الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ عَلَى وَزْنٍ مِنَ الْأَوْزَانِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى وَزْنٍ آخَرَ أَعْلَى مِنْهُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ مِنَ الْمَعْنَى أَكْثَرَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ أَدِلَّةٌ عَلَى الْمَعَانِي؛ فَإِذَا زِيدَتْ فِي الْأَلْفَاظِ وَجَبَ زِيَادَةُ الْمَعَانِي ضَرُورَةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (الْقَمَرِ: 42) فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ " قَادِرٍ "؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ مُتَمَكِّنُ الْقُدْرَةِ، لَا يُرَدُّ شَيْءٌ عَنِ اقْتِضَاءِ قُدْرَتِهِ، وَيُسَمَّى هَذَا قُوَّةُ اللَّفْظِ لِقُوَّةِ الْمَعْنَى. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْطَبِرْ} (الْقَمَرِ: 27) فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ مِنَ " اصْبِرْ ". وَقَوْلِهِ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (الْبَقَرَةِ: 286) لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ السَّيِّئَةُ ثَقِيلَةً وَفِيهَا تَكَلُّفٌ زِيدَ فِي لَفْظِ فِعْلِهَا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} (فَاطِرٍ: 37)؛ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ " يَتَصَارَخُونَ ". وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا) (الشُّعَرَاءِ: 94) وَلَمْ يَقُلْ: " وَكُبُّوا " قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَبْكَبَةُ تَكْرِيرُ الْكَبِّ، جَعَلَ التَّكْرِيرَ فِي اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى التَّكْرِيرِ فِي الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ إِذَا أُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ يَنْكَبُّ كَبَّةً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي قَعْرِهَا، اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنْهَا خَيْرَ مُسْتَجَارٍ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: صَرَّ الْجُنْدُبَ، وَصَرْصَرَ الْبَازِيُّ، كَأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا فِي صَوْتِ الْجُنْدُبِ اسْتِطَالَةً فَقَالُوا: صَرَّ صَرِيرًا، فَمَدُّوا وَتَوَهَّمُوا، فِي صَوْتِ الْبَازِيِّ تَقْطِيعًا، فَقَالُوا: " صَرْصَرَ ". وَمِنْهُ الزِّيَادَةُ بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ " سَتَّارًا " وَ " غَفَّارًا " أَبْلَغُ مِنْ " سَاتِرٍ " وَ " غَافِرٍ "؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (نُوحٍ: 10)؛ وَمِنْ هَذَا رَجَّحَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى " الرَّحْمَنِ " عَلَى مَعْنَى " الرَّحِيمِ "؛ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبِنَاءِ، وَهُوَ الْأَلِفُ وَالنُّونُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي السَّادِسِ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ التَّضْعِيفُ- وَيُقَالُ التَّكْثِيرُ- وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى بِالصِّيغَةِ دَالَّةً عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ قَبْلَ التَّضْعِيفِ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُتَعَدِّيًا تَضْعِيفُهُ؛ وَلِهَذَا رُدَّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} حَيْثُ جَعَلَ (نَزَّلْنَا) هُنَا لِلتَّضْعِيفِ. وَقَدْ جَاءَ التَّضْعِيفُ دَالًّا عَلَى الْكَثْرَةِ فِي اللَّازِمِ قَلِيلًا، نَحْوَ: مَوَّتَ الْمَالُ. وَجَاءَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّكْثِيرُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (الرَّعْدِ: 7) {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} (الْإِسْرَاءِ: 95). فَإِنْ قُلْتَ: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} (الْبَقَرَةِ: 126) مُشْكِلٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ " فَعَّلَ " لِلتَّكْثِيرِ فَكَيْفَ جَاءَ " قَلِيلًا " نَعْتًا لِمَصْدَرِ " مَتَّعَ " وَهَذَا وَصْفُ كَثِيرٍ بِقَلِيلٍ، وَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ. قُلْتُ: وُصِفَ بِالْقِلَّةِ مِنْ حَيْثُ صَيْرُورَتِهِ إِلَى نَفَادٍ وَنَقْصٍ وَفَنَاءٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَعْنَى فِي هَذَا الْقِسْمِ مُقَيَّدٌ بِنَقْلِ صِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ غَيْرَ مَوْضُوعَةٍ لِمَعْنًى؛ فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ مَا أُرِيدَ مِنْ نَقْلِ الثُّلَاثِيِّ إِلَى مِثْلِ تِلْكَ الصِّيغَةِ؛ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النِّسَاءِ: 164) لَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ صُدُورِ الْكَلَامِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ ثُلَاثِيٍّ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (الْمُزَّمِّلِ: 4) يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ عَلَى هَيْئَةِ التَّأَنِّي وَالتَّدَبُّرِ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} (يس: 69) لَيْسَ النَّفْيُ لِلْمُبَالَغَةِ؛ بَلْ نَفَى أَصْلَ الْفِعْلِ
وَتَفْعَلُهُ الْعَرَبُ فِي مَوَاضِعِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (الْبَقَرَةِ: 255) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى: " قَرَأْتُ فِي تَفْسِيرِ الْجُنَيْدِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 255) تَفْسِيرٌ لِلْقَيُّومِ ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (الْمَعَارِجِ: 19- 20- 21). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (الْمَائِدَةِ: 9) فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} (النُّورِ: 55) فَقَوْلُهُ: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ وَتَبْيِينٌ لَهُ لَا مَفْعُولٌ ثَانٍ، فَلَمْ يَتَعَدَّ الْفِعْلُ مِنْهَا إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 59) فَـ " خَلَقَهُ " تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 49) فَـ (يُذَبِّحُونَ) وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِلسَّوْمِ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي: " وَمَتَى كَانْتِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرًا لَمْ يَحْسُنِ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا دُونَهَا؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَ الشَّيْءِ لَاحِقٌ بِهِ، وَمُتَمِّمٌ لَهُ، وَجَارٍ مَجْرَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ؛ كَالصِّلَةِ مِنَ الْمَوْصُولِ، وَالصِّفَةِ مِنَ الْمَوْصُوفِ. وَقَدْ يَجِيءُ لِبَيَانِ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (يس: 76)؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ، وَإِلَّا لَمَا حَزِنَ الرَّسُولُ؛ وَإِنَّمَا يَجِيءُ بِهِ لِبَيَانِ السَّبَبِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْزِنُهُ قَوْلُهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (يُونُسَ: 65). وَلَوْ جَاءَتِ الْآيَتَانِ عَلَى حَدِّ مَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (الْمَائِدَةِ: 9) لَكَانَتْ " أَنَّ " مَفْتُوحَةً، لَكِنَّهَا جَاءَتْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ... فَائِدَةُ قِيلَ: الْجُمْلَةُ التَّفْسِيرِيَّةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقِيلَ: يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ إِذَا كَانَ لِلْمُفَسَّرِ مَوْضِعٌ؛ وَيَقْرُبُ مِنْهَا ذِكْرُهُ تَفْصِيلًا، كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (الْأَعْرَافِ: 142). وَمِثْلُ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (الْبَقَرَةِ: 196)
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} (النِّسَاءِ: 23)، فَإِنَّ الْحِجْرَ لَيْسَ بِقَيْدٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ لَكِنَّ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ تَأْكِيدُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (النِّسَاءِ: 23) وَلَمْ يَقُلْ: " {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (النِّسَاءِ: 23) وَلَمْ يَكُنَّ فِي حُجُورِكُمْ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِجْرَ خَرَجَ مَخْرَجُ الْعَادَةِ. وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الْحُرْمَةَ إِذَا كَانَتْ بِالْمَجْمُوعِ فَالْحِلُّ يَثْبُتُ بِانْتِفَاءِ الْمَجْمُوعِ، وَالْمَجْمُوعُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ، كَمَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْمَجْمُوعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا نُفِيَ أَحَدُ شَطْرَيِ الْعِلَّةِ كَانَ جُزْءُ الْعِلَّةِ ثَابِتًا؛ فَيَعْمَلُ عَمَلَهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (النِّسَاءِ: 23) قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النِّسَاءِ: 24) عُلِمَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنْ الرَّبِيبَةَ لَا تَحْرُمُ إِذَا لَمْ يُدْخَلْ بِأُمِّهَا؛ فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (النِّسَاءِ: 23). قِيلَ: فَائِدَتُهُ أَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ قَيْدَ الدُّخُولِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ؛ كَمَا فِي الْحِجْرِ الْمَفْهُومِ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَلَا تَقْيِيدَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ خِلَافًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْعِرَاقِيِّ؛ حَيْثُ قَالُوا: " إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً بِلَا خِلَافٍ إِذَا لَمْ تَغْلِبْ "؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ إِذَا كَانَتْ غَالِبَةً دَلَّتِ الْعَادَةُ عَلَيْهَا، فَاسْتَغْنَى الْمُتَكَلِّمُ بِالْعَادَةِ عَنْ ذِكْرِهَا، فَلَمَّا ذَكَرَهَا مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْإِخْبَارَ بِوُقُوعِهَا لِلْحَقِيقَةِ؛ بَلْ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا نَفْيُ الْحُكْمِ مِنَ الْمَسْكُوتِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ غَالِبَةً أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَهَا لِيَعْرِفَ السَّامِعُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَعْرِضُ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (الْإِسْرَاءِ: 31). