فبهذا يظهر أنه جلّ وعلا، أشار إلى ميراث البنتين بقوله: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، كما بيّنا، ثم ذكر حكم الجماعة من البنات، وحكم الواحدة منهنّ بقوله: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا}، ومما يزيده إيضاحًا، أنه تعالى فرعه عليه بالفاء في قوله: {فَإِن كُنَّ}، إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها كما هو ظاهر.
الموضع الثاني: هو قوله تعالى في الأختين: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}؛ لأن البنت أمس رحمًا، وأقوى سببًا في الميراث من الأخت بلا نزاع.
فإذا صرح تعالى: بأن للأختين الثلثين، علم أن البنتين كذلك من باب أولى، وأكثر العلماء على أن فحوى الخطاب، أعني: مفهوم الموافقة الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق، من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس، خلافًا للشافعي وقوم، كما علم في الأصول فاللَّه تبارك وتعالى لمّا بيّن أن للأختين الثلثين، أفهم بذلك أن البنتين كذلك من باب أولى.
وكذلك لما صرح أن لما زاد على الاثنتين من البنات الثلثين فقط، ولم يذكر حكم ما زاد على الاثنتين من الأخوات، أفهم أيضًا من باب أولى أنه ليس لما زاد من الأخوات غير الثلثين؛ لأنه لما لم يعط للبنات علم أنه لا تستحقه الأخوات، فالمسكوت عنه في الأمرين أولى بالحكم من المنطوق به، وهو دليل على أنه قصد أخذه منه، ويزيد ما ذكرنا إيضاحًا ما أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن جابر رضي اللَّه عنه، قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أُحد، وإن عمهما أخذ مالهما، ولم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال صلى الله عليه وسلم: "يقضي اللَّه تعالى في ذلك"، فنزلت آية الميراث فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال: "اعط ابنتي سعد الثلثين، واعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك".
وما روى عن ابن عباس، رضي اللَّه عنهما، من أنه قال: للبنتين النصف؛ لأن اللَّه تعالى، قال: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}، فصرح بأن الثلثين إنما هما لما فوق الاثنتين فيه أمور.
الأول: أنه مردود بمثله؛ لأن اللَّه قال أيضًا: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}، فصرح بأن النصف للواحدة جاعلاً كونها واحدة شرطًا معلقًا عليه فرض النصف.
وقد تقرر في الأصول أن المفاهيم إذا تعارضت قدم الأقوى منها، ومعلوم أن مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الظرف؛ لأن مفهوم الشرط لم يقدم عليه من المفاهيم، إلا ما قال فيه بعض العلماء: إنه منطوق لا مفهوم وهو النفي والإثبات، وإنما من صيغ الحصر والغاية، وغير هذا يقدم عليه مفهوم الشرط، قال في "مراقي السعود" مبينًا مراتب مفهوم المخالفة: أعلاه لا يرشد إلا العلما فما لمنطوق بضعف انتمى
فالشرط فالوصف الذي يناسب فمطلق الوصف الذي يقارب
فعدد ثمت تقديم يلي وهو حجة على النهج الجلي
وقال صاحب "جمع الجوامع" ما نصه: مسألة الغاية قيل: منطوق والحق مفهوم يتلوه الشرط، فالصفة المناسبة، فمطلق الصفة غير العدد، فالعدد، فتقديم المعمول إلخ.
وبهذا تعلم أن مفهوم الشرط في قوله: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}، أقوى من مفهوم الظرف في قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}.
الثاني: دلالة الآيات المتقدمة على أن للبنتين الثلثين.
الثالث: تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث جابر المذكور آنفًا.
الرابع: أنه روي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك.
قال الألوسي في "تفسيره" ما نصه: وفي " شرح الينبوع " نقلاً عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في "شرح فرائض الوسيط": صح رجوع ابن عباس، رضي اللَّه عنهما، عن ذلك فصار إجماعًا.ا هـ منه بلفظه. تنبيهــان
الأول: ما ذكره بعض العلماء وجزم به الألوسي في "تفسيره" من أن المفهوم في قوله: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}، مفهوم عدد غلط. والتحقيق هو ما ذكرنا من أنه مفهوم شرط، وهو أقوى من مفهوم العدد بدرجات كما رأيت فيما تقدم.
قال في "نشر البنود على مراقي السعود" في شرح قوله: وهو ظرف علة وعدد ومنه شرط غاية تعتمد
ما نصه: والمراد بمفهوم الشرط ما فهم من تعليق حكم على شىء بأداة شرط كإن وإذا، وقال في شرح هذا البيت أيضًا قبل هذا ما نصه: ومنها الشرط نحو: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}، مفهوم انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط، أي: فغير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن ونحو من تطهر صحت صلاته.اهـ منه بلفظه.
