الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو حيان: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس}.هذا إخبار منه تعالى بأنه خلق لجهنم كثيرًا من الصنفين، ومناسبة هذا لما قبله أنه لما ذكر أنه هو الهادي وهو المضلّ أعقبه بذكر من خلق للخسران والنار وذكر أوصافهم فيما ذكر وفي ضمنه وعيد الكفار والمعنى لعذاب جهنم واللام للصيرورة على قول من أثبت لها هذا المعنى أو لما كان مآلهم إليها جعل ذلك سببًا على جهة المجاز فقد رد ابن عطية قول من زعم أنها للصيرورة، فقال: وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه، وأما هنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم لجهنم انتهى، وإنما ذهب إلى أنها لام العاقبة والصيرورة لأنه تعالى قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فإثبات كونها للعلة ينافي قوله: {إلا ليعبدون} وأنشدوا دليلًا على إثبات معنى الصيرورة للام قول الشاعر:وقول الآخر: ودعوى القلب فيه وإنّ تقديره ولقد ذرأنا جهنم لكثير غير سديد لأنّ القلب لا يكون إلا في الشعر على الصحيح ولفظة كثير لا تشعر بالأكثر ولكن ثبت في الحديث أن بعث النار أكثر لقول الله لآدم أخرج بعث النار من ذريتك فأخرج من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة وهؤلاء المخلوقون لجهنم هم الذين طبع الله على قلوبهم فلا يتأتى منهم إيمان البتة وتفسير ابن جبير: انهم أولاد الزنا ليس بجيد.{لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها}.لما كانوا لا يتدبرون شيئًا من الآيات ولا ينظرون إليها نظر اعتبار ولا يسمعونها سماع تفكر جعلوا كأنهم فقدوا الفقه بالقلوب والإبصار بالعيون والسماع بالآذان وليس المراد نفي هذه الإدراكات عن هذه الحواس وإنما المراد نفي الانتفاع بها فيما طلب منهم من الإيمان.وقال مسكين الدرامي: وفسّر مجاهد هذا فقال: {لا يفقهون بها} شيئًا من أمور الآخرة {ولا يبصرون بها} الهدى {ولا يسمعون بها} الحق انتهى، وفي قوله: {لهم قلوب لا يفقهون بها} دليل على أن القلب آلة للفقه والعلم كما أن العين آلة للإبصار والأذن آلة للسماع، وقال الزمخشري: وجعلهم لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وإنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغّلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار، ومنه كتاب عمر إلى خالد بن الوليد: بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دلوكًا عجن بخمر وإني لأظنكم يا آل المغيرة ذرء النار.ويقال لمن كان غريقًا في بعض الأمور ما خلق فلان إلا للنار والمراد وصف أحوالهم في عظم ما أقدموا عليه في تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه النبي الموعود وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم كأنهم خلقوا للنار انتهى، وهو تكثير في الشرح.{أولئك كالأنعام} أي في عدم الفقه في العواقب والنظر للاعتبار والسماع للتفكر ولا يهتمون بغير الأكل والشرب.{بل هم أضلّ} قال الزمخشري: {بل هم أضلّ} سبيلًا من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبّر، وقيل الأنعام تبصر منافعها من مضارها فتلزم بعض ما تبصره وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار، وقال ابن عطية: حكم عليهم بأنهم أضل لأن الأنعام ركب في بنيتها وخلقتها أن لا تفكر في شيء وهؤلاء هم معدُّون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرفًا من النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضلّ على هذا انتهى، وقيل {هم أضلّ} لأنهم يعصون والأنعام لا تعصي، وقيل الأنعام تعرف ربها وتسبح له والكفار لا يعرفونه ولا يدعونه وروي: كل شيء أطوع لله من ابن آدم، وقال أبو عبد الله الرازي: الإنسان وسائر الحيوان يشاركه في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة والباطنة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر وإنما يحصل الامتياز بين الإنسان وغيره بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فلما أعرض الكفار من أغراض أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام، ثم قال: {بل هم أضل} لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل الفضائل والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها ومن أعرض عن اكتساب الفضئل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أحسن حالًا ممن لم يكتسبها مع العجز فلهذا قال: {بل هم أضلّ} انتهى.