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 283) وَجَوَّزُوا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُخْتَصُّ بِالسَّفَرِ، لَكِنْ ذُكِرَ لِأَنَّ فَقْدَ الْكَاتِبِ يَكُونُ فِيهِ غَالِبًا، فَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مَظِنَّةَ إِعْوَازِ الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ الْمَوْثُوقِ بِهِمَا، أَمَرَ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْشَادِ بِحِفْظِ مَالِ الْمُسَافِرِينَ بِأَخْذِ الْوَثِيقَةِ الْأُخْرَى؛ وَهِيَ الرَّهْنُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (النِّسَاءِ: 101) وَالْقَصْرُ جَائِزٌ مَعَ أَمْنِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا الشَّرْطِ، وَغَالِبُ أَسْفَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لَمْ تَخْلُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْخَوْفَ هُنَا شَرْطًا إِنْ حُمِلَ الْقَصْرُ عَلَى تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالنُّزُولِ عَنِ الدَّابَّةِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَنَحْوِهِ؛ لَا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، لَكِنَّ ذَلِكَ شِدَّةُ خَوْفٍ لَا خَوْفٌ، وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يُسَاعِدُهُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (النُّورِ: 33)
وَهُوَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ جُمْلَةٌ يُؤَكَّدُ بِهَا الْخَبَرُ، حَتَّى إِنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (الْمُنَافِقُونَ: 1) قَسَمًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِخْبَارٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ تَوْكِيدًا لِلْخَبَرِ سُمِّيَ قَسَمًا. وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِاسْمِ مُعَظَّمٍ كَقَوْلِهِ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} (الذَّارِيَاتِ: 23) وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (يُونُسَ: 53). وَقَوْلِهِ: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (التَّغَابُنِ: 7). وَقَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} (مَرْيَمَ: 68). وَقَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الْحِجْرِ: 92). وَقَوْلِهِ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (النِّسَاءِ: 65). وَقَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (الْمَعَارِجِ: 40). فَهَذِهِ سَبْعَةُ مَوَاضِعَ أَقْسَمَ اللَّهُ فِيهَا بِنَفْسِهِ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ أَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ. كَقَوْلِهِ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (التِّينِ: 1). {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (الْوَاقِعَةِ: 75- 76). {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} (التَّكْوِيرِ: 15- 16). وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الْقَسَمِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ؟ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْمُؤْمِنِ فَالْمُؤْمِنُ يُصَدِّقُ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْكَافِرِ فَلَا يُفِيدُهُ. فَالْجَوَابُ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: " إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْقَسَمَ لِكَمَالِ الْحُجَّةِ وَتَأْكِيدِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ يُفْصَلُ بِاثْنَيْنِ: إِمَّا بِالشَّهَادَةِ، وَإِمَّا بِالْقَسَمِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ النَّوْعَيْنِ حَتَّى لَا يُبْقِيَ لَهُمْ حُجَّةً. فَقَالَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} (آلِ عِمْرَانَ: 18) وَقَالَ: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (يُونُسَ: 53). وَقَوْلُهُ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الْحِجْرِ: 72). وَعَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} (الذَّارِيَاتِ: 22- 23) صَاحَ وَقَالَ: مَنِ الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْيَمِينِ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ مَاتَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَلَيْنَا أَلَّا نُقْسِمَ بِمَخْلُوقٍ؟ قِيلَ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حُذِفَ مُضَافٌ، أَيْ: " وَرَبِّ الْفَجْرِ " وَ " رَبِّ التِّينِ "، وَكَذَلِكَ الْبَاقِي. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُعَظِّمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَتُقْسِمُ بِهَا؛ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَقْسَامَ إِنَّمَا تَجِبُ بِأَنْ يُقْسِمَ الرَّجُلُ بِمَا يُعَظِّمُهُ، أَوْ بِمَنْ يُجِلُّهُ؛ وَهُوَ فَوْقَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ شَيْءٌ فَوْقَهُ؛ فَأَقْسَمَ تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِمَصْنُوعَاتِهِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بَارِئٍ وَصَانِعٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَقَسَمُهُ بِالنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ: (لَعَمْرُكَ) (الْحِجْرِ: 72)؛ لِيَعْرِفَ النَّاسُ عَظَمَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَكَانَتَهُ لَدَيْهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي " كَنْزِ الْيَوَاقِيتِ ": " وَالْقَسَمُ بِالشَّيْءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ وَجْهَيْنِ: إِمَّا لِفَضِيلَةٍ، أَوْ لِمَنْفَعَةٍ؛ فَالْفَضِيلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (التِّينِ: 2- 3) وَالْمَنْفَعَةُ نَحْوَ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (التِّينِ: 1). وَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: بِذَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الذَّارِيَاتِ: 23) {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الْحِجْرِ: 92). وَالثَّانِي بِفِعْلِهِ، نَحْوَ: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (الشَّمْسِ: 5- 6- 7). وَالثَّالِثُ: مَفْعُولُهُ نَحْوَ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النَّجْمِ: 1) {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (الطُّورِ: 1- 2). وَهُوَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى مُظْهَرٍ وَمُضْمَرٍ: فَالْمُظْهَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الذَّارِيَاتِ: 23) وَنَحْوِهِ. وَالْمُضْمَرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ لَامُ الْقَسَمِ؛ كَقَوْلِهِ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 186)، وَقِسْمٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (مَرْيَمَ: 71) تَقْدِيرُهُ: " وَاللَّهِ ". وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى بِطَوَائِفَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَالْمُرْسَلَاتِ، وَالنَّازِعَاتِ. فَوَائِدٌ: الْأُولَى: أَكْثَرُ الْأَقْسَامِ الْمَحْذُوفَةُ الْفِعْلِ فِي الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْوَاوِ، فَإِذَا ذُكِرَتِ الْبَاءُ أُتِيَ بِالْفِعْلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (النَّحْلِ: 38) {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 62) وَلَا تَجِيءُ الْبَاءُ وَالْفِعْلُ مَحْذُوفًا إِلَّا قَلِيلًا، وَعَلَيْهِ حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) (لُقْمَانَ: 13) وَقَالَ: الْبَاءُ بَاءُ الْقَسَمِ، وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِـ " تُشْرِكْ " وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: بِاللَّهِ لَا تُشْرِكْ؛ وَحَذَفَ " لَا تُشْرِكْ " لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} (الزُّخْرُفِ: 49) قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: " بِمَا عَهِدَ " قَسَمٌ؛ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سُؤَالٌ لَا قَسَمٌ. وَقَوْلُهُ: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) (الْمَائِدَةِ: 116) فَتَقِفُ عَلَى (لِي) وَتَبْتَدِئُ بِحَقٍّ فَتَجْعَلُهُ قَسَمًا. هَذَا مَعَ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ الْوَاوَ فَرْعُ الْيَاءِ؛ لَكِنَّهُ قَدْ يَكْثُرُ الْفَرْعُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَيَقِلُّ الْأَصْلُ. الثَّانِيَةُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْقَسَمَ إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِتَوْكِيدِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ؛ فَتَارَةً يَزِيدُونَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْكِيدِ، وَتَارَةً يَحْذِفُونَ مِنْهُ لِلِاخْتِصَارِ وَلِلْعِلْمِ بِالْمَحْذُوفِ. فَمَا زَادُوهُ لَفْظُ " إِي " بِمَعْنَى " نَعَمْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ إِي وَرَبِّي) (يُونُسَ: 53). وَمِمَّا يَحْذِفُونَهُ فِعْلُ الْقَسَمِ وَحَرْفُ الْجَرِّ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ مَذْكُورًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ} (الْأَحْزَابِ: 21) أَيْ " وَاللَّهِ ". وَقَوْلِهِ: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} (الشُّعَرَاءِ: 49) {لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ} (الْعَلَقِ: 15) {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} (يُوسُفَ: 32). وَقَدْ يَحْذِفُونَ الْجَوَابَ وَيُبْقُونَ الْقَسَمَ لِلْعِلْمِ بِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (ص: 1) عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ؛ أَنَّ الْجَوَابَ حُذِفَ لِطُولِ الْكَلَامِ؛ وَتَقْدِيرُهُ " لَأُعَذِّبَنَّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ". وَقِيلَ: الْجَوَابُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ. وَمِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمُقْسَمُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (الْمُنَافِقُونَ: 1) أَيْ: نَحْلِفُ إِنَّكَ لِرَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) (الْمُنَافِقُونَ: 2). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} (ص: 84) فَالْأَوَّلُ قَسَمٌ بِمَنْزِلَةِ " وَالْحَقِّ " وَجَوَابُهُ: " لَأَمْلَأَنَّ "، وَقَوْلُهُ: {وَالْحَقَّ أَقُولُ} (ص: 84) تَوْكِيدٌ لِلْقَسَمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} (الْبُرُوجِ: 1) ثُمَّ قَالَ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} (الْبُرُوجِ: 4) قَالُوا: وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَأَصْلُهُ " لَقَدْ قُتِلَ " ثُمَّ حُذِفَ اللَّامُ وَقَدْ. الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَارِسِيُّ فِي " الْحُجَّةِ ": الْأَلْفَاظُ الْجَارِيَةُ مَجْرَى الْقَسَمِ فِي الْقُرْآنِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَكُونُ جَارِيَةً كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِقَسَمٍ، فَلَا تُجَابُ بِجَوَابِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الْحَدِيدِ: 8) {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} (الْبَقَرَةِ: 63) {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} (الْمُجَادَلَةِ: 18) فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا وَأَنْ يَكُونَ حَالًا؛ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْجَوَابِ. وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 187) {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (النَّحْلِ: 38). الرَّابِعَةُ: الْقَسَمُ وَالشَّرْطُ يَدْخُلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَسَمُ وَدَخَلَ الشَّرْطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَوَابِ كَانَ الْجَوَابُ لِلْقَسَمِ، وَأَغْنَى عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَإِنْ عُكِسَ فَبِالْعَكْسِ، وَأَيُّهُمَا تَصَدَّرَ كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ لَهُ. وَمِنْ تَقَدُّمِ الْقَسَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} (مَرْيَمَ: 46) تَقْدِيرُهُ: " وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ "، فَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الشَّرْطِ لَيْسَتْ بِلَامِ الْقَسَمِ، وَلَكِنَّهَا زَائِدَةٌ، وَتُسَمَّى الْمُوَطِّئَةَ لِلْقَسَمِ، وَيَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّهَا مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ مُنْتَظَرٌ؛ أَيِ: الشَّرْطُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا خَبَرًا. وَلَيْسَ دُخُولُهَا عَلَى الشَّرْطِ بِوَاجِبٍ؛ بِدَلِيلِ حَذْفِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الْمَائِدَةِ: 73). وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْجَوَابِ لِلْقَسَمِ لَا لِلشَّرْطِ دُخُولُ اللَّامِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْزُومٍ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} (الْإِسْرَاءِ: 88)، وَلَوْ كَانَ جَوَابُ الشَّرْطِ لَكَانَ مَجْزُومًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 158) فَاللَّامُ فِي " وَلَئِنْ " هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَاللَّامُ فِي (لَإِلَى اللَّهِ) هِيَ لَامُ الْقَسَمِ، وَلَمْ تَدْخُلْ نُونُ التَّوْكِيدِ عَلَى الْفِعْلِ؛ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّامِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَالْأَصْلُ " لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لِتُحْشَرُونِ إِلَى اللَّهِ " فَلَمَّا قُدِّمَ مَعْمُولُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ حُذِفَ مِنْهُ.
مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْكِيدِ فِي الْقُرْآنِ لِيَدُلَّ عَلَى بَقِيَّةِ جُمَلِهِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: لَا أُكَلِّمُكَ حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُ، وَحَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (الْأَعْرَافِ: 40) يَعْنِي: وَالْجَمَلُ لَا يَلِجُ فِي السَّمِّ فَهَؤُلَاءِ لَا يَدْخُلُونَ، فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُتَعَلِّقٌ بِالْحَالِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَصْلًا، وَلَيْسَ لِلْغَايَةِ هُنَا مَفْهُومٌ، وَوَجْهُ التَّأْكِيدِ فِيهِ كَدَعْوَى الشَّيْءِ بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ وُلُوجَ الْجَمَلِ فِي السَّمِّ غَايَةً لِنَفْيِ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، وَتِلْكَ غَايَةٌ لَا تُوجَدُ، فَلَا يَزَالُ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ مُنْتَفِيًا. وَغَالَى بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي وَصْفِ جِسْمِهِ بِالنُّحُولِ، فَجَاءَ بِمَا يَزِيدُ عَلَى الْآيَةِ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ مَا بِي مِنْ جَوًى وَصَبَابَةٍ *** عَلَى جَمَلٍ لَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ خَالِدُ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الشُّعَرَاءِ فِي اعْتِبَارِ الْمُبَالَغَةِ، وَإِلَّا فَمُعَارَضَاتُ الْقُرْآنِ لَا تَجُوزُ، كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (النِّسَاءِ: 22). فَإِنَّ الْمَعْنَى: إِنْ كَانَ مَا سَلَفَ فِي الزَّمَنِ السَّالِفِ يُمْكِنُ رُجُوعُهُ فَحِلُّهُ ثَابِتٌ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ رُجُوعُهُ أَبَدًا، وَلَا يَثْبُتُ حِلُّهُ أَبَدًا، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ الْمُجَرَّدِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزُّخْرُفِ: 81) أَيْ: وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ فَلَا أَعْبُدُ سِوَاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} (مَرْيَمَ: 62) أَيْ: إِنْ كَانَ تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ لَغْوًا، فَلَا يَسْمَعُونَ لَغْوًا إِلَّا ذَلِكَ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ *** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (الدُّخَانِ: 56) فَإِنَّ النَّاسَ اسْتَشْكَلُوا وَجْهَ الِاسْتِثْنَاءِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ مُطْلَقًا، وَمُقْتَضَى اسْتِثْنَائِهَا مِنَ النَّفْيِ أَنَّهُمْ يَذُوقُونَهَا فِي الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَوَجَّهُهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: " بِأَنَّهُ مِنَ التَّوْكِيدِ فِي الدَّلَالَةِ، وَالْمَوْتَةُ الْأُولَى لَا يَذُوقُونَهَا أَصْلًا، إِذْ يَسْتَحِيلُ عَوْدُ مَا وَقَعَ، فَلَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أَصْلًا، أَيْ: إِنْ كَانُوا يَذُوقُونَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ إِيقَاعُ الْمَوْتَةِ الْأُولَى فِي الْجَنَّةِ مُسْتَحِيلًا، فَعَرَّضَ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِلَى اسْتِحَالَةِ الْمَوْتِ فِيهَا. هَذَا إِنْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا، فَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فَالْمَعْنَى: " لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى قَدْ ذَاقُوهَا ". وَيَحْتَمِلُ عَلَى الِاتِّصَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهَا، أَيْ: فِي مُقَدِّمَاتِهَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَرَى مَقَامَهُ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ مَوْتِهِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَنْ هُوَ فِيهَا، بِتَأْوِيلِ الذَّوْقِ عَلَى مَعْنَى الْمُسْتَحِيلِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ.