فكذلك قوله: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}، علق فيه فرض النصف على شرط هو كون البنت واحدة، ومفهومه أنه إن انتفى الشرط الذي هو كونها واحدة انتفى المشروط الذي هو فرض النصف كما هو ظاهر، فإن قيل: كذلك المفهوم في قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}؛ لتعليقه بالشرط فالجواب من وجهين:
الأول: أن حقيقة الشرط كونهن نساء. وقوله فوق اثنتين وصف زائد، وكونها واحدة هو نفس الشرط لا وصف زائد، وقد عرفت تقديم مفهوم الشرط على مفهوم الصفة ظرفًا كانت أو غيره.
الثاني: أنا لو سلمنا جدليًا أنه مفهوم شرط لتساقط المفهومان لاستوائهما ويطلب الدليل من خارج، وقد ذكرنا الأدلة على كون البنتين ترثان الثلثين كما تقدم.
الثاني: إن قيل: فما الفائدة في لفظة {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} إذا كانت الاثنتان كذلك ؟ فالجواب من وجهين:
الأول: هو ما ذكرنا من أن حكم الاثنتين أخذ من قوله قبله: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}، كما تقدم وإذن قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}، تنصيص على حكم الثلاث فصاعدًا كما تقدم.
الثاني: أن لفظة فوق ذكرت لإفادة أن البنات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ.
وأما ادعاء أن لفظة فوق زائدة وادعاء أن فوق اثنتين معناه اثنتان فما فوقهما فكله ظاهر السقوط كما ترى، والقرءَان ينزه عن مثله وإن قال به جماعة من أهل العلم.
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
، أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَـالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوااْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ المراد في هذه الآية بالإخوة الذين يأخذ المنفرد منهم السدس وعند التعدد يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم، سواء أخوة الأم بدليل بيانه تعالى أن الإخوة من الأب أشقاء أو لا، يرث الواحد منهم كل المال، وعند اجتماعهم يرثون المال كله للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال في المنفرد منهم وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، وقال في جماعتهم: وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ}. وقد أجمع العلماء على أن هؤلاء الإخوة من الأب، كانوا أشقاء أو لأب. كما أجمعوا أن قوله: {أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً}، أنها في إخوة الأم، وقرأ سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم. والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع، كما قال الناظم: ويسألونك عن الكلالة هي انقطاع النسل لا محالة
لا والد يبقى ولا مولود فانقطع الأبناء والجدود
وهذا قول أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه وأكثر الصحابة وهو الحقّ إن شاء اللَّه تعالى. واعلم أن الكلالة تطلق على القرابة من غير جهة الولد والوالد، وعلى الميّت الذي لم يخلف والدًا ولا ولدًا، وعلى الوارث الذي ليس بوالد ولا ولد، وعلى المال الموروث عمن ليس بوالد ولا ولد؛ إلا أنه استعمال غير شائع واختلف في اشتقاق الكلالة.
واختار كثير من العلماء أن أصلها من تكلله إذا أحاط به ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، والكل لإحاطته بالعدد؛ لأن الورثة فيها محيطة بالميت من جوانبه لا من أصله ولا فرعه. وقال بعض العلماء: أصلها من الكلال بمعنى الإعياء؛ لأن الكلالة أضعف من قرابة الآباء والأبناء.
وقال بعض العلماء: أصلها من الكل بمعنى الظهر وعليه فهي ما تركه الميّت وراء ظهره، واختلف في إعراب قوله كلالة. فقال بعض العلماء: هي حال من نائب فاعل يورث على حذف مضاف، أي: يورث في حال كونه ذا كلالة أي قرابة غير الآباء والأبناء، واختاره الزجاج وهو الأظهر، وقيل: هي مفعول له، أي: يورث لأجل الكلالة أي القرابة، وقيل: هي خبر كان، ويورث صفة لرجل، أي: كان رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد، وقيل غير ذلك، واللَّه تعالى أعلم.
{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}
، فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّىا يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً لم يبيّن هنا هل جعل لهن سبيلاً أو لا ؟ ولكنه بيّن في مواضع أُخر أنه جعل لهن السبيل بالحد كقوله في البكر: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله في الثيب: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من اللَّه واللَّه عزيز حكيم)؛ لأن هذه الآية باقية الحكم كما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وأرضاه وإن كانت منسوخة التلاوة.
وروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن حكم الرجم مأخوذ أيضًا من آية أخرى محكمة غير منسوخة التلاوة، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ}، فإنها نزلت في اليهودي واليهودية اللذين زنيا وهما محصنان ورجمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذمه تعالى في هذا الكتاب للمعرض عما في التوراة من رجم الزاني المحصن، دليل قرءَاني واضح على بقاء حكم الرجم، ويوضح ما ذكرنا من أنه تعالى جعل لهن السبيل بالحد، قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "خذوا عني، قد جعل اللَّه لهن سبيلاً" الحديث.
