الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
الجواب الخامس: هو ادعاء ضعفه وممن حاول تضعيفه ابن العربي المالكي، وابن عبد البر، والقرطبي. قال ابن العربي المالكي: زلّ قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة لا يلزم، وجعلوه واحدة ونسبوه إلى السلف الأول فحكوه عن عليّ، والزبير، وعبد الرحمان بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطاة الضعيف المنزلة، المغمور المرتبة، ورووا في ذلك حديثًا ليس له أصل، وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه وقالوا: إن قوله أنت طالق ثلاثًا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثًا، كما لو قال: طلقت ثلاثًا ولم يطلق إلا واحدة، وكما لو قال: أحلف ثلاثًا كانت يمينًا واحدة. ولقد طوّفت في الآفاق، ولقيت من علماء الإسلام، وأرباب المذاهب كل صادق، فما سمعت لهذه المسألة بخبر، ولا أحسست لها بأثر، إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزًا، ولا يرون الطلاق واقعًا، ولذلك قال فيهم ابن سكرة الهاشمي: يا من يرى المتعة في دينه حلاً وإن كانت بلا مهر ولا يرى تسعين تطليقة تبين منه ربة الخدر من هاهنا طابت مواليدكم فاغتنموها يا بني الفطر
وقد اتفق علماء الإسلام، وأرباب الحل والعقد في الأحكام، على أن الطلاق الثلاث في كلمة، وإن كان حرامًا في قول بعضهم، وبدعة في قول الآخرين، لازم. وأين هؤلاء البؤساء من عالم الدين، وعلم الإسلام، محمد بن إسماعيل البخاري، وقد قال في "صحيحه": "باب جواز الطلاق الثلاث"، لقوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ}. وذكر حديث اللعان: فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يغير عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يقر على الباطل؛ ولأنه جمع ما فسح له في تفريقه، فألزمته الشريعة حكمه وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت، لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد. وقد أدخل مالك في "موطئه" عن عليّ أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة، فهذا في معناها، فكيف إذا صرح بها. وأما حديث الحجاج بن أرطاة فغير مقبول في الملّة، ولا عند أحد من الأئمة. فإن قيل: ففي "صحيح مسلم" عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء المذكور، قلنا: هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه: الأول: أنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة؟ ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين. وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم: نقل العدل عن العدل. ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدًا. الثاني: أن هذا الحديث لم يرو إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا من طريق طاوس، فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد؟ وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس؟ وكيف خفيَ على أصحاب ابن عباس إلا طاوس؟ اهـ محل الغرض من كلام ابن العربي، وقال ابن عبد البر: ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز، والشام، والعراق، والمشرق، والمغرب. وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس. قال مقيده ــ عفا اللَّه عنه ــ إن مثل هذا لا يثبت به تضعيف هذا الحديث؛ لأن الأئمة كمعمر وابن جريج وغيرهما رووه عن ابن طاوس وهو إمام، عن طاوس، عن ابن عباس، ورواه عن طاوس أيضًا إبراهيم بن ميسرة، وهو ثقة حافظ. وانفراد الصحابي لا يضر ولو لم يرو عنه أصلاً إلا واحد، كما أشار إليه العراقي في "ألفيته" بقوله: في الصحيح أخرجا المسيبا وأخرج الجعفي لابن تغلبا
يعني: أن الشيخين أخرجا حديث المسيب بن حزن، ولم يرو عنه أحد غير ابنه سعيد. وأخرج البخاري حديث عمرو بن تغلب النمري، ويقال العبدي ولم يرو عنه غير الحسن البصري هذا مراده. وقد ذكر ابن أبي حاتم أن عمرو بن تغلب روى عنه أيضًا الحكم بن الأعرج، قاله ابن حجر، وابن عبد البر وغيرهما. والحاصل أن حديث طاوس ثابت في "صحيح مسلم" بسند صحيح، وما كان كذلك لا يمكن تضعيفه إلا بأمر واضح، نعم لقائل أن يقول: إن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه، أن ذلك يدل على عدم صحته. ووجهه أن توفر الدواعي يلزم منه أن النقل تواترًا والاشتهار، فإن لم يشتهر دلّ على أنه لم يقع؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وهذه قاعدة مقررة في الأصول، أشار إليها في "مراقي السعود" بقوله عاطفًا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر: وخبر الآحاد في السني † حيث دواعي نقله تواترا ** نرى لها لو قاله تقررا