وَوَجْهُ التَّأْكِيدِ فِيهِ أَنَّهُ ثَنَّى ذِكْرَهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي الْجُمْلَةِ، وَمَرَّةً فِي التَّفْصِيلِ. فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي جُمْلَتِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} (الْحِجْرِ: 30- 31) فَإِنَّ فِيهِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، هُوَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا إِبْلِيسُ، مِنْ كَوْنِهِ خَرَقَ إِجْمَاعَ الْمَلَائِكَةِ، وَفَارَقَ جَمِيعَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِخُرُوجِهِ مِمَّا دَخَلُوا فِيهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ؛ وَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِكَ: أَمَرَ الْمَلِكُ بِكَذَا فَأَطَاعَ أَمْرَهُ جَمِيعُ النَّاسِ، مِنْ أَمِيرٍ وَوَزِيرٍ إِلَّا فُلَانًا، فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ مَعْصِيَةِ الْمَلِكِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: أَمَرَ الْمَلِكُ فَعَصَاهُ فُلَانٌ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ وُصِفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ فِيمَا ضَرَبَهُ عَلَى إِبْلِيسَ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا، وَخَتَمَ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (الْعَنْكَبُوتِ: 14) فَإِنَّ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُدَّةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ تَهْوِيلًا عَلَى السَّامِعِ؛ لِيَشْهَدَ عُذْرَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى قَوْمِهِ، وَحِكْمَةُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُدَّةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ تَعْظِيمٌ لِلْمُدَّةِ؛ لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يُبَاشِرُ السَّمْعَ ذِكْرُ " الْأَلْفِ " وَاخْتِصَارُ اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ أَخْصَرُ مِنْ تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ يُفِيدُ حَصْرَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَلَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا النَّقْصَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هُودٍ: 106- 107) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ وَصْفَ الشَّقَاءِ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ وَالْكَافِرَ، اسْتَثْنَى مَنْ حَكَمَ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ بِلَفْظٍ مُطْمِعٍ؛ حَيْثُ أَثْبَتَ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُطْلَقَ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أَيْ: أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي إِخْرَاجِ أَهْلِ الشَّقَاءِ مِنَ النَّارِ. وَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَكَّدَ خُلُودَهُمْ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا يَرْفَعُ أَصْلَ الِاسْتِثْنَاءَ، حَيْثُ قَالَ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هُودٍ: 108) أَيْ: غَيْرَ مُنْقَطِعٍ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ عَطَاءَهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي زَائِدَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ اللُّغَوِيِّ. وَقِيلَ: وَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى مَنْزِلَةٍ أَعْلَى كَالرِّضْوَانِ وَالرُّؤْيَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرًا *** وَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ لِخُرُوجِ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ، أَوْ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ؛ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ، وَجَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ دَالًّا عَلَى نَجَاةِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْعَذَابِ، فَكَأَنَّهُ تَصَوَّرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى انْقِطَاعِ النَّعِيمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هُودٍ: 108) فَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ لَا يُحْمَلُ عَلَى انْقِطَاعِ عَذَابِ الْجَحِيمِ؛ لِتَنَاسُبِ أَطْرَافِ الْكَلَامِ. وَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (هُودٍ: 107) عَقِبَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هُودٍ: 108) عَقِبَ الثَّانِي، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ بِأَهْلِ النَّارِ مَا يُرِيدُ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا يُعْطِي لِأَهْلِ الْجَنَّةِ عَطَاءَهُ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ. قِيلَ: وَمَا أَصْدَقَ فِي سِيَاقِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُ الْقَائِلِ: حَفِظْتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ *** وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْإِخْرَاجُ عَنْ حُكْمِ مَا قَبْلَهُ، وَلَا مُوجِبَ لِلْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ، فَحُمِلَ عَلَى النَّجَاةِ. وَلَمَّا كَانَ إِنْجَاءُ الْمُسْتَحِقِّ الْعَذَابَ مَحَلَّ تَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (هُودٍ: 107) أَيْ: مِنَ الْعَذَابِ وَالْإِنْجَاءِ مِنْهُ بِفَضْلِهِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ اعْتِرَاضُ أَحَدٍ؛ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ وَقَطْعِ النَّعِيمِ لَا يُنَاسِبُ إِنْجَاءَ أَهْلِ النَّارِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ، فَلِذَا عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هُودٍ: 108) بَيَانًا لِلْمَقْصُودِ. وَرِعَايَةُ هَذَا الْبَابِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ الْبَابِ الَّذِي تَوَهَّمَ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ فَإِنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ يَنْبَغِي، أَلَّا يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ أَيْضًا عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُنْصِفِ أَنَّهُ تَعَسُّفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} (الْغَاشِيَةِ: 6) فَالْمَعْنَى: لَا طَعَامَ لَهُمْ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الضَّرِيعَ لَيْسَ بِطَعَامِ الْبَهَائِمِ فَضْلًا عَنِ الْإِنْسِ؛ وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: لَيْسَ لِفُلَانٍ ظِلٌّ إِلَّا الشَّمْسَ؛ تُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْيَ الظِّلِّ عَنْهُ عَلَى التَّوْكِيدِ، وَالضَّرِيعُ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ يُسَمَّى الشَّبْرَقَ فِي حَالِ خُضْرَتِهِ وَطَرَاوَتِهِ، فَإِذَا يَبِسَ سُمِّيَ الضَّرِيعَ، وَالْإِبِلُ تَرْعَاهُ طَرِيًّا لَا يَابِسًا. وَقَرِيبٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، بِأَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ صِفَةِ ذَمٍّ مَنْفِيَّةٍ عَنِ الشَّيْءِ صِفَةُ مَدْحٍ بِتَقْدِيرِ دُخُولِهَا فِيهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (الْوَاقِعَةِ: 25- 26) التَّأْكِيدُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى الِاتِّصَالِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالِانْقِطَاعِ.
وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ؛ فَتَزِيدُ فِي التَّعْرِيفِ بِمِقْدَارِ شِدَّتِهِ أَوْ ضَعْفِهِ؛ فَيُدَّعَى لَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ مَا يُسْتَبْعَدُ عِنْدَ السَّمَاعِ؛ أَوْ يُحِيلُ عَقْلُهُ ثُبُوتَهُ. وَمِنْ أَحْسَنِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} (النُّورِ: 40) وَهِيَ ظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ الْمَوْجِ فَوْقَهُ، وَظُلْمَةُ السَّحَابِ فَوْقَ الْمَوْجِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (الْأَحْزَابِ: 10) أَيْ: كَادَتْ تَبْلُغُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِذَا زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ مَاتَ صَاحِبُهُ. وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِنَّ الْخَوْفَ وَالرَّوْعَ يُوجِبُ لِلْخَائِفِ أَنْ تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْهَضَ بِالْقَلْبِ نَحْوَ الْحَنْجَرَةِ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. أَوْ أَنَّهَا لَمَّا اتَّصَلَ وَجِيبُهَا وَاضْطِرَابُهَا بَلَغَتِ الْحَنَاجِرَ. وَرَدَّ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ تَقْدِيرَ " كَادَتْ " فَإِنَّ " كَادَ " لَا تُضْمَرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (إِبْرَاهِيمَ: 46). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (مَرْيَمَ: 90- 91). وَمِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} (الْمُرْسَلَاتِ: 32- 33). وَقَدْ يَخْرُجُ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأَعْظَمِ الْأَكْبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ مَجَازٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الْفَجْرِ: 22) فَجَعَلَ مَجِيءَ جَلَائِلِ آيَاتِهِ مَجِيئًا لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} (النُّورِ: 39) فَجَعَلَ نَقْلَهُ بِالْهَلَكَةِ مِنْ دَارِ الْعَمَلِ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ وُجْدَانًا لِلْمَجَازِيِّ. وَمِنْهُ مَا جَرَى مَجْرَى الْحَقِيقَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (النُّورِ: 43) فَإِنَّ اقْتِرَانَ هَذِهِ بِـ " يَكَادُ " صَرْفُهَا إِلَى الْحَقِيقَةِ؛ فَانْقَلَبَ مِنَ الِامْتِنَاعِ إِلَى الْإِمْكَانِ. وَقَدْ تَجِيءُ الْمُبَالَغَةُ مُدْمَجَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرَّعْدِ: 10) فَإِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُدْمَجَةٌ فِي الْمُقَابَلَةِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ لَا إِلَى الْمُخَاطِبِ؛ مَعْنَاهُ أَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ عِنْدَكُمْ؛ وَإِلَّا فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِمُبَالَغَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} (الْكَهْفِ: 109) الْآيَةَ فَقِيلَ: سَبَبُهَا أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ عَنَّفَنَا بِهَذَا الْقَوْلِ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 85) وَنَحْنُ قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَفِيهَا كَلَامُ اللَّهِ وَأَحْكَامُهُ، وَنُورٌ وَهُدًى؟! فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: التَّوْرَاةُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} (لُقْمَانَ: 27). قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الْإِعْلَامُ بِكَثْرَةِ كَلِمَاتِهِ؛ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَإِنَّمَا قَرَّبَ الْأَمْرَ عَلَى أَفْهَامِ الْبَشَرِ بِمَا يَتَنَاهَى؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يَعْهَدُهُ الْبَشَرُ مِنَ الْكَثْرَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ مَا تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَكُنْ لِتَنْفَدَ، وَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ أَنَّهَا تَنْفَدُ بِأَكْثَرِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْلَامِ وَالْبُحُورِ؛ وَكَمَا قَالَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ حِينَ غَمَسَ مِنْقَارَهُ فِيهَا ". وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا جَاءَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِغْضَاءِ عَنِ الْعُيُوبِ، وَالصَّفْحِ عَنِ الذُّنُوبِ، وَالتَّغَافُلِ عَنِ الزَّلَّاتِ، وَالسَّتْرِ عَلَى أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الْأَعْرَافِ: 199). وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (فُصِّلَتْ: 34) الْآيَةِ.
تنبيه: تَحَصَّلَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ قَصْدَ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَلْزِمُ فِي الْحَالِ الْإِيجَازَ: إِمَّا بِالْحَذْفِ، وَإِمَّا بِجَعْلِ الشَّيْءِ نَفْسَ الشَّيْءِ، أَوْ يَتَكَرَّرُ لَفْظٌ يَتِمُّ بِتَكَرُّرِهِ التَّهْوِيلُ وَالتَّعْظِيمُ، وَيَقُومُ مَقَامَ أَوْصَافٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} (الْحَاقَّةِ: 1- 2). وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كِتَابِهِ لِافْتِرَاقِهَا فِي أَحْكَامٍ. فَائِدَةٌ: اخْتُلِفَ فِي الْمُبَالَغَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: إِنْكَارُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الِاسْتِحَالَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْغَايَةُ فِي الْحُسْنِ، وَأَعْذَبُ الْكَلَامِ مَا بُولِغَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ: لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى *** وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ أَنَّهَا مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ؛ الْمُبَالَغَةُ وَلَا يَنْحَصِرُ الْحُسْنُ فِيهَا؛ فَإِنَّ فَضِيلَةَ الصِّدْقِ لَا تُنْكَرُ، وَلَوْ كَانَتْ مَعِيبَةً لَمْ تَرِدْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَهَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لُغَةً، كَمَا فِي الْكِنَايَةِ وَالتَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَغَيْرِهَا، مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُشْفَعَ مَا يُفْهِمُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي زِيَادَةً؛ فَتَتَرَادَفُ الصِّفَاتُ بِقَصْدِ التَّهْوِيلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} (النُّورِ: 40)
وَأَسْمَاهُ قُدَامَةُ " الْتِفَاتًا " وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ أَوْ كَلَامَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ مَعْنًى، بِشَيْءٍ يَتِمُّ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ بِدُونِهِ، وَلَا يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ، فَيَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الْكَلَامِ وَالْكَلَامَيْنِ؛ لِنُكْتَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ إِرَادَةُ وَصْفِ شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا قَصْدًا، وَالثَّانِي بِطَرِيقِ الِانْجِرَارِ، وَلَهُ تَعْلِيقٌ بِالْأَوَّلِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْكِيدِ. وَعِنْدَ النُّحَاةِ: جُمْلَةٌ صُغْرَى تَتَخَلَّلُ جُمْلَةً كُبْرَى عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي أَمَالِيهِ: " الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ تَارَةً تَكُونُ مُؤَكِّدَةً، وَتَارَةً تَكُونُ مُشَدِّدَةً "؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أَلَّا تَدُلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ بَلْ دَلَّتْ عَلَيْهِ فَقَطْ؛ فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ، وَإِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ وَعَلَى مَعْنَى زَائِدٍ؛ فَهِيَ مُشَدِّدَةٌ " انْتَهَى. وَذَكَرَ النُّحَاةُ مِمَّا تَتَمَيَّزُ بِهِ الْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ عَنِ الْحَالِيَّةِ كَوْنَهَا طَلَبِيَّةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 135) فَإِنَّهُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 135) وَبَيْنَ: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} (آلِ عِمْرَانَ: 135). وَلَهُ أَسْبَابٌ مِنْهَا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ أَحْسَنُ بِفُلَانِ وَنِعْمَ مَا فَعَلَ، وَرَأَى مِنَ الرَّأْيِ كَذَا، وَكَانَ صَوَابًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} (يُوسُفَ: 73) {لَقَدْ عَلِمْتُمْ} اعْتِرَاضٌ؛ وَالْمُرَادُ تَقْرِيرُ إِثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ مِنْ تُهْمَةِ السَّرِقَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (مُحَمَّدٍ: 2)، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النَّمْلِ: 34) وَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النَّمْلِ: 34) بَيْنَ كَلَامِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} (الْبَقَرَةِ: 25). وَمِنْهَا قَصْدُ التَّنْزِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} (النَّحْلِ: 57) فَاعْتِرَاضُ (سُبْحَانَهُ) لِغَرَضِ التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ، وَفِيهِ الشَّنَاعَةُ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْبَنَاتَ لِلَّهِ. وَمِنْهَا قَصْدُ التَّبَرُّكِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (الْفَتْحِ: 27). وَمِنْهَا قَصْدُ التَّأْكِيدِ؛ كَقَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (الْوَاقِعَةِ: 75- 76). وَفِيهَا اعْتِرَاضَانِ؛ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) (الْوَاقِعَةِ: 76) بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ، وَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: (لَوْ تَعْلَمُونَ) (الْوَاقِعَةِ: 76) بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ شَأْنِ مَا أَقْسَمَ بِهِ مِنْ مَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَتَأْكِيدُ إِجْلَالِهِ فِي النُّفُوسِ، لَا سِيَّمَا بِقَوْلِهِ: (لَوْ تَعْلَمُونَ) (الْوَاقِعَةِ: 76). وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} (الْكَهْفِ: 30- 31) فَـ أُولَئِكَ الْخَبَرُ، وَ{إِنَّا لَا نُضِيعُ} اعْتِرَاضٌ. وَمِنْهَا كَوْنُ الثَّانِي بَيَانًا لِلْأَوَّلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (الْبَقَرَةِ: 222) فَإِنَّهُ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: (فَأْتُوهُنَّ) (الْبَقَرَةِ: 222) وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 223) وَهُمَا مُتَّصِلَانِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ بَيَانٌ لِلْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ يَحْصُلُ مِنْهُ الْحَرْثُ، وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ بِأَكْثَرِ مِنْ جُمْلَةٍ. وَمِنْهَا تَخْصِيصُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ بِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ عَلَى أَمْرٍ عُلِّقَ بِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (لُقْمَانَ: 14) فَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لُقْمَانَ: 14) بَيْنَ وَوَصَّيْنَا وَبَيْنَ الْمُوصَى بِهِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إِذْكَارُ الْوَلَدِ بِمَا كَابَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ؛ فَذِكْرُ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ يُفِيدُ زِيَادَةَ التَّوْصِيَةِ بِالْأُمِّ؛ لِتَحَمُّلِهَا مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ فِي حَمْلِ الْوَلَدِ مَا لَا يَتَكَلَّفُهُ الْوَالِدُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ التَّوْصِيَةُ بِالْأُمِّ ثَلَاثًا وَبِالْأَبِ مَرَّةً. وَمِنْهَا زِيَادَةُ الرَّدِّ عَلَى الْخَصْمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} (الْبَقَرَةِ: 71) الْآيَةَ فَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} (الْبَقَرَةِ: 72) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَفَائِدَتُهُ أَنْ يُقَرِّرَ فِي أَنْفُسِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ تَدَارُؤَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَتْلِ تِلْكَ الْأَنْفُسِ لَمْ يَكُنْ نَافِعًا لَهُمْ فِي إِخْفَائِهِ وَكِتْمَانِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُظْهِرٌ لِذَلِكَ وَمُخْرِجُهُ، وَلَوْ جَاءَ الْكَلَامُ خَالِيًا مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ لَكَانَ {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} (الْبَقَرَةِ: 72) {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (الْبَقَرَةِ: 73). وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (النَّحْلِ: 101)، فَاعْتَرَضَ بَيْنَ إِذْ وَجَوَابِهَا بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} (النَّحْلِ: 101) فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ دَعْوَاهُمْ؛ فَجَعَلَ الْجَوَابَ اعْتِرَاضًا. قَوْلُهُ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الزُّمَرِ: 45) إِلَى قَوْلِهِ: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزُّمَرِ: 49). وَقَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الزُّمَرِ: 46) إِلَى قَوْلِهِ: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الزُّمَرِ: 48) اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} (الزُّمَرِ: 45) الْآيَةَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} (الزُّمَرِ: 49) سَبَبٌ عَنْ قَوْلِهِ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} (الزُّمَرِ: 45) عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يَشْمَئِزُّونَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالشِّرْكِ الَّذِي هُوَ ذِكْرُ الْآلِهَةِ؛ فَإِذَا مَسَّ أَحَدَهُمْ ضُرٌّ أَوْ أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ تَنَاقَضَ فِي دَعْوَاهُ؛ فَدَعَا مَنِ اشْمَأَزَّ مِنْ ذِكْرِهِ، وَانْقَبَضَ مِنْ تَوْحِيدِهِ، وَلَجَأَ إِلَيْهِ دُونَ الْآلِهَةِ، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، فَقَيَّدَ الْقَوْلَ بِمَا فِيهِ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَمْرِهِ بِذَلِكَ، وَبِقَوْلِهِ: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} (الزُّمَرِ: 8) ثُمَّ عَقَّبَهُ مِنَ الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ أَشَدَّ التَّأْكِيدِ وَأَعْظَمَهُ وَأَبْلَغَهُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ اتِّصَالُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ} (الزُّمَرِ: 8) لِلسَّبَبِ الْوَاقِعِ فِيهَا، وَخُلُوِّ الْأَوَّلِ مِنْهُ مِنَ الْأَمْرِ اشْتِرَاكُ جُمْلَةٍ مَعَ جُمْلَةٍ، وَمُنَاسَبَةٌ أَوْجَبَتِ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ الْمَوْضُوعَةِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِمْ: قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو. وَتَسْبِيبُ السَّبَبِ مَعَ مَا فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ مِنَ اشْمِئْزَازِهِمْ لَيْسَ يَقْتَضِي الْتِجَاءَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ التَّنَاقُضِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ: زَيْدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ لَجَأَ إِلَيْهِ. فَهَذَا سَبَبٌ ظَاهِرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اطِّرَادِ الْأَمْرِ، وَتَقُولُ: زَيْدٌ كَافِرٌ بِاللَّهِ؛ فَإِذَا مَسَّهُ ضُرٌّ لَجَأَ إِلَيْهِ. فَتَجِيءُ بِالْفَاءِ هُنَا كَالْأَوَّلِ؛ لِغَرَضِ الْتِزَامِ التَّنَاقُضِ أَوِ الْعَكْسِ؛ حَيْثُ أَنْزَلَ الْكَافِرُ كُفْرَهُ مَنْزِلَةَ الْإِيمَانِ فِي فَصْلِ سَبَبِ الِالْتِجَاءِ، فَأَنْتَ تُلْزِمُهُ الْعَكْسَ بِأَنَّكَ إِنَّمَا تَقْصِدُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْإِنْكَارَ وَالتَّعَجُّبَ مِنْ فِعْلِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزُّمَرِ: 61) بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الزُّمَرِ: 62- 63) اعْتِرَاضٌ وَاقِعٌ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ مُتَّصِلٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزُّمَرِ: 61) {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (الزُّمَرِ: 63) وَهُوَ عَلَى مَهْيَعِ أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ؛ مِنْ ذِكْرِ الضِّدِّ عَقِبَ الضِّدِّ كَثِيرٌ كَمَا قِيلَ: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ *** وَمِنْهَا الْإِدْلَاءُ بِالْحُجَّةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} (النَّحْلِ: 43- 44) فَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: (فَاسْأَلُوا) بَيْنَ قَوْلِهِ: {نُوحِي إِلَيْهِمْ} (النَّحْلِ: 43) وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} (النَّحْلِ: 44). وَبِهَذِهِ الْآيَةِ رَدَّ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ قَوْلَهُ: " إِنَّهُ لَا يُعْتَرَضُ بِأَكْثَرِ مِنْ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ ". وَرُدَّ بِأَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ دَلِيلٌ [عَلَى] لِلْجَوَابِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَنَفْسُهُ عِنْدَ آخَرِينَ؛ فَهُوَ مَعَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ. نَعَمْ جَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} (الرَّحْمَنِ: 54) أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرَّحْمَنِ 46) فَلَزِمَ الِاعْتِرَاضُ بِسَبْعِ جُمَلٍ مُسْتَقِلَّاتٍ؛ إِنْ كَانَ {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 48) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ وَإِلَّا فَيَكُونُ بِسِتِّ جُمَلٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى.....