{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً}
، وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ نهى اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب، ولم يبيّن ما المراد بنكاح الأب هل هو العقد أو الوطء، ولكنّه بيّن في موضع آخر أن اسم النكاح يطلق على العقد وحده، وإن لم يحصل مسيس وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً}، فصرح بأنه نكاح وأنه لا مسيس فيه.
وقد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه، وإن لم يمسها الأب، وكذلك عقد الابن محرّم على الأب إجماعًا، وإن لم يمسها وقد أطلق تعالى النكاح في آية أخرى مريدًا به الجماع بعد العقد، وذلك في قوله: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}؛ لأن المراد بالنكاح هنا ليس مجرد العقد، بل لا بد معه من الوطء، كما قال صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي: "لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، يعني الجماع ولا عبرة بما يروى من المخالفة عن سعيد بن المسيِّب؛ لوضوح النص الصريح الصحيح في عين المسألة.
ومن هنا قال بعض العلماء لفظ النكاح مشترك بين العقد والجماع، وقال بعضهم هو حقيقة في الجماع مجاز في العقد؛ لأنه سببه وقال بعضهم بالعكس.
تنبيــه
قال بعض العلماء: إن لفظة {مَا} من قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً}، مصدرية وعليه فقوله من النساء متعلق بقوله: {تَنكِحُواْ}، لا بقوله نكح، وتقرير المعنى على هذا القول ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم، أي: لا تفعلوا ما كان يفعله آباؤكم من النكاح الفاسد، وهذا القول هو اختيار ابن جرير، والذي يظهر وجزم به غير واحد من المحققين أن {مَا} موصولة واقعة على النساء التي نكحها الآباء، كقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء}، وقد قدمنا وجه ذلك؛ لأنهم كانوا ينكحون نساء آبائهم كما يدل له سبب النزول، فقد نقل ابن كثير عن أبي حاتم أن سبب نزولها أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت خطب ابنه امرأته، فاستأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: "ارجعي إلى بيتك"، فنزلت: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم}.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه: نكاح زوجات الآباء كان معروفًا عند العرب، وممن فعل ذلك أبو قيس بن الأسلت المذكور، فقد تزوج أم عبيد اللَّه وكانت تحت الأسلت إبيه، وتزوج الأسود بن خلف ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكانت تحت أبيه خلف، وتزوج صفوان بن أمية فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد، وكانت تحت أبيه أمية، كما نقله ابن جرير عن عكرمة قائلاً إنه سبب نزول الآية، وتزوج عمرو بن أمية زوجة أبيه بعده، فولدت له مسافرًا وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره، فكانوا إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما، وتزوج منظور بن زبان بن سيار الفزاري زوجة أبيه مليكة بنت خارجة، كما نقله القرطبي وغيره ومليكة هذه هي التي قال فيها منظور المذكور بعد أن فسخ نكاحها منه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهر إذا منعت مني مليكة والخمر
فإن تك قد أمست بعيدًا مزارها فحيّ ابنة المري ما طلع الفجر
وأشار إلى تزويج منظور هذا زوجة أبيه ناظم عمود النسب،
بقوله في ذكر مشاهير فزارة: منظور الناكح مقتًا وحلف خمسين ما له على منع وقف
وقوله: وحلف إلخ.
قال شارحه: إن معناه أن عمر بن الخطاب حلفه خمسين يمينًا بعد العصر في المسجد أنه لم يبلغه نسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من نكاح أزواج الآباء، وذكر السهيلي وغيره أن كنانة بن خزيمة تزوج زوجة أبيه خزيمة فولدت له النضر بن كنانة، قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح لا من سفاح"، فدلّ على أن ذلك كان سائغًا لهم.