وقيل: الأنعام تفرّ إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها والكافر يهرب عن ربه الذي أنعمه عليه لا تحصي، وقيل: الأنعام تضل إذا لم يكن معها مرشد وقلما تضلّ إذا كان معها وهؤلاء قد جاءتهم الرسل وأنزلت عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال انتهى، وأقول هذا الإضراب ليس على جهة الإبطال للخبر السابق من تشبيههم بالأنعام ولا يجوز أن تكون جهة المبالغة في الضلال هي جهة التشبيه لأنه يؤدي إلى كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل في حق الله تعالى وكلام من تقدم من المفسرين يدل على أنه تعالى شبّههم بالأنعام فيما ذكر وأنهم أضل من الأنعام فيما وقع التشبيه فيه وهو لا يجوز لما ذكرناه فالمعوّل عليه أن جهة التشبيه مخالفة لجهة المبالغة في الضلال وأن هذا الإضراب ليس على سبيل الإبطال بمدلول الجملة السابقة {بل هم أضلّ} إضراب دال على الانتقال من إخبار إلى إخبار فالجملة الأولى شبههم بالأنعام في انتفاء منافع الإدراكات المؤدية إلى امتثال ما جاءت به الرسل والجملة الثانية أثبتت لهم المبالغة في ضلال طريقهم التي يسلكونها فالموصوف بالمبالغة في الضلال طريقهم وحذف التمييز وتقديره: {بل هم أضل} طريقًا منهم ويبين هذا قوله تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام} أي في انتفاء السمع للتدبر والعقل {بل هم أضلّ سبِيلًا} أي بل سبيلهم أضلّ فالمحكوم عليه أوّلًا غير المحكوم عليه آجرًا والمحكوم به أيضًا مختلف.{أوْلئك هم الغافلون} هذه الجملة بيّن تعالى بها سبب كونهم أضلّ من الأنعام وهو الغفلة.وقال عطاء: عن ما أعدّ الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب. اهـ. .قال أبو السعود: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} كلامٌ مستأنفٌ مقرّرٌ لمضمون ما قبله بطريق التذييلِ أي خلقنا {لِجَهَنَّمَ} أي لدخولها والتعذيبِ بها، وتقديمُه على قوله تعالى: {كَثِيرًا} أي خلقًا كثيرًا مع كونه مفعولًا به لما في توابعه من نوع طولٍ يؤدي توسيطُه بينهما وتأخيرُه عنها إلى الإخلال بجزالة النظمِ الكريم وقوله تعالى: {مّنَ الجن والإنس} متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لكثيرًا أي كائناٍ منهما وتقديمُ الجنِّ لأنهم أعرقُ من الإنس في الاتصاف بما نحن فيه من الصفات وأكثرُ عددًا وأقدمُ خلقًا، والمرادُ بهم الذين حقت عليهم الكلمةُ الأزليةُ بالشقاوة لكن لا بطريق الجبرِ من غير أن يكون مِنْ قِبَلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارَهم نحوَ الحقِّ أبدًا بل يُصِرُّون على الباطل من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم من الآيات والنذر فبهذا الاعتبارِ جُعل خلقُهم مُغيًّا بها كما أن جميعَ الفريقين باعتبار استعدادِهم الكامِل الفطري للعبادة وتمكنِهم التامِّ منها جُعل خلقُهم مغيًّا بها كما نطق به قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.وقوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ} في محل النصبِ على أنه صفةٌ أخرى لكثيرًا {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} في محل الرفعِ على أنه صفةٌ لقلوبٌ مؤكدةٌ لما يفيده تنكيرُها وإبهامُها من كونها غيرَ معهودةٍ مخالِفةً لسائر أفرادِ الجنس فاقدةً لكماله بالكلية لكن لا بحسب الفطرة حقيقةً بل بسبب امتناعِهم عن صرفها إلى تحصيله، وهذا وصفٌ لها بكمال الإغراقِ في القساوة فإنها حيث لم يَتأتَّ منها الفقهُ بحال فكأنها خلقت غيرَ قابلةٍ له رأسًا وكذا الحالُ في أعينهم وآذانِهم، وحذفُ المفعول للتعميم أي لهم قلوبٌ ليس من شأنها أن يفقهوا بها شيئًا مما مِنْ شأنه أن يُفقَه، فيدخلُ فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائلِه دخولًا