} (الْأَعْرَافِ: 96- 97) الْآيَةَ: " إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَبْعُ جُمَلٍ مُعْتَرِضَةٍ: جُمْلَةُ الشَّرْطِ (وَاتَّقَوْا) وَ (فَتَحْنَا) وَ (كَذَّبُوا) وَ (أَخَذْنَاهُمْ) وَ{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وَزَعَمَ أَنَّ (أَفَأَمِنَ) (الْأَعْرَافِ: 97) مَعْطُوفٌ عَلَى {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} (الْأَعْرَافِ: 95) وَكَذَا نَقْلَهُ ابْنُ مَالِكٍ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَتَبِعَهُ أَبُو حَيَّانَ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَرَدَّ عَلَيْهِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْجُمْلَةَ وَالْكَلَامَ مُتَرَادِفَانِ، قَالَ: وَإِنَّمَا اعْتُرِضَ بِأَرْبَعِ جُمَلٍ، وَزَعَمَ أَنَّ مِنْ عِنْدَ (وَلَوْ أَنَّ) إِلَى (وَالْأَرْضِ) (الْأَعْرَافِ: 96) جُمْلَةٌ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِمَجْمُوعِهِ. انْتَهَى. وَفِي الْقَوْلَيْنِ نَظَرٌ؛ أَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا ثَمَانِ جُمَلٍ: أَحَدُهَا: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (الْأَعْرَافِ: 96) وَأَرْبَعَةٌ فِي حَيِّزِ " لَوْ " وَهِيَ: (آمَنُوا) وَ (اتَّقَوْا) وَ (فَتَحْنَا)، وَالْمُرَكَّبَةُ مَعَ أَنَّ وَصِلَتِهَا مَعَ " ثَبَتَ " مُقَدَّرًا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهَا فِعْلِيَّةٌ أَوِ اسْمِيَّةٌ، وَالسَّادِسَةُ: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا} (الْأَعْرَافِ: 96) وَالسَّابِعَةُ: (فَأَخَذْنَاهُمْ) وَالثَّامِنَةُ: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الْأَعْرَافِ: 96). وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ فَلِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُعِدَّهَا ثَلَاثَ جُمَلٍ: أَحَدُهَا: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (الْأَعْرَافِ: 95)؛ لِأَنَّهَا حَالٌ مُرْتَبِطَةٌ بِعَامِلِهَا، وَلَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بِرَأْسِهَا، وَالثَّانِيَةُ: " لَوْ " وَمَا فِي حَيِّزِهَا، جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فِعْلِيَّةٌ إِنْ قُدِّرَ: " وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا " أَوِ اسْمِيَّةٌ وَفِعْلِيَّةٌ إِنْ قُدِّرَ " إِيمَانَهُمْ " " وَاتَّقَوْا " ثَابِتَانِ، وَالثَّالِثَةُ: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الْأَعْرَافِ: 96) كُلُّهُ جُمْلَةٌ. وَيَنْبَغِي عَلَى قَوَاعِدِ الْبَيَانِيِّينِ أَنْ يَعُدُّوا الْكُلَّ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَعَلَى رَأْيِ النُّحَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} (الْأَعْرَافِ: 96) جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ " وَاتَّقَوْا " مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَبَرِ " أَنَّ " وَ " لَفَتَحْنَا " جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ وَمَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِارْتِبَاطِ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ لَفْظًا {وَلَكِنْ كَذَّبُوا} (الْأَعْرَافِ: 96) ثَانِيَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ (فَأَخَذْنَاهُمْ) ثَالِثَةٌ أَوْ رَابِعَةٌ وَ{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} مُتَعَلِّقٌ بِـ " أَخَذْنَاهُمْ " فَلَا يُعَدُّ اعْتِرَاضًا. وَقَوْلُهُ: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (هُودٍ: 44) فَهَذِهِ ثَلَاثُ جُمَلٍ مُعْتَرِضَةٍ بَيْنَ {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} (هُودٍ: 44) وَبَيْنَ {وَقِيلَ بُعْدًا} (هُودٍ: 44). وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ فِي اعْتِرَاضٍ، فَإِنَّ {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (هُودٍ: 44) مُعْتَرِضٌ بَيْنَ {وَغِيضَ الْمَاءُ} (هُودٍ: 44) وَبَيْنَ (وَاسْتَوَتْ) (هُودٍ: 44). وَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِ الِاعْتِرَاضِ فِي الِاعْتِرَاضِ مِنَ التَّأْكِيدِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (الْوَاقِعَةِ: 76). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ ذَاكِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَوْلَهُ: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} (الْآيَةَ: 16) ثُمَّ اعْتَرَضَ تَسْلِيَةً لِقَلْبِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (الْعَنْكَبُوتِ: 18) وَذَكَرَ آيَاتٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} (الْعَنْكَبُوتِ: 24) يَعْنِي قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ فَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَاسْتَفْتِهِمْ) (الصَّافَّاتِ: 149) وَفِي آخِرِ الصَّافَّاتِ مَعْطُوفًا عَلَى (فَاسْتَفْتِهِمْ) (الْآيَةَ: 11) فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَقَالَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ فِي: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} (الْمُدَّثِّرِ: 36) إِنَّهُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ (قُمْ) (الْمُدَّثِّرِ: 2) فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، هَذَا مِنْ بِدْعِ التَّفَاسِيرِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الصَّافَّاتِ مِنْهُ. وَمِنَ الْعَجَبِ دَعْوَى بَعْضِهِمْ كَسْرَ هَمْزَةِ " إِنَّ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} (ص: 64) عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (ص: 1) حَكَاهُ الرُّمَّانِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ خَبَرُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} (فُصِّلَتْ: 41) الْآيَةَ، قِيلَ: الْخَبَرُ: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (فُصِّلَتْ: 44). فَوَائِدُ قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ وَاوِ الْعَطْفِ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجَازَهُ قَوْمٌ فِي " ثُمَّ "، وَ " أَوْ "؛ فَتَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمٌ ثُمَّ وَاللَّهِ عَمْرٌو ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا} (النِّسَاءِ: 135) جَوَابُ الشَّرْطِ فَقَوْلُهُ: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} (النِّسَاءِ: 135) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، مَعَ أَنَّ فِيهِ فَاءً، وَالْجُمْلَةُ مُسْنَدَةٌ لِـ " يَكُنْ ". قَالَ الطِّيبِيُّ: سُئِلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (الْمُدَّثِّرِ: 55): أَهُوَ اعْتِرَاضٌ؟ قَالَ: لَا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِرَاضِ مِنَ التَّأْكِيدِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ بِالْوَاوِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا بِالْفَاءِ فَلَا. وَفَهِمَ صَاحِبُ " فَرَائِدِ الْقَلَائِدِ " مِنْ هَذَا اشْتِرَاطُ الْوَاوِ فَقَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (مَرْيَمَ: 41 وَ 56) هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَبَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، أَعْنِي " إِبْرَاهِيمَ " وَ إِذْ قَالَ هَذَا مُعْتَرِضٌ؛ لِأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ بِدُونِ الْوَاوِ بَعِيدٌ عَنِ الطَّبْعِ وَعَنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ يَأْتِي بِالْوَاوِ كَمَا سَبَقَ فِي الْأَمْثِلَةِ، وَبِدُونِهَا كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} (النَّحْلِ: 57) وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (الْوَاقِعَةِ: 75- 76- 77).
