المهاجرين.أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا فقال عليه الصلاة والسلام: ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار وفي رواية فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فاطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما {وَيُؤْثِرُونَ}» إلخ.وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في (الشعب) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقي بين عيدانه من الفرج والفتوح، والجملة في موضع الحال، وقد تقدم وجه ذلك مرارًا {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال: وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، وقال الراغب: الشح بخل مع حرص؛ وذلك فيما كان عادة، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال: البخل أن يبخل الإنسان بمافي يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي في (الشعب) والحاكم وصححه وجماعة عن ابن مسعود أن رجلًا قال له: إني أخاف أن يكون قد هلكت قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله تعالى يقول: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل، وإن الشح الذي ذكره الله تالى أن تأكل مال أخيك ظلمًا.وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس الشح أن يمنع الرجل ما له ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له، ولم أر لأحد من اللغويين شيئًا من هذه التفاسير للشح، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلمًا أو تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل.
|