قال ابن كثير وفيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر، وأشار إلى تضعيف ما ذكره السهيلي ناظم عمود النسب بقوله: وهند بنت مر أم حارثة شخيصة وأم عنز ثالثة
برة أختها عليها خلفا كنانة خزيمة وضعفا
أختهما عاتكة ونسلها عذرة التي الهوى يقتلها
وذكر شارحه أن الذي ضعف ذلك هو السهيلي نفسه، خلافًا لظاهر كلام ابن كثير ومعنى الأبيات أن هند بنت مر أخت تميم بن مر بن أدبن طابخة بن إلياس هي أم ثلاثة من أولاد وائل بن قاسط وهم الحارث وشخيص وعنز، وأن أختها برة بنت مر كانت زوجة خزيمة بن مدركة، فتزوجها بعد ابنه كنانة، وأن ذلك مضعف، وأن أختهما عاتكة بنت مر هي أم عذرة أبي القبيلة المشهورة بأن الهوى يقتلها، وقد كان من مختلقات العرب في الجاهلية إرث الأقارب أزواج أقاربهم، كان الرجل منهم إذا مات وألقى ابنه أو أخوه مثلاً ثوبًا على زوجته ورثها وصار أحق بها من نفسها، إن شاء نكحها بلا مهر وإن شاء أنكحها غيره وأخذ مهرها، وإن شاء عضلها حتى تفتدي منه، إلى أن نهاهم اللَّه عن ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، وأشار إلى هذا ناظم عمود النسب بقوله: القول فيما اختلفوا واخترقوا ولم يقد إليه إلا النزق
ثم شرع يعدد مختلقاتهم، إلى أن قال: وأن من ألقى على زوج أبيه ونحوه بعد التوى ثوبًا يريه
أولى بها من نفسها إن شاء نكح أو أنكح أو أساء
بالعضل كي يرثها أو تفتدى ومهرها في النكحتين للردى
وأظهر الأقوال في قوله تعالى: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}، أن الاستثناء منقطع، أي لكن ما مضى من ارتكاب هذا الفعل قبل التحريم فهو معفو عنه كما تقدم، والعلم عند اللَّه تعالى.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}
، وَحَلَـائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـابِكُمْ يفهم منه أن حليلة دعيه الذي تبناه لا تحرم عليه، وهذا المفهوم صرّح به تعالى في قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}، وقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}، وقوله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}.
أما تحريم منكوحة الابن من الرضاع فهو مأخوذ من دليل خارج وهو تصريحه صلى الله عليه وسلم بأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، والعلم عند اللَّه تعالى.
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}
وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـانُكُمْ اعلم أولاً أن لفظ المحصنات أطلق في القرءان ثلاثة إطلاقات:
الأول: المحصنات العفائف، ومنه قوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}، أي عفائف غير زانيات.
الثاني: المحصنات الحراير، ومنه قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}، أي على الإماء نصف ما على الحرائر من الجلد.
الثالث: أن يراد بالإحصان التزوج، ومنه على التحقيق قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} الآية، أي: فإذا تزوجن. وقول من قال من العلماء: إن المراد بالإحصان في قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}، الإسلام خلاف الظاهر من سياق الآية؛ لأن سياق الآية في الفتيات المؤمنات حيث قال: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً}.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصّه: والأظهر واللَّه أعلم أن المراد بالإحصان ها هنا التزويج؛ لأن سياق الآية يدلّ عليه حيث يقول سبحانه وتعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}، واللَّه أعلم. والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}، أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره. اهـ محل الغرض منه بلفظه.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، أوجه من التفسير هي أقوال للعلماء، والقرءان يفهم منه ترجيح واحد معيّن منها.
قال بعض العلماء: المراد بالمحصنات هنا أعم من العفائف والحرائر والمتزوجات، أي حرّمت عليكم جميع النساء إلا ما ملكت أيمانكم بعقد صحيح أو ملك شرعي بالرق، فمعنى الآية على هذا القول تحريم النساء كلهن إلا بنكاح صحيح أو تَسَرٍّ شرعي، وإلى هذا القول ذهب سعيد بن جبير وعطاء والسدي، وحكي عن بعض الصحابة واختاره مالك في "الموطأ".
وقال بعض العلماء: المراد بالمحصنات في الآية الحرائر، وعليه فالمعنى وحرمت عليكم الحرائر غير الأربع، وأحلّ لكم ما ملكت أيمانكم من الإماء، وعليه فالاستثناء منقطع.
وقال بعض العلماء: المراد بالمحصنات: المتزوجات، وعليه فمعنى الآية وحرّمت عليكم المتزوجات؛ لأن ذات الزوج لا تحل لغيره إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار، فإن السبي يرفع حكم الزوجية الأولى في الكفر وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي يدلّ القرءان لصحته؛ لأن القول الأول فيه حمل ملك اليمين على ما يشمل ملك النكاح، وملك اليمين لم يرد في القرءان إلا بمعنى الملك بالرق، كقوله: {فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ}، وقوله: {وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا}، وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}، في الموضعين، فجعل ملك اليمين قسمًا آخر غير الزوجية. وقوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ}، فهذه الآيات تدل على أن المراد بما ملكت أيمانكم الإماء دون المنكوحات كما هو ظاهر، وكذلك الوجه الثاني غير ظاهر؛ لأن المعنى عليه: وحرّمت عليكم الحرائر إلا ما ملكت أيمانكم، وهذا خلاف الظاهر من معنى لفظ الآية كما ترى.
وصرّح ابن القيم، بأن هذا القول مردود لفظًا ومعنى، فظهر أن سياق الآية يدلّ على المعنى الذي اخترنا، كما دلّت عليه الآيات الأخر التي ذكرنا، ويؤيده سبب النزول؛ لأن سبب نزولها كما أخرجه مسلم في "صحيحه" والإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: أصبنا سبيًا من سبي أوطاس ولهنّ أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فاستحللنا فروجهن.