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُحْتَمِلًا لِشَيْءٍ بَعِيدٍ، فَيُؤْتَى بِمَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ كَقَوْلِهِ؛ تَعَالَى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (الْقَصَصِ: 32) فَاحْتَرَسَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} عَنْ إِمْكَانِ أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ الْبَهَقُ وَالْبَرَصُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الْمَائِدَةِ: 54) فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِالذِّلَّةِ- وَهُوَ السُّهُولَةُ- لَتُوُهِّمَ أَنَّ ذَلِكَ لِضَعْفِهِمْ، فَلَمَّا قِيلَ: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الْمَائِدَةِ: 54) عُلِمَ أَنَّهَا مِنْهُمْ تَوَاضُعٌ؛ وَلِهَذَا عُدِّيَ " الذُّلُّ " بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعَطْفِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الْفَتْحِ: 29). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (النَّمْلِ: 18) فَقَوْلُهُ: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (النَّمْلِ: 18) احْتِرَاسٌ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ عَدْلِ سُلَيْمَانَ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ جُنُودِهِ أَنَّهُمْ لَا يُحَطِّمُونَ نَمْلَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِأَلَّا يَشْعُرُوا بِهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ تَبَسُّمُ سُلَيْمَانَ سُرُورًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ التَّبَسُّمَ بِالضَّحِكِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَبَسَّمَ كَتَبَسُّمِ الْغَضْبَانِ؛ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ تَبَسُّمَهُ تَبَسُّمُ سُرُورٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الْفَتْحِ: 25) الْتِفَاتٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ضَرَرَ مُسْلِمٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هُودٍ: 44) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِهَلَاكِ مَنْ هَلَكَ بِالطُّوفَانِ عَقَّبَهُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَهُمْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ احْتِرَاسٌ مِنْ ضَعْفٍ يُوهِمُ أَنَّ الْهَلَاكَ بِعُمُومِهِ رُبَّمَا شَمِلَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ، فَلَمَّا دَعَا عَلَى الْهَالِكِينَ وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ عُلِمَ اسْتِحْقَاقُهُمْ لِمَا نَزَلْ بِهِمْ وَحَلَّ بِسَاحَتِهِمْ، مَعَ قَوْلِهِ أَوَّلًا {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هُودٍ: 37). وَأَعْجَبُ احْتِرَاسٍ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ...} (الْقَصَصِ: 44) الْآيَةَ. وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} (مَرْيَمَ: 52) فَلَمَّا نَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ رَسُولِهِ أَنْ يَكُونَ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَضَى لِمُوسَى فِيهِ الْأَمْرَ عَرَّفَ الْمَكَانَ بِالْغَرْبِيِّ، وَلَمْ يَقُلْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْأَيْمَنَ كَمَا قَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} أَدَبًا مَعَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُنْفَى عَنْهُ كَوْنُهُ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، أَوْ يَسْلُبَ عَنْهُ لَفْظًا مُشْتَقًّا مِنَ الْيُمْنِ، أَوْ مُشَارِكًا لِمَادَّتِهِ، وَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ تَشْرِيفًا لِمُوسَى؛ فَرَاعَى فِي الْمَقَامَيْنِ حُسْنَ الْأَدَبِ مَعَهُمَا؛ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ، وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ. وَقَوْلُهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (الْمُنَافِقُونَ: 1) فَإِنَّهُ لَوِ اخْتَصَرَ لَتَرَكَ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ}؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ لِتَكْذِيبِهِمْ فِي دَعَاوَى الْإِخْلَاصِ فِي الشَّهَادَةِ، لَكِنَّ حُسْنَ ذِكْرِهِ رَفَعَ تَوَهُّمَ أَنَّ التَّكْذِيبَ لِلْمَشْهُودِ بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} (يُوسُفَ: 100) وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُبَّ مَعَ أَنَّ النِّعْمَةَ فِيهِ أَعْظَمُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِئَلَّا يَسْتَحْيِي إِخْوَتُهُ، وَالْكَرِيمُ يُغْضِي؛ وَلَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ الصَّفَاءِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّ السِّجْنَ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ؛ فَكَانَ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَعْظَمُ، بِخِلَافِ الْجُبِّ. وَقَوْلُهُ: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} (الْمَائِدَةِ: 110)؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكُهُولَةَ مَعَ أَنَّهُ لَا إِعْجَازَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَهْدِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ وَلَا يَتَمَادَى بِهِ الْعُمْرُ، فَجُعِلَ الِاحْتِرَاسُ بِقَوْلِهِ: (وَكَهْلًا) (الْمَائِدَةِ: 110). وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النَّحْلِ: 26) وَالسَّقْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ فَوْقٍ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَفَعَ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ السَّقْفَ قَدْ يَكُونُ مِنْ تَحْتٍ بِالنِّسْبَةِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السُّقُوفِ يَكُونُ أَرْضًا لِقَوْمٍ وَسَقْفًا لِآخَرِينَ، فَرَفَعَ تَعَالَى هَذَا الِاحْتِمَالَ بِشَيْئَيْنِ وَهُمَا قَوْلُهُ: (عَلَيْهِمْ) وَلَفْظَةُ (خَرَّ) لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا هَبَطَ أَوْ سَقَطَ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى سُفْلٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَكَّدَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا حَالِّينَ تَحْتَهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَّ عَلَيْنَا سَقْفٌ، وَوَقَعَ عَلَيْنَا حَائِطٌ، فَجَاءَ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِمْ (النَّحْلِ: 26) لِيُخْرِجَ هَذَا الشَّكَّ الَّذِي فِي كَلَامِهِمْ فَقَالَ: مِنْ فَوْقِهِمْ (النَّحْلِ: 26) أَيْ: عَلَيْهِمْ وَقَعَ، وَكَانُوا تَحْتَهُ؛ فَهَلَكُوا وَمَا قُتِلُوا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (الْبَقَرَةِ: 223)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَحْتَمِلُ مَعْنَى " كَيْفَ " وَ " أَيْنَ " احْتَرَسَ بِقَوْلِهِ: (حَرْثَكُمْ)؛ لِأَنَّ الْحَرْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَيْثُ تَنْبُتُ الْبُذُورُ وَيَنْبُتُ الزَّرْعُ، وَهُوَ الْمَحَلُّ الْمَخْصُوصُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (الزُّخْرُفِ: 39)؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُصِيبَةِ يُخَفِّفُ مِنْهَا وَيُسَلِّي عَنْهَا، فَأَعْلَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ. فَائِدَةٌ: عَابَ قُدَامَةُ عَلَى ذِي الرُّمَّةِ قَوْلَهُ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيٍّ عَلَى الْبِلَى *** وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْتَرِسْ، وَهَلَّا قَالَ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ: فَسَقَى دِيَارَكِ غَيْرَ مُفْسِدِهَا *** صَوْبُ الْغَمَامِ وَدِيمَةٌ تَهْمِي وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدَّمَ الدُّعَاءَ بِالسَّلَامَةِ لِلدَّارِ. وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: " وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا " اتِّصَالَ الدَّوَامِ بِالسُّقْيَا مِنْ غَيْرِ إِقْلَاعٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَقُولُ: مَا زَالَ فُلَانٌ يَزُورُنِي إِذَا كَانَ مُتَعَاهِدًا لَهُ بِالزِّيَارَةِ.
مَصْدَرُ " ذَيَّلَ " لِلْمُبَالَغَةِ، وَهِيَ لُغَةً: جَعْلُ الشَّيْءِ ذَيْلًا لِلْآخَرِ، وَاصْطِلَاحًا: أَنْ يُؤْتَى بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ؛ تَحْقِيقًا لِدَلَالَةِ مَنْطُوقِ الْأَوَّلِ أَوْ مَفْهُومِهِ؛ لِيَكُونَ مَعَهُ كَالدَّلِيلِ؛ لِيَظْهَرَ الْمَعْنَى عِنْدَ مَنْ لَا يَفْهَمُ، وَيَكْمُلَ عِنْدَ مَنْ فَهِمَهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} (سَبَأٍ: 17) ثُمَّ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (سَبَأٍ: 17) أَيْ: هَلْ يُجَازَى ذَلِكَ الْجَزَاءَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْكَفُورُ إِلَّا الْكُفُورَ؛ فَإِنْ جَعَلْنَا الْجَزَاءَ عَامًّا كَانَ الثَّانِي مُفِيدًا فَائِدَةً زَائِدَةً. وَقَوْلِهِ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الْإِسْرَاءِ: 81). وَقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 34). وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فَاطِرٍ: 13- 14). فَقَوْلُهُ: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فَاطِرٍ: 14) تَذْيِيلٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى... وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 46). وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} (الْأَعْرَافِ: 133). وَجَعَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِهِ " الْإِعْجَازُ " مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (الْقَصَصِ: 4). وَقَوْلَهُ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (الْقَصَصِ: 8). وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّعْلِيلِ. وَقَوْلَهُ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزُّخْرُفِ: 22) فَقَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ) (الزُّخْرُفِ: 23) تَذْيِيلٌ؛ أَيْ: فَذَلِكَ شَأْنُ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ، وَقَوْلُهُ: {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} (الزُّخْرُفِ: 23) تَفْسِيرٌ لِلتَّذْيِيلِ جَعَلَ التَّذْيِيلَ هُنَا مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَهُوَ أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ فَيُلْحِقُ بِهِ مَا يُكْمِلُهُ؛ إِمَّا مُبَالَغَةً، أَوِ احْتِرَازًا، أَوِ احْتِيَاطًا، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَأْخُذَ فِي مَعْنًى فَيَذْكُرَهُ غَيْرَ مَشْرُوحٍ، وَرُبَّمَا كَانَ السَّامِعُ لَا يَتَأَمَّلُهُ؛ لِيَعُودَ الْمُتَكَلِّمُ إِلَيْهِ شَارِحًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الْإِنْسَانِ: 8) فَالتَّتْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: {عَلَى حُبِّهِ} (الْإِنْسَانِ: 8) جَعَلَ الْهَاءَ كِنَايَةً عَنِ الطَّعَامِ مَعَ اشْتِهَائِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} (الْبَقَرَةِ: 177). وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} (النِّسَاءِ: 124) فَقَوْلُهُ: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (النِّسَاءِ: 124) تَتْمِيمٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
|