وجزم بها غير واحد من الأصوليين، وقال صاحب " جمع الجوامع " عاطفًا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر. والمنقول آحادًا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافًا للرافضة. اهـ منه بلفظه. ومراده أن مما يجزم بعدم صحته، الخبر المنقول آحادًا مع توفر الدواعي إلى نقله. وقال ابن الحاجب في "مختصره الأصولي" مسألة: إذا انفرد واحد فيما يتوفر الدواعي إلى نقله، وقد شاركه خلق كثير. كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعًا خلافًا للشيعة. اهـ محل الغرض منه بلفظه. وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول. قال مقيده عفا اللَّه عنه: ولا شك أنه على القول بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون في زمن أبي بكر، وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك. فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده، متوفرة توفرًا لا يمكن إنكاره، لأن يرد بذلك التغيير الذي أحدثه عمر فسكوت جميع الصحابة عنه وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس، يدلّ دلالة واضحة على أحد أمرين: أحدهما: أن حديث طاوس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناه أنها بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا، وكما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج. وعليه فلا إشكال لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى" فمن قال أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. ونوى التأكيد فواحدة، وأن نوىا الاستئناف بكل واحدة فثلاث. واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " وإنما لكل امرىء ما نوى ". والثاني: أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادًا مع توفر الدواعي إلى نقله، والأول أولى وأخف من الثاني، وقال القرطبي في المفهم في الكلام على حديث طاوس المذكور: وظاهر سياقه يقتضي عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد ؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره، إن لم يقتض القطع ببطلانه. اهـ منه بواسطة نقل ابن حجر في "فتح الباري" عنه، وهو قوي جدًا بحسب المقرر في الأصول كما ترى. الجواب السادس: عن حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما هو حمل لفظ الثلاث في الحديث على أن المراد بها البتّة كما قدمنا في حديث ركانة، وهو من رواية ابن عباس أيضًا، قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " بعد أن ذكر هذا الجواب ما نصه: وهو قوي ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب، الآثار التي فيها البتّة، والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث، كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن البتّة إذا أطلقت حمل على الثلاث إلا أن أراد المطلق واحدة فيقبل، فكأن بعض رواته حمل لفظ البتّة على الثلاث؛ لاشتهار التسوية بينهما، فرواها بلفظ الثلاث. وإنما المراد لفظة البتّة، وكانوا في العصر الأوّل يقبلون ممن قال أردت بالبتّة واحدة، فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. اهـ من " فتح الباري " بلفظه، وله وجه من النظر كما لا يخفى، وما يذكره كل ممن قال بلزوم الثلاث دفعة، ومن قال بعدم لزومها من الأمور النظرية ليصحح به كل مذهبه، لم نطل به الكلام؛ لأن الظاهر سقوط ذلك كله، وأن هذه المسألة إن لم يمكن تحقيقها من جهة النقل فإنه لا يمكن من جهة العقل، وقياس أنت طالق ثلاثًا على أيمان اللعان في أنه لو حلفها بلفظ واحد لم تجز، قياس مع وجود الفارق؛ لأن من اقتصر على واحدة من الشهادات الأربع المذكورة في آية اللعان أجمع العلماء على أن ذلك كما لو لم يأت بشىء منها أصلاً، بخلاف الطلقات الثلاث فمن اقتصر على واحدة منها اعتبرت إجماعًا، وحصلت بها البينونة بانقضاء العدة إجماعًا. الجواب السابع: هو ما ذكره بعضهم من أن حديث طاوس المذكور ليس فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقره، والدليل إنما هو فيما علم به وأقره، لا فيما لم يعلم فيه. قال مقيده ــ عفا الله عنه ــ ولا يخفى ضعف هذا الجواب؛ لأن جماهير المحدثين والأصوليين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم له حكم المرفوع، وإن لم يصرح بأنه بلغه صلى الله عليه وسلم وأقره. الجواب الثامن: أن حديث ابن عباس المذكور في غير المدخول بها خاصة؛ لأنه إن قال لها أنت طالق بانت بمجرد اللفظ، فلو قال ثلاثًا لم يصادف لفظ الثلاث محلاً؛ لوقوع البينونة قبلها. وحجة هذا القول أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد، ولا سيّما إذا اتحدّ الحكم والسبب كما هنا قال في " مراقي السعود ": وحمل مطلق على ذاك وجب إن فيهما اتحد حكم والسبب وما ذكره الأبي رحمه اللَّه من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين، أما في حديث واحد من طريقين فمن زيادة العدل فمردود؛ بأنه لا دليل عليه. وأنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء، ولا وجه للفرق بينهما. وما ذكره الشوكاني ـ رحمه اللَّه ـ في "نيل الأوطار" من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة، وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، لا يظهر؛ لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد، لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام، فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عن قيد عدم الدخول، والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول كما ترى، والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيّما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا. نعم لقائل أن يقول إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكور وارد على سؤال إبي الصهباء، وأبو الصهباء لم يسأل إلا عن غير المدخول بها، فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة الجواب للسؤال. وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة، كون الكلام واردًا جوابًا لسؤال؛ لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال فلا يتعين كونه لإخراج حكم المفهوم عن المنطوق. وأشار إليه في " مراقي السعود" في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله: أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب للسؤل. وقد قدمنا أن رواية أبي داود المذكورة عن أيوب السختياني عن غير واحد عن طاوس وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون، ومن لم يعرف من هو، لا يصح الحكم بروايته. ولذا قال النووي في "شرح مسلم" ما نصه: وأما هذه الرواية التي لأبي داود فضعيفة، رواها أيوب عن قوم مجهولين، عن طاوس، عن ابن عباس، فلا يحتجّ بها واللَّه أعلم، انتهى منه بلفظه. وقال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصه: الرواة عن طاوس مجاهيل، انتهى منه بلفظه، وضعف رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى للجهل بمن روى عن طاوس فيها، وقال ابن القيم في "زاد المعاد" بعد أن ساق لفظ هذه الرواية ما نصّه: وهذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد، انتهى محل الغرض منه بلفظه فانظره مع ما تقدم. هذا ملخص كلام العلماء في هذه المسألة مع ما فيها من النصوص الشرعية. قال مقيده ــ عفا اللَّه عنه ــ الذي يظهر لنا صوابه في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى، وهو أن الحق فيها دائر بين أمرين: أحدهما: أن يكون المراد بحديث طاوس المذكور كون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد. الثاني: أنه إن كان معناه أنها بلفظ واحد فإن ذلك منسوخ ولم يشتهر العلم بنسخه بين الصحابة إلا في زمان عمر، كما وقع نظيره في نكاح المتعة. أما الشافعي فقد نقل عنه البيهقي في "السنن الكبرى" ما نصه: فإن كان معنى قول ابن عباس إن الثلاث كانت تحسب على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم واحدة، يعني أنه بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فالذي يشبه، واللَّه أعلم، أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شىء فنسخ، فإن قيل: فما دل على ما وصفت ؟ قيل: لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا ثم يخالفه بشىء لم يعلمه، كان من النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه خلاف. قال الشيخ: رواية عكرمة، عن ابن عباس قد مضت في النسخ وفيه تأكيد لصحة هذا التأويل، قال الشافعي: فإن قيل فلعل هذا شىء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر رضي اللَّه عنهم قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر رضي اللَّه عنه في نكاح المتعة، وفي بيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شىء يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه خلاف ما قال ؟ اهـ محل الغرض منه بلفظه. ومعناه واضح في أن الحق دائر بين الأمرين المذكورين؛ لأن قوله فإن كان معنى قول ابن عباس... الخ يدل على أن غير ذلك محتمل، وعلى أن المعنى أنها ثلاث بفم واحد، وقد أقر النبيّ صلى الله عليه وسلم على جعلها واحدة، فالذي يشبه عنده أن يكون منسوخًا، ونحن نقول: إن الظاهر لنا دوران الحق بين الأمرين كما قال الشافعي رحمه اللَّه تعالى، إما أن يكون معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث ليست بلفظ واحد، بل بألفاظ متفرقة بنسق واحد كأنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وهذه الصورة تدخل لغة في معنى طلاق الثلاث دخولاً لا يمكن نفيه، ولا سيّما على الرواية التي أخرجها أبو داود التي جزم ابن القيم بأن إسنادها أصح أسناد، فإن لفظها: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر ؟ قال ابن عباس: بلى ! كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم، فإن هذه الرواية بلفظ طلقها ثلاثًا وهو أظهر في كونها متفرقة بثلاثة ألفاظ، كما جزم به ابن القيم في رده الاستدلال بحديث عائشة الثابت في الصحيح. فقد قال في "زاد المعاد" ما نصه: وأما استدلالكم بحديث عائشة أن رجلاً طلق ثلاثًا فتزوجت، فسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم هل تحلّ للأول؟ قال: "لا، حتى تذوق العسيلة" فهذا مما لا ننازعكم فيه، نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني. ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثًا، وقال ثلاثًا، إلا من فعل وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم. كما يقال قذفه ثلاثًا، وشتمه ثلاثًا، وسلم عليه ثلاثًا، انتهى منه بلفظه. وقد عرفت أن لفظ رواية أبي داود موافق للفظ عائشة الثابت في الصحيح الذي جزم فيه ابن القيم، بأنه لا يدل على أن الثلاث بفم واحد، بل دلالته على أنها بألفاظ متفرقة متعينة في جميع لغات الأمم، ويؤيّده أن البيهقي في " السنن الكبرى " قال ما نصّه: وذهب أبو يحيىا الساجي إلى أن معناه إذا قال للبكر: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. كانت واحدة فغلظ عليهم عمر رضي الله عنه فجعلها ثلاثًا، قال الشيخ ورواية أيوب السختياني تدلّ على صحة هذا التأويل، اهـ منه بلفظه.
|