أوليًا، وتخصيصُه بذلك مُخلٌّ بالإفصاح عن كُنه حالِهم {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الكلامُ فيه كما فيما عطف هو عليه، والمرادُ بالأبصار والسمع المنفيَّيْن ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفةُ الثقلين لا ما يتناول مجردَ الإحساسِ بالشبَح والصوتِ كما هو وظيفة الأنعام، أي لا يبصرون بها شيئًا من المبصَرات فيندرج فيه الشواهدُ التكوينيةُ الدالةُ على الحق اندراجًا أوليًا {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي شيئًا من المسموعات فيتناول الآياتِ التنزيلية تناولًا أوليًا، وإعادةُ الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظامِ الكلامِ بأن يقال: وأعينٌ لا يبصرون بها وآذانٌ لا يسمعون بها لتقرير سوءِ حالهِم، وفي إثبات المشاعر الثلاثةِ لهم ثم وصفِها بعدم الشعورِ دون سلبِها عنهم ابتداءً بأن يقال: ليس لهم قلوبٌ يفقهون بها ولا أعينٌ يبصرون بها ولا آذانٌ يسمعون بها من الشهادة بكمالِ رسوخِهم في الجهل والغَواية ما لا يخفى {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بما ذكر من الصفات، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلِتهم في الضلال أي أولئك الموصوفون بالأوصاف المذكورة {كالانعام} أي في انتفاء الشعورِ على الوجه المذكورِ، أو في أن مشاعرَهم متوجهةٌ إلى أسباب التعيشِ مقصورةٌ عليها {بَلِ هُمْ أَضَلُّ} فإنها تدرِكُ ما من شأنها أن تُدركَه من المنافع والمضارِّ فتجتهد في جلبها وسلبِها غايةَ جهدِها مع كونها بمعزل من الخلود، وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لا يميِّزون بين المنافعِ والمضارِّ بل يعكسون الأمرَ فيتركون النعيمَ المقيمَ ويُقْدِمون على العذاب الخالد، وقيل: لأنها تعرِف صاحبَها وتذكرُه وتُطيعه، وهؤلاء لا يعرِفون ربَّهم ولا يذكُرونه ولا يطيعونه وفي الخبر: «كلُّ شيءٍ أطوعُ لله من ابن آدم».{أولئك} المنعوتون بما مرّ من مِثْلية الأنعامِ والشرِّيَّة منها {هُمُ الغافلون} الكاملون في الغفلة المستحِقّون لأن يُخَصَّ بهم الاسمُ ولا يطلقَ على غيرهم، كيف لا وإنهم لا يعرِفون من شؤون الله عز وجل ولا من شؤون ما سواه شيئًا فيشركون به سبحانه وليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير أصنامَهم التي هي من أخسّ مخلوقاتهِ تعالى. اهـ..قال الألوسي: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل، والذرأ بالهمزة الخلق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره أي والله تعالى لقد خلقنا {لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس} وهم المصرون على الكفر في علمه سبحانه وتعالى، واللام للعاقبة عند الكثير كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا في الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} [يونس: 88] وقول الشاعر:وفي الكشاف أنهم جعلوا لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها، وأشار إلى أن ذلك تذييل لقصة اليهود بعد ما عد من قبائحهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: إنهم من الذين لا ينجع فيهم الإنذار فدعهم واشتغل بأمر نفسك ومن هو على دينك في لزوم التوحيد، والآية على ما قال من باب الكناية الإيمائية عند القطب قدس سره ويفهم كلامه أن الذي دعا الزمخشري إلى ذلك لزوم كون الكفر مرادًا لله تعالى إذا أريد الظاهر وهو خلاف مذهبه، وأنت تعلم أن الكثير من أهل السنة تأولوا الآية بحمل اللام على ما علمت لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56] فإن تعليل الخلق بالعباد يأبى تعليله بجهنم ودخولها، نعم ذهب ابن عطية منا إلى الحمل على الظاهر وكون اللام للتعليل، وادعى أناس أن التأويل مخالف للأحاديث الواردة في الباب كبعض الأحاديث السابقة في آية أخذ الميثاق، وما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن قتادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قائل: فعلى ماذا العمل؟ قال: على موافقة القدر» وما أخرجه محيي السنة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم» إلى غير